الأحد، 23 فبراير 2020

الدولة الوطنية النشأة والتطورات

الدولة الوطنية النشأة والتطورات
الدولة الوطنية أو القومية أو القطرية، أو الدولة الأمة. كلها مسميات لشكل التنظيم السياسي الذي تبلور تاريخيا منذ سنة 1648، وهي السنة التي شهدت فيها أوروبا اتفاقية مصيرية بين الدول المتصارعة، أفرزت تقسيما وتخطيطا للحدود والاعتراف بالسيادة،  فتكتلت الشعوب على أسس عرقية ولغوية وجغرافية ضمن كيانات لها هوية مخصوصة، ورغم أن هذا الشكل من الدولة كان سائدا قبل هذه الاتفاقية، كالدولة الفرنسية  أو الهولندية أو الاسبانية...، فإن معاهدة وستفاليا Westphalia كانت الميلاد الحقيقي للدولة الوطنية، حيث السيادة للقانون وللمؤسسات كضامن للهوية الجماعية، ولسيادة الدولة واستقلاليتها. لقد وضعت هذه الاتفاقية نهاية للإمبراطورية الرومانية المقدسة، أي للنظام الإقطاعي الذي سيطر في أوروبا لزمن طويل، كما أنهت حرب الثلاثين عاما بين الطوائف الدينية والتكوينات السياسية المتناحرة، واستبدلت النظام السياسي القائم على هيمنة بعض الدول على أخرى بنظام يتأسس على مبدأ المساواة في السيادة؛ فبقدر ما رسخت معاهدة وستفاليا مبدأ السيادة للدول، بقدر ما دشنت مرحلة جديدة في العلاقات الدولية داخل القارة؛ صارت سلطة الدولة مستقلة عن التأثيرات الخارجية إلى حد كبير، كما أصبحت موحدة وأراضيها معروفة لدى جيرانها، بذلك انتقلت الدول إلى حل مشاكلها الداخلية وبناء دولة تتحقق فيها العدالة الاجتماعية و الرفاه، بعد أن تم حل جزء كبير من المشاكل الخارجية. انقسمت أوروبا سياسيا وعقديا كذلك بين البروتستانتية والكاثوليكية، لكنه الانقسام الذي سيقلص دور الكنيسة ويضعف سلطتها لاحقا، وصولا إلى نزع ممتلكاتها، بل إلى معاداة الدين جملة وتفصيلا كما شهدت ذلك أزمنة التنوير الأوروبية. أصبحت إذن الشرعية السياسية للدول مستمدة من تمثيلها أمة أو قومية مستقلة ذات سيادة، إنها الكيان الجيوسياسي وأيضا الكيان الإثني الثقافي، حيث يتحقق التوافق بين الجغرافي والسياسي والعرقي الثقافي، لتتفرد الدولة الوطنية أو الدولة الأمة أو القومية بقدرتها على تحقيق تماثل وتطابق الشعب مع الكيان السياسي، في هذه الدولة بدأت عملية إعادة الاعتبار للشعوب، هذه الأخيرة تتحدد كساكنة وكمجموعة عرقية وثقافية وفي الآن ذاته كقوة سياسية وازنة داخل الدولة، فكفت الأنظمة الحاكمة على اختلاف أشكالها عن النظر إلى الناس كرعايا، كما أن الناس كفوا عن النظر إلى السلطة على أنها مطلقة أو مقدسة. إن التطورات التي شهدتها أوروبا بعد هذه المعاهدة، على المستوى السياسي تنظيرا  وتطبيقا، هي التي أفرزت ما أفرزت من تصورات حديثة للدولة الديمقراطية المدنية.
   تراوح التنظير لقيام الدولة الحديثة بين الأصل الأخلاقي العضوي كما عند هيجل و الهجيليين، والأصل الطبيعي وحالة الطبيعة كما عند الكثير من فلاسفة العقد الاجتماعي، وبين أسس الهيمنة كما تشبثت بذلك الماركسية؛ فاعتبرت الدولة ظاهرة  قانونية تجسد ما هو سياسي حينا، و نظاما للهيمنة أو آلة تخترق الثقافي وتنفذ إلى أعماقه حينا آخر، مما يدل على استمرارية نقد الدولة الحديثة، ضمن حركة فكرية نشطة ودائمة تسعى إلى تحقيق كمال الدولة نظريا. ولعل كتابات هانس كلسن Hans Kelsen ، التي يعتبر فيها أن التنظير السياسي جزء أصيل من الآلة الإيديولوجية للدولة[1] ، دليل على نقد النظرية السياسية للدولة الحديثة، بل نجد إعلان يورغن هابرماس لما بعد الدولة الأمة في جوهره نقدا للأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة؛ حيث يميز بين الأمة العرقية الاجتماعية والأمة الأخلاقية السياسية، أي التقابل بين المكون العرقي للدولة الحديثة والمكون السياسي الإجرائي؛ حيث تتماها الدولة مع الأمة في المكون الأول، وتتطابق في المكون الثاني مع مبدأ المواطنة الشاملة، من هنا يتولد الانفصام الذي تعيشه الدولة الليبرالية الحديثة، التي يمكن اعتبارها النتيجة غير المباشرة لمعاهدة 1648، إذ انتقلت الدولة بموجبها من كونها جابية للضرائب، إلى دولة إقليمية ذات سيادة وصولا إلى تشَكلها كدولة ديمقراطية، هذا بالذات ما ولد التفكير في حقيقة العلاقة بين الهوية القومية للدولة وهويتها الديمقراطية، وفي ماهية الترابط بين المنظومة الديمقراطية ونموذج الدولة الأمة. افرز هذا التفكير في العلاقة بين الهوية القومية والدولة الليبرالية الحديثة جملة من المواقف المتباينة، أولها اتجاه تشبث بمبدأ القومية و بمناهضة العولمة دفاعا عن حصن الهوية الخصوصية للأمة، وعن فكرة المواطنة الجمهورية بوصفها التجسيد الوحيد للديمقراطية، والتعبير عن الاختيار الجماعي المشترك، ويعتبر الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبري Régis Debray من اكبر المدافعين على الجمهورية بحسبانها التجسيد الأوحد الممكن لقيم الليبرالية. في تمايز عن هذا الطرح،  وقف الاتجاه الثاني على الخلل الذي شاب التصور الحديث للنظام الديمقراطي، المتمثل في طمس الهويات والثقافات المخصوصة، كما دافع عن مبدأ تحقق حيادية الدولة بالتعويل على قدرتها البيروقراطية، لإدارة الاختلافات القيمية ضمن بنيتها الإجرائية، ومن ثمة استبدال الحقوق الجماعية والثقافية بالحقوق السياسية، دون نفي الفضاءات الثقافية الخصوصية باسم الكيان القومي، نجد هذا الموقف عند الفيلسوف الكندي شارلز تايلور Charles Taylor ، وإلى حد ما لدى الأمريكي جون رولز John Rawls. أما الاتجاه الثالث فيعلن نهاية الدولة القومية، باعتبارها مرحلة تاريخية عابرة، شكلت عائقا أمام الديمقراطية الحقة، بما أنها قائمة على فكرة السيادة التي تفضي ضرورة إلى التسلط والهيمنة، وما يلزم ذلك من نفي للاختلاف باسم مبدأ تعاقدي وهمي. وباختفاء الدولة القومية يتشكل نظام الإمبراطورية كفضاء منفتح لا مركز له ولا هامش مما يزيد من إمكانية تحرر الإنسان، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الايطالي انطونيو نغري Antonio Negri  والأمريكي مايكل هاردت  Michael Hardt.
   ليست العلاقة ضرورية بين القومية والديمقراطية في تصور هابرماس Habermas ، رغم أن العامل القومي شكل تاريخيا دفعة قوية مهدت للنظام التعاقدي الديمقراطي، لكن معيار الديمقراطية ليس تغلغلها في هوية قومية، وإنما قيامها على أساس تعاقد حر بين أفراد ينظمون حياتهم الجماعية، بناء على قواعد تنظيمية إجرائية تضمن لهم العدالة. بل إن الأزمنة المعاصرة تتجه نحو مبدأ المواطنة الدستورية الملائمة لفكرة الشراكة الكونية العابرة للحدود السياسية والوطنية، سواء عبر الفضاءات المندمجة كالاتحاد الأوروبي، أو المجالات التكاملية الدولية التي تحتاج إلى أخلاقيات الضيافة الإنسانية المفتوحة؛ لأن الأساس المعياري للديمقراطية حسب هابرماس هو الفعل التواصلي ، أي النشاط الذي تحكمه فاعلية حوارية اجتماعية تتخذ شكل عقلنة مفتوحة وأخلاقيات النقاش. هذا النموذج الهابرماسي مختلف عن التصور الليبرالي والجمهوري، رغم أن الفيلسوف الألماني يحافظ على النموذج التعاقدي الليبرالي ويعيد بناءه فلسفيا من خلال نظريته في التواصل، ويرى في نموذجه هذا القدرة على استيعاب الاختلافات والتعددية الثقافية والاجتماعية، دون فقدان الإجرائية والفاعلية التي تفرض ذاتها كلما فكرنا في الدولة عموما وفي الدولة الوطنية أو الحديثة خصوصا. فهل يمكن فعلا للدولة الليبرالية احتواء الصراعات الناتجة عن تمايز وتغاير الهويات؟ وهل يمكن فعلا التعويل على أخلاقيات النقاش والحوار والتواصل لتحقيق الانسجام بين المكونات المختلفة داخل الدولة الحديثة؟ أم أن الأمر مجرد تصور طوباوي لا سبيل إلى تحقيقه في الواقع؟ و هل الديمقراطية الكونية ممكنة ؟  
   تكشف هذه الأسئلة و مثيلاتها عن صعوبة تحديد الدولة الحديثة وتعريف الدولة الأمة أو الوطنية، تعريفا جامعا مانعا يحولها إلى الدولة النموذجية والمثال الذي ينبغي بناؤه أو استنساخه، فرغم التعريفات المتنوعة و التلوينات المصطلحية التي طرأت على مفهوم الدولة عبر تاريخه، يظل قائما على مضمون ثابت لا يتغير رغم تغير شكله، يجد هذا المضمون أفضل تعبيراته في تحديد السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر M. Weber، الذي وضح المكونات الجوهرية لكل تنظيم يسمى دولة بغض النظر عن شكله أو نوع نظام حكمه، والدولة الحديثة في تصوره شكل خاص من فئة التجمعات السياسية الأكثر عمومية، يمكن تعيين آليات اشتغالها فيما يلي: احتكار العنف، الأراضي والحدود، السيادة، الدستورية، لا تشخيصية القوة، البيروقراطية العامة، السلطة والشرعية، المواطنة[2]. تظل هذه الآليات جوهرية في كل كيان سياسي يسمى دولة، رغم النقد الذي تعرض له تصور فيبر لاحقا، إذ لا يستقيم تعريف الدولة الحديثة أو الوطنية إلا باستحضار أكثر من آلية من هذه الآلية، إن تم التغاضي عن الأخرى أو تحقيق نقدها الجذري، بل يعود بعضها بقوة أكبر حين يتناول الفكر الدولة الوطنية بالتنظير؛ فتؤدي الأراضي والحدود ضرورة إلى السيادة، وهما معا يصلان قسرا إلى المواطنة والهوية الجماعية، هذه الأخيرة تختزل بشكل أو بآخر مفهوم الدولة الحديثة في صيغتها الوطنية أو القومية، يتضح هذا الاختزال في تعريف تلك الهوية على النحو الموالي: " الهوية الوطنية في معناها الحديث الأكثر تميزا هي الهوية المستمدة من الانتماء إلى شعب سمته الأساسية كونه أمة ... ومن ثمة ينظر إلى الساكنة على أنها كل متجانس، وهذا مبدأ أساسي في كل القوميات."، تربط المنظرة السياسية المعاصرة Liah Greenfield[3]  في تعريفها هذا بين الوطنية والقومية، لكنها تكشف في الآن ذاته عن حقيقة الدولة الحديثة والمعاصرة، فهي إذ تناقش طبيعة القومية تستدعي قاعدة أساسية وهي السيادة، التي ترتد إلى فكرة وجود سلطة نهائية ومطلقة في الجماعة السياسية، الفكرة التي وضع أسسها النظرية الفيلسوف الفرنسي جون بودان Jean Bodin 1530- 1596 ، والذين جاؤوا بعده للتفكير في أسس الدولة الحديثة والتنظير لها. في السيادة تتكشف علاقة الشعب بالسلطة، و علاقة هذه الأخيرة بالقانون وبالمجتمع الدولي، هنا مرة أخرى يفرض البعد الوطني القومي نفسه بقوة؛ فرغم أن ميلاد الدولة الحديثة تاريخيا كان خلال القرن الثامن عشر، إلا أن الحركية التراكمية للتاريخ تعود إلى قرنين سابقين، وتدفع نحو مجاوزة هذا النموذج لما يطرحه من إحراجات ومفارقات، كما تستدعي القراءات النقدية التي قام بها السوسيولوجي البريطاني أنطوني غدنز Anthony Giddens ، حيث بين في كتابه " الدولة الوطنية والعنف" العلاقة بين تطور الرأسمالية و صناعة الحرب، كسياق قاد الدولة الوطنية في الغرب إلى إنشاء وتطوير الجانب الصناعي والعسكري، ذلك ما جعل الدول الوطنية مجرد جزء داخل نسق شمولي، هو النظام العالمي المتمثل في فرض السيادة والرأسمالية والنزعة الصناعية و نسقية الدولة، وهو الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى نزعة كليانية مبنية على المراقبة والعنف، كما تغيرت دلالات جملة من المفاهيم السياسية في ظل هذه التحولات النظرية والواقعية للدولة؛ ومفهوم النخبة من بين تلك التي تغيرت دلالتها في نظر غدنز، إذ أصبح يشير إلى الفئات التي تتصدر أي نوع من أنواع النشاط الاجتماعي، مما جعلها محصورة ضمن مجال نشاطها أو تواجدها، أي أنها لا تتولى ممارسة السلطة بل توكلها إلى نخبة أخرى تمكنها من تحقيق مصالحها، وهذه هي نخبة الدولة التي تمارس السلطة بانقسامها إلى نخب فرعية ) الحكومة، الإدارة، الجيش، البرلمان، هيأة القضاء...(. " يفترض تعريف الدولة جهازا إداريا و تراتبية وظيفية متخصصة في المهام الإدارية بما في ذلك  الفنون الحربية"[4]، غير أن هذا السوسيولوجي لا يقف عند حدود تعريف الدولة، بل ذهب إلى التمييز في مفهوم الأمة nation  بين مفهومي النزعة القومية nationalism  و الدولة الأمة nation state ؛ تشير هذه الأخيرة إلى جماعة توجد ضمن حدود إقليمية واضحة  وتخضع لإدارة موحدة، بينما الأولى في تصور غدنز، مجرد  تعبير سيكولوجي في المقام الأول عن انتماء الفرد إلى الرموز و المعتقدات التي تؤكد الروابط بين أعضاء نظام سياسي، أو بين أولئك الذين يطمحون إلى تشكيل نظام سياسي على حد تعبيره .
يُطلعنا النقاش حول الدولة الوطنية على تداخل بين مفاهيم عدة أولا، و على ترابط الدولة الوطنية بمفهوم الشعب ثانيا، و على ارتباطها بمفهوم الدولة الحديثة أخيرا. تتداخل مفاهيم الوطنية و القومية و الأمة في تعريف الدولة الحديثة، مما يكشف الوظيفية الجوهرية لمفهوم الشعب، و في نفس الوقت يفرض استحضار مفهومي النخبة و الإدارة، باعتبارهما متعالقين مع هذا المفهوم، كما أن كل دولة حديثة لا يمكن الإقرار إلا بكونها وطنية و قومية و تتخذ شكل أمة، فلابد إذن من إعادة النظر في بداية تشكل الدولة الوطنية بما هي دولة حديثة، هذه الأخيرة التي تصعد بأصلها إلى ما بين القرنين العاشر و الثالث عشر، ذلك ما ذهب إليه جوزيف شتراير  Joseph Strayer 1904- 1987 في كتابه " الأصول الوسيطة للدولة الحديثة"، يقول في هذا السياق: " وهكذا فخلال القرون الممتدة من عام 1000 إلى العام 1300 ، شهدنا ظهور بعض العناصر الأساسية للدولة الحديثة. إن كيانات سياسية، قد أنشئ كل منها على قواعد جغرافية و عرقية، حصلت على شرعيتها ببقائها حية خلال عدة أجيال."[5] ، لقد عرفت أوروبا العديد من التراكمات منذ العصور الوسطى مهدت لقيام الدولة الحديثة، حيث كان للهويات الجغرافية و العرقية دور كبير في تشكل الدول، كما شهدت هذه العصور ميلاد و تبلور الإدارة التي بدأت تحتل مكانة بارزة داخل التنظيم السياسي؛ فمنذ الأنظمة الإقطاعية و الاكليروسية في أوروبا، بدأت الحكومات تعتمد على الموظفين في إدارة الأملاك و الإدارات المحلية و في إدارة العدل، كما عملت على تنسيق عمل المكلفين بمهمات داخل الدولة، من قضاة و جباة و أساقفة و بارونات الذين كان الحفاظ على النظام الداخلي و الأمن الخارجي من مسؤولياتهم، لتتأسس بذلك تراتبية صارمة و هرمية منظمة تنظيما محكما، جعلت من الدولة كيان قويا و أكثر تماسكا و فعالية مع مرور الوقت، فظهرت إلى الوجود مؤسسات قضائية و مالية دائمة، و هيئات من الإداريين المحترفين الذين تحولوا مع التحولات التاريخية، التي شهدتها أوروبا إلى قوة ضاغطة و مسيطرة على دواليب الحكم. أصبحت الإدارة عنصرا أساسيا من عناصر البنية الدولتية خلال القرنين الثاني عشر و الثالث عشر، لكنها شهدت تطورا سريعا في انجلترا و فرنسا و اسبانيا خاصة[6]، أما في ألمانيا فقد أبطأ تطورها حكم الإمارات المتمسك بالتقليد أكثر من تمسكه بالتجديد، كما أن إيطاليا و رغم ازدهارها خلال القرن الرابع عشر فإنها ظلت مجرد حواضر- دول، و لم يكن بالإمكان تطبيق تجربتها على نطاق أوسع، مثلما فعلت الممالك الكبيرة، و إذا ظل تأثير الممالك الاسبانية ضعيفا على مؤسسات باقي أوروبا، إلى حدود القرن الخامس عشر بسبب انشغالها بإسقاط الحكم العربي الإسلامي، فإن التجربة الانجليزية و الفرنسية كانتا أكثر تأثيرا على الدولة الأوروبية، فصارت الأفكار السياسية مؤسسات هذين البلدين نموذجا للمحاكاة، خاصة مع نهاية القرن الثالث عشر و بداية القرن الرابع عشر، و هي الفترة الذي ظهر فيها مفهوم السيادة، و بدأ انتقل الولاء من الكنيسة و العائلة و الجماعة إلى الدولة، في انجلترا مثلا تطورت الإدارة و اكتسب بعضها فعالية و شعبية، كما هو حال المحكمة الملكية بداية من سنة 1215 للميلاد، حيث تمسك البارونات بضرورة إقامة محكمة مركزية دائمة، و على نفس الشاكلة تطورت الدواوين و تسارع معها تطور الدوائر العليا للسلطة، أصبحت المؤسسات الانجليزية قائمة بقوة و صارت الحكومة قادرة على العمل دون تدخل كبير من العرش، فانجلترا تملك منذ سنة 1200 مؤسسات دائمة يسيرها إداريون محترفون[7]، و تحولت التنظيمات الإدارية إلى وسيلة لتقوية السلطة، التي أصبحت مخولة لتنظيم العدالة و فرض الضرائب، كانت قرارات الملك و مجلسه ملزمة مثل قرارات الأباطرة الرومان. في فرنسا كان نموذج الدولة أكثر تقدما، فقد كان تقسيم الدولة إلى مقاطعات عوض الإمارات إجراء فعالا، لذلك اتبعت الدول الأوروبية في نهاية العصر الوسيط و بداية العصر الحديث النموذج الفرنسي، الذي اضطر الملوك مع مر الزمن إلى إنشاء بيروقراطية لحكم الإدارة الإقليمية، و هي البيروقراطية التي شهدت نهوضا سريعا خلال تكون الدولة الفرنسية. غير أن المهم من هذه الحركة التطورية هو تحول الولاء إلى الدولة، هذه الأخيرة تكون قوية كلما أخلص لها الرعايا، فكان الولاء تجسيدا مسبقا للوطنية، و ازدهرت الدولة الأوروبية بمؤسساتها التي أصبحت أكثر تلاحما و ديمومة، خلافا للإمبراطوريات الآسيوية التي امتدت من تركيا إلى الصين، و اليابان مرورا بفارس التي اتجهت نحو الضعف و التفكك[8]. في القرن التاسع عشر أصبحت الدول أكثر تنظيما من السابق، و طفت على السطح الصلة الوثيقة بين الدولة و الأمة، كما احتلت القومية مكانة مركزية في تشكل الدولة. كانت اتفاقية وستفاليا تتويجا لمسار بناء شهدته أوروبا منذ القرن الثاني عشر و الثالث عشر، و مع تلك التحولات أصبح للشعب مدلول عرقي و جغرافي، و هو المدلول الذي ظل سائدا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى مع معاهدة سايكس بيكو، التي قسمت الإمبراطورية العثمانية انطلاقا من نفس المحددات العرقية و الجغرافية، و في بعض الأحيان محددات ثقافية و تاريخية.
   لا بد من الوقوف بعمق على العلاقة الممكنة بين الدولة الوطنية و الشرعية، و على الكيفية التي تحولت بها هذه الأخيرة إلى يد الأمة، التي تتحدد أساسا في الفكر الغربي عامة و الأوروبي خاصة، بالأبعاد العرقية و الجغرافية الثقافية؛ أمة الفرك مختلفة عن الأمة الجرمانية أو اللاتينية أو السلافية ...، و هو اختلاف لا يقتصر على العرق فقط، بل يطال اللغة و المذهب الديني، و ليست خافية التقسيمات التي شهدتها أوروبا بناء على المذهب، و الحروب الطاحنة التي اجتاحت القارة لنفس السبب، و ينضاف العامل الجغرافي ليقسم الأمة الواحدة إلى كيانات متمايزة؛ هناك مثلا سلاف غربيون و شرقيون   و جنوبيون، وقس على ذلك باقي الأمم، ساعدت هذه التمايزات على ولادة مفهوم الجنسية، لتنتقل معه الشرعية من الحاكم إلى الأمة بما أنها التعبير الأوضح عن انتماء الفرد إلى الجماعة السياسية، و عن خصوصيات الشعوب و هوياتها المتباينة، كما مَكْن المفهوم من تجاوز المُحدد الديني في الانتماء إلى الدولة، لليهودي و المسيحي و المسلم أو اللاديني نفس الحقوق و الواجبات، مادام تحديد الجنسية رهينا بالمواطنة التي تحددها القوانين و المواثيق و الدساتير، و بالتالي ارتدت المواطنة إلى محدد جغرافي لغوي، تميزت بفضله الهويات الوطنية متجاوزة كل الأنماط الحكم الفردية أو الأرستقراطية أو القبيلية أو الدينية، كما تمت الاستعاضة بالأنساق الدستورية عن الحكومات العسكرية، للحد من تغلل القوة في الدولة و قصر الشرعية على الأمة بما ملها من هوية وطنية، من هنا تحددت السيادة الوطنية بناء على هذه الهوية، التي ارتبطت في معظم الأحوال بأحداث تاريخية مخصوصة، تقاطعت الدولة مع المحددات الوطنية؛ الثقافة و العادات و الهوية التاريخية...، لقد حدث تطور لمفهوم الوطنية في أوروبا الغربية حتى في ظل حكم الملوك، في حين تأخر في دول أوروبا الشرقية و الشرق عامة، حيث  حكمت الإمبراطوريات شعوبا مختلفة، لم تستطع تطوير و التعبير عن هوياتها الوطنية بعد تفكك الإمبراطوريات، ذلك هو شأن الحكومات الإسلامية التي تأسست على عناصر لاهوتية منعت من انبجاس الحس الوطني، أما أجزاء أخرى من العالم فإما إنها لم تمتلك بنية الدولة، أو لم تشهد حكوماتها استقرارا لمدة طويلة، أو لم تعرف تطورا للمجتمع المدني، وفي مرحلة لاحقة ابْتلعت تلك الشعوب و الدول من طرف الإمبراطوريات الكولنيالية الأوروبية[9]، التي وضعت الحدود بينها مما أظهر إلى الوجود الأمم الحالية، التي بدأت في التشكل منذ نهاية الحرب العالمية الأولى و ما بعدها. لكن الدولة الأمة بوصفها دولة حديثة، كانت مضطرة لاحتواء الهويات المختلفة لغوية كانت أو دينية أو غيرها، مع أن أجزاء من العالم شهدت انقسام الدول على نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، كما حدث في الهند التي تجزأت لأسباب دينية؛ جزء يحوي الهندوس و السيخ و آخر يضم المسلمين، بل ما زال النزاع قائما داخل الدول و المطالبة بالانفصال سارية المفعول إلى يومنا هذا، في اسبانيا كما في بريطانيا و فرنسا، مما اضطر الدولة الحديثة إلى تقبل و احتواء الأقليات و  تعدد الهويات حفاظا على تماسكها، روسيا الحالية تضم عشرات الجمهوريات الإثنية، أما بريطانيا فتضم انجلترا و الويلز و اسكتلندا و ايرلندا الشمالية، وهي عرقيات تعتبر لنفسها هويتها الخاصة المستقلة، بل كان المحدد العرقي و الديني وراء أكثر الحروب الأهلية دموية خلال القرن الماضي و إلى اليوم؛ بداية بالهوتو و التوتسي في رواندا، مرورا بالبسنة و الهرسك، وصولا إلى نمور التاميل في سيريلانكا ، بل نجد في الأزمة البورمية نموذجا لعجز الدولة الحديثة عن دمج الأقليات الدينية و العرقية، حيث تواجه الحكومة المركزية  الأقلية المسيحية من الكارين و المسلمة من الروهينجا، من هنا يعاود سؤال الهوية و الوطنية طرح نفسه بقوة، إذ توجد  الكثير من الدول الإفريقية مثلا التي تضم تنوعا عرقيا ولغويا كبيرا، اضطرت لتبني لغة الدول التي احتلتها كلغة رسمية في الإدارة و التعليم، فانحصرت الوطنية لديها في البرلمان كمؤسسة تعبر عن تجاوز الاختلاف العرقي و اللغوي و الثقافي، ذلك شأن بعض الأخرى التي استنسخت التجربة البرلمانية الأوروبية، لكنها شكلت برلماناتها بإرادات نخبوية  مثل تركيا سنة 1876 و إيران سنة 1907 و مصر سنة 1923، كما شهدت ضعف المجتمع المدني، مما أدى إلى إضعاف تلك البرلمانات و استمرار المؤسسات التقليدية في إدارة دواليب الحكم. مع ترسيخ مؤسسة البرلمان أصبح للدستور وظيفة جوهرية في إقامة الدولٌةٌ، فو ضعت دساتير باسم الإيديولوجيات امبريالية أو لاهوتية أو الشيوعية أو فاشية...، في الدول العربية فبدأت تترعرع منذ سنة 1911 حركة تدعو إلى إنشاء دولة واحدة على أساس الهوية الثقافية و التاريخية، الهدف الذي حاول الملك فيصل ابن حسين تحقيقه بإقامة مملكة سوريا العظمى سنة 1920، قبل تفكك الإمبراطورية العثمانية، لكن تقسيم معاهدة سايكس بيكو جعلت من فيصل ملكا على العراق فقط، و أدت إلى محو الحركة القومية العربية و ظهور الدول العربية المستقلة و الخاضعة لحكم الفرد أو الأولغارشية[10].
   اتخذت في هذا السياق قضية الشرعية مسارا جديدا و أصبحت أكثر ارتباطا بالدستور، لتتخذ الحكومات شرعيتها وصفتها الوطنية من هذا الأخير،  كما أنها تعبير عن إرادة الأمة و ممارسة للسلطة تحفظ مصالحها العليا، و تحدد واجبات و حقوق المواطنين بما يضمن تنظيم العلاقات بينهم وفقا للقانون، من هنا تتخذ الحكومة المنتخبة و البرلمان شرعيتهما، حيث الحكم للقانون و المؤسسات. لكن يولد هذا النمط من تسيير الشأن العام إلى تجزيء السلطة و تفتتها، حيث يغدو تعدد الأحزاب  و اختلاف القوى الفاعلة في المجال السياسي، سمة بارزة من سمات الدولة الوطنية الحديثة، التي تحاول احتواء كل مكوناتها الاجتماعية و الثقافية المتباينة، و بالتالي تتحول الممارسة السياسية إلى صراع بين البرامج الانتخابية، و سباق من أجل الأصوات، أي تصبح القوى الفاعلة مهتجسة بإقناع المواطنين، مما يجعل للشعب سلطة حقيقية شريطة استقلال المؤسسات عن التأثيرات الداخلية أو الخارجية، و إلا اختُزلت العملية السياسية في وظيفة أداتية، و في محتويات دعائية لا تتحقق معها الدولة الوطنية الحديثة كما تقدمها التصورات النظرية. لم تعد السلطة في الدولة الوطنية مرتبطة بالأشخاص أو بالفئات،  و إنما صارت متصلة بالمؤسسات و القوانين المصدر الوحيد للشرعية، التي ترتد إلى الإرادة العامة كسلطة حقيقية للشعب داخل الدولة، و عليه لا بد من تداول السلطة وفق القواعد و المبادئ الديمقراطية، بما أن غاياتها النهائية هي العدالة الاجتماعية و تحقيق التقدم و الرفاه لجميع المواطنين، بما يحفظ حقوقهم وكرامتهم، و يؤطر في الآن ذاته واجباتهم إزاء بعضهم البعض من جهة، وبينهم و بين الدولة من جهة أخرى، لذلك يلعب المجتمع المدني دورا حيويا في دولة مماثلة، علما ان تشكله قطع أشواطا طويلة عبر التاريخ، مسايرة لتطور مفهوم المواطنة الذي أصبح أكثر عمومية، إذ أصبح يشمل كل المواطنين البالغين، بغض النظر عن الدين أو اللغة أو العرق أو الجنس، إلا أن العالم المعاصر مليء بالأنظمة السياسية التي تحكم الدول لا على هذه الأسس التي تستمد الشرعية من سلطة الشعب، إذ نجد الأنظمة الكليانية باسم الشيوعية أو القومية أو النزعات الحربية العسكرية، كما نجد أنظمة تنبني على الشرعية التاريخية للسلالات الحاكمة، و الحال أن نماذج الدولة الوطنية الحديثة يبني السلطة على المؤسسات و المجتمع المدني.



Hans Kelsen, General Theory of Law and State, Translated by Anders Wedberg New York: Russell and Russell, 1961 pp. 185-186. [1]
The Modern State, Christopher Pierson, Routledge, Second edition 2004. P 6. [2]
 نفس المرجع، ص، 11 .[3]
 The nation state and violence, Anthony Giddens, University of California Press, 1985. P 61.[4]
 الأصول الوسيطة للدولة الحديثة، جوزيف شتراير، ترجمة محمد عتاني، دار التنوير للطباعة و النشر، الطبعة الأولى 1982،بيروت،ص 36-37[5]
 نفس المرجع، ص 37.[6]
 نفس المرجع،ص 44[7]
 نفس المرجع، ص 104[8]
  Nation State, Anthony Pick,Electronic copy,2011,p 41. [9]
 نفس المرجع، ص 42.[10]  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق