مجزوءة:المعرفة اعداد الاستاذ: رشيد النفينف
مدخل: المعرفة لغة إدراك الشيء على ما هو عليه، وهي ما يشتمل عليه الإنسان من ثقافة وعلوم.كما يشتق اللفظ من الجذر اللغوي"عرف" أي علم الشيء واقر به،والعرف قمة الشيء،كقولهم:"أعراف الريح والسحاب"أي أعاليها.أما في اللسان الفرنسي فيشتق لفظconnaissance من الجذر اللاتيني cognescère بمعنى عرف وميز وكشف ووضح حقيقة الشيء. وتقال المعرفة عموما للإدراك تصورا كان اوتصديقا، أي أنها تحصل فيما يدرك إثره دون أن تدرك ذاته، بمعنى أن المعرفة إدراك مسبوق بعدم أو بجهل، وتجدر الإشارة إلى أن المعرفة ضروب وأنواع مختلفة؛ فالمعرفة الباطنية مثلا هي الحدس الباطن الذي يظهر الإنسان على وجوده مباشرة بشكل لا يحتمل الشك، وهي من صميم جوهر النفس،وتقابلها المعرفة المكتسبة، وتعني معرفة النفس للعالم الخارجي، حيث يظهرنا الحدس المباشر على الوقائع المادية لينفذ إليها العقل.أما المعرفة الحضورية أو الكشفية أو الاشراقية، فهي معرفة الصوفية حيث الوصول إلى الحقائق دون كسب أو استدلال أو برهان،وبدون وسائط ومقدمات.في حين أن المعرفة العامية هي التي تكون لدى الناس والمرتبطة بحياتهم اليومية العادية؛وهي معرفة سطحية تميل إلى تفسيرات أسطورية ودينية للطبيعة والإنسان، خلافا للمعرفة العلمية التي تفسر وتفكر في الظواهر بالاعتماد على العقل والتجربة، إنها حصيلة أو نتيجة مكتسبة ومستقرة في شكل أفكار وتصورات وأحكام وأراء وقواعد ونظريات...،وهي فعل أو فعالية وإنتاج تتضافر فيه عمليات عقلية ونفسية واجتماعية. المعرفة إذن عملية يدرك بواسطتها العقل موضوعا ما، وهي بذلك انتقال من الذات المدركة إلى الموضوع قصد فهمه وتفسيره، وبالتالي فإنها تتطلب خروجا عن الذات من اجل بناء وتوجيه النظر والعمل، بما أنها نشاط فكري ونظري يسعى من ورائه الإنسان إلى الوعي بذاته وبمعطيات العالم الخارجي.ومن ثمة تكون المعرفة مكونا أساسيا من مكونات الوجود الإنساني، والتي تمنح الشخص قيمة معرفية هي أساس قيمته الأخلاقية، كما سلف الذكر.من هنا نتساءل عن القيمة التي تمنحها المعرفة العلمية خاصة، ليس للشخص فحسب، وإنما للإنسانية قاطبة.أليس تاريخ الإنسانية تاريخ انجازاتها العلمية والتقنية؟وماهي حدود وإمكانيات هذه المعرفة؟ وكيف يتم بناؤها وإنشاؤها؟وماهي مصادرها، نظرية أم تجريبية؟ وما هو موضوعها ؟ أليس ضروريا لفهم الطبيعة فهم الإنسان الذي يدركها ويفكر فيها؟ ألا يحتاج هذا التفكير إلى ترسانة منهجية وعدة تقنية؟ ألم يكن التليسكوب وراء انجاز علمي حاسم؟لكن هل تنفع الإنسان هذه العدة في فهم ذاته، كما أسعفته في فهم الطبيعة؟
النظرية والتجربة
المحاور والمفاهيم
|
الإشكاليات
|
المواقف والأطروحات
|
النظرية: يحيل لفظ "نظرية "على الإنشاءات العقلية المجردة، والتأملات النسقية التي تنظم معارف الإنسان، أي إن النظرية نسق فرضي استنتاجي، لايحتاج العالم فيه إلى إجراء التجربة أو العودة إلى الوقائع المادية، إنها بناءات ذهنية تحكم وتوجه العقل في عملية تفكيره
التجربة: للفظ التجربة الذي يرتبط بالواقع المادي الحسي الخارجي، إلا انه من اللازم التمييز بين التجربة اليومية، أي الخبرات التي يكتسبها الناس في خضم حياتهم اليومية، وما يعنيه ذلك من القدرة على الإتقان،والتجربة بمعناها العلمي حيث تعني إعادة إنشاء الظاهرة قيد الدراسة مخبريا،من اجل ملاحظتها وصياغتها صياغات رياضية، تعبر عن القوانين المتحكمة في هذه الظاهرة أو تلك
المحور الأول: التجربة والتجريب
العقلانية العلمية
معايير علمية النظرية
|
:إذا كان العقل حسب أقطاب التيار التجريبي صفحة بيضاء أمثال جون لوك ودافيد هيوم، فان الإنسان لا يحصل معرفة إلا من خلال التجربة.وإذا كانت هذه الأخيرة بما هي تجريب ، أي إعادة بناء الظاهرة في المختبر وإخضاعها لمنهج استقرائي يتتبع الجزئيات ليصوغ قانونا للظاهرة موضوع البحث،فإنها لاتنفصل بشكل كلي ومطلق عن المستويات النظرية،من تفكير واستدلال وحدس وذاكرة وخيال.وعليه لزم التساؤل عن الخصائص والشروط التي تجعل من تجربة ما علمية،فما طبيعة العلاقة بين التجربة العلمية و العقل؟ هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟ وهل يمكن للخيال كملكة إنسانية إلى جانب العقل،إن يساهم في ممارسة التجربة العلمية؟
اذاكان العقل أساسا نظريا لكل تجريب،فانه مع ذلك لايتجاوز كونه أداة تنتج الأفكار،تتخذ في المجال العلمي صيغة فرضيات مشكوك في أمرها،لاتصبح قاعدة أو قانونا إلا بعد فحصها تجريبيا.لكن كيف ينتج العقل تلك الأفكار؟ هل بالاعتماد على ذاته كبنية منغلقة،تقطع العلاقة مع الحسي والتجريبي؟واذاكانت العلاقة بين النظرية والتجربة جدلية كما سبق توضيح ذلك،فيلزم إن يكون العقل متأثرا بالتجريب،وتكون النظرية متداخلة مع التجربة،وعليه لايمكن للعقل أن يكون منغلقا على ذاته منكرا لما تلعبه الحواس من دور في المعرفة.فبأي معنى يكون العقل منغلقا؟وكيف يصير بنية منفتحة؟هل يستطيع العقل بمطابقة ذاته ومبادئه بلوغ معرفة علمية؟ألن تنفصل النظرية حينها عن التجربة؟
تطرح النظرية إشكالية التحقق من صدقها باعتبارها تعبيرا وتجسيدا للمعرفة العلمية،ذلك أنها لاتنفصل عن التجربة انفصالا كليا،وان كانت في بعض العلوم كالرياضيات بناءات عقلية محضة.وإذا كان رواد المنهج التجريبي قد وثقوا في التجربة وفي إعادة بناء الظاهرة كمعيار لصدق النظرية العلمية،فان أقطاب المنهج العقلاني الكلاسيكي جعلوا من العقل بنية مغلقة،هي المقياس الأول والأخير للتحقق من صدق النظريات،ومع أن العقلانية المعاصرة كانت منفتحة على الإمكانيات المتعددة التي قد يتيحها العقل،ولم يتقيدوا بخطوات منهجية محددة قبليا،كما تقبلت التجربة كوسيلة،ليست المنطلق والمبدأ الذي تقوم عليه المعرفة العلمية.فإنها احتفظت للعقل بالأولوية على الحواس وللنظرية على التجربة،وللاستنباط على الاستقراء.فهل معيار صدق النظرية وعلميتها،هو مطابقتها للواقع التجريبي؟أم هو مطابقتها للمبادئ العقلية المنطقية؟أليس اتخاذ التجربة معيارا لعلمية النظرية،في حاجة إلى تنويع التجارب والاختبارات؟وهل توجد تجربة حاسمة تجعل من النظرية حقيقة مطلقة ويقينا نهائيا؟وبأي معنى تكون قابلية النظرية للتكذيب معيارا لعلميتها؟
|
شرح العالم الفيزيولوجي الفرنسي كلود برنارC.Bernard 1813-1878 ببساطة ووضوح أساس المنهج التجريبي وخصائصه في كتابه المعروف "مقدمة لدراسة الطب التجريبي"،حيث أكد أن جميع المبادرات والممارسات التجريبية ترجع إلى الفكرة، ويتحقق من صدق النتائج أو عدمه بواسطة التجربة.إن الفرضية هي نقطة الانطلاق الضرورية لكل استدلال تجريبي، وبدونها لايمكن القيام بأي بحث، أو الحصول على أية معرفة؛ لان غياب الفرضية يؤدي إلى مراكمة الملاحظات ليس إلا،فإذا قمنا بالتجربة بدون فكرة موجهة سبق تصورها أدى بنا ذلك إلى غياهب الجهل، وبالمثل إذا قمنا باقتناص ملاحظات انطلاقا من فكرة مسبقة نريد تبريرها،أدى بنا ذلك إلى الأخذ بتصورات فكرنا على أنها واقع حقيقي،ذلك أن الأفكار التجريبية ليست فطرية، ولاتنبثق من الذهن بشكل عفوي،بل لابد لها من حافز خارجي،فلكي تكون لدينا فكرة أولية عن الأشياء يجب أن نلاحظ الظاهرة.والفكر البشري لا يمكنه تصور وجود أشياء بدون أسباب؛ ولذلك كانت رؤية الظاهرة توقد فينا دوما فكرة السببية، وكانت المعرفة البشرية كلها محصورة في السير القسري من النتائج إلى الأسباب.فمن ملاحظة ظاهرة ما تتكون لدينا فكرة عن علتها، ثم تدخل الفرضية في عمليات استدلالية تنتهي بنا إلى القيام بتجارب نتحقق بواسطتها من تلك الفرضيات.والشرطان الأساسيان في كل فرضية علمية هما:أن يكون لها سند في الواقع،أي أن تكون الظواهر توحي بها، أولا، وان تكون قابلة للتحقق منها بالتجربة ثانيا. لذلك فالفرضية التي لاتستلهم من التجربة مجرد خيال، إن الفكرة حسب كلود برنارد بذرة،والمنهج التجريبي هو التربة التي تمدها بالشروط التي تجعلها خصبة لتعطي أحسن النتائج.يبدو أن العلم التجريبي هو قيادة التجريب للأفكار التي تنبثق من الذهن والمضي بها قدما، نحو تفسير الطبيعة والبحث عن الحقيقة، كما يجب أن تكون الأفكار حرة لاتقيدها معتقدات دينية أو فلسفية، ولا بنظرية علمية،يجب أن يكون العالم حرا شجاعا يفصح عن أفكاره دون خوف من عدم توافق الفرضيات المقترحة مع النظريات القائمة،ولامن تناقضها مع المعتقدات السائدة.الفكرة إذن قوة محركة للاستدلال،في العلم كما في غيره من مجالات المعرفة،ويجب في كل الحلات إخضاعها لمقياس ما،وهذا المقياس في المجال العلمي هو التجريب والتجربة؛انه مقياس ضروري وأكيد،ويجب تطبيقه على أفكارنا وأفكار غيرنا.يقول كلود بيرنارد في هذا السياق:"يجب أن نعدل النظرية لتتوافق مع الطبيعة،لا أن نعدل الطبيعة لتتوافق مع النظرية." والى جانب أهمية الفرضية في المنهج التجريبي،يوضح هذا العالم التداخل بين الاستقراء والاستنتاج في هذا المنهج؛والقول بأن الأول خاص بالعلوم التجريبية والثاني بالعلوم الرياضية،أمر ينطوي على قدر كبير من التعسف.ذلك انه إذا كان ذهن الباحث المجرب ينطلق عادة من الملاحظات الجزئية ليصل إلى القضايا العامة،أي القوانين، فانه يتحرك أيضا،وبالضرورة انطلاقا من تلك القضايا العامة ليصل إلى الحوادث الجزئية التي يستنتجها منطقيا من هذه الأخيرة. ولكن بما أن يقين هذه القضايا العامة ليس يقينا مطلقا،فان ذلك الاستنتاج يبقى دوما استنتاجا مؤقتا لأنه يظل في حاجة إلى التحقيق التجريبي.لا تكتسب النظرية شرعيتها ومصداقيتها إلا إذا طابقت الواقع الموضوعي وأكدته التجربة، دون أن تفقد النظرية دورها في عملية المعرفة؛لان الحوادث التجريبية المنفصلة عن الفكر الذي يفحصها ويستنطقها وينظمها،لاتعني شيئا؛ولذلك يظل العقل دوما أساسا تقوم عله عملية التحقق من الفرضيات،انه المعيار الذي يقيم الروابط بين الحوادث وأسبابها، وبالتالي يكشف عن صحة الفرضيات او عدمه، ووسيلته في ذلك مبدأ الحتمية، وهو مبدأ عقلي لا تقوم للمعرفة العلمية قائمة بدونه.لايمكن إذن الاستغناء عن التجريب ولا عن التفكير في بناء المعرفة العلمية،لان الأخير منطلق الاستدلال والأول خلاصته حسب "بيرنارد".فهل هذا الترابط والاتصال بين التجريب والتفكير، إقصاء للجوانب اللاعقلية في عملية التجريب لبلوغ المعرفة؟
في مقابل هذا التصور الذي يزاوج بين النظرية والتجربة، وبين العقل والحواس ، في بناء المعرفة العلمية،أظهرت بعض الاتجاهات الابستيمولوجية المعاصرة، إن هذه المعرفة تحتاج إلى أبعاد لاعقلية، على اعتبار أن التجربة كإعادة بناء الظواهر في حاجة إلى الخيال والى الافتراض، وليس للمبادئ الكلاسيكية كالسببية والحتمية فقط.بل ذهب العالم الرياضي الابستيمولوجي المعاصر "روني توم"Rene Thom 1923_2002 إلى انه لاوجود لمنهج تجريبي قائم بذاته ،وإنما هناك فعالية تجريبية ووقائع تجريبية،أي أن التجربة العلمية لاتكون كذلك إلا اذا توافرت فيها شروط معينة، أهمها القابلية للإعادة والتكرار، واثارت لانتباه إلى ما هو عملي تطبيقي ونظري كذلك،أي إلى ما هو نفعي بسعيها إلى تحقيق حاجيات البشرية، والى ما هو تجريدي بخوضها في الإشكاليات العلمية الراهنة.فإذا كانت التجربة في التصور التجريباني التقليدي تحقق من صدق الفرضية،فان هذا العالم يتساءل عن الأصل الذي تصدر عنه الفرضيات نفسها،في بناء المعرفة العلمية، انه أصل نظري بما تتطلبه الفرضية من أشكال تجريدية،لاتعني بالضرورة العمليات الذهنية الواعية والعقلية الموجهة لعملية التفكير،وإنما المستوى النظري المنفتح على إمكانيات لاعقلية خيالية، والذي يستثمر هذه الإمكانيات من اجل تحقيق علمية الواقعة التجريبية؛وقد كان الخيال حاضرا في نظريات العلماء، ليس العقلانيون منهم فقط، بل التجريبانيون أنفسهم سلموا في السابق بوجود كيانات خيالية كالسببية، التي تسعى التجربة إلى إثباتها أو نفيها؛لان العلاقة بين السبب والنتيجة أمر مسلم به،مما يجعل النظرية مجرد مسلمات قد لاتكون عقلية دائما.إضافة إلى أن التجريب لايستطيع في كل الأحوال الكشف عن أسباب الظاهرة والإحاطة بها؛ذلك أن من التجارب ما يصعب القيام به إن لم نقل يستحيل،ومن ثمة يكون تدخل الخيال ضروريا، لتصير التجربة ليس وفقط إعادة بناء الظواهر المدروسة على المستوى الحسي في المختبر، وإنما إنشاء تلك الظواهر على المستوى الذهني كذلك؛وقد رأينا كيف لجأ غاليي إلى تجارب ذهنية، يتخيل فيها حدوث السقوط في الفراغ،نظرا لاستحالة وجوده مخبريا في ذلك العصر.بل إن التجربة الذهنية حافظت على مكانتها داخل الحقل العلمي رغم التطورات التقنية التي عرفها المجال؛إذ لايوجد أي جهاز آلي يمكننا من الاستغناء عنها.إن ما يصل إليه الرياضي الفرنسي "روني طوم" في النهاية هو الاتصال الوثيق بين التجريب والتفكير،بين النظرية والتجربة، إلا أن التفكير عند هذا العالم غير محدود بمنهج أو خطوات مضبوطة، وذلك ما يجعله منفلتا من كل صرامة منهجية تقيد البحث وتحد من إمكانياته.وبهذا الصدد ينتقد "روني طوم" المنهج التجريبي كما صاغه مؤسسه "فرانسيس بيكون"، الذي حاول إصلاح أساليب التفكير، متجاوزا تصورات العقلانيين والتجريبانيين الوثوقيين،أي الذين لايثقون إلا في التجربة؛فالأولون كانوا كالعناكب التي تبني منزلها من داخلها، والآخرون كانوا كالنمل الذي يجمع زاده من الخارج،في حين أن الفيلسوف والعالم الحقيقي يعمل كالنحلة، التي تجمع الرحيق من الزهور وتصنع منه عسلا صافيا،لذلك لم ينكر الأب الروحي للمنهج التجريبي دور العقل في عملية المعرفة،لكنه جعل من التجربة المعيار الذي يؤكد صدق الفكرة أو العكس، والفكرة التي تسعى التجربة إلى التحقق منها هي السببية،ليكون كل تجريب هو كشف عن أسباب الظاهرة، يقول "بيكون" في هذا السياق:"لا يمكن السيطرة على الطبيعة إلا بالخضوع لها،لا بالثورة ضدها،يجب أن نتعلم كيف نفهم الطبيعة،وكيف نبحث عن نماذج الاشياءوصورها التي توجد فيها،عن خصائص هذه الأشياء،والميادين التي يجب أن تستعمل فيها.إن ذلك هو ما سيمكننا من توقع نتائج أعمالنا، وبالتالي التحكم في الضرورة التي تريد الطبيعة فرضها علينا...والقدرة التي تمكننا من ذلك تنبع من العلم والمعرفة...إن ما يبدو سببا على صعيد التأمل النظري يصبح قاعدة في الميدان العملي".لقد أدرك "روني طوم" خلافا "لبيكون" أن التجريب وان كانت له خطوات دقيقة،فانه عاجز عن الوقوف على كل أسباب الظاهرة الطبيعية،ومن ثمة لابد من اعتبار الخيال كملكة إنسانية عنصرا أساسيا في بناء المعرفة العلمية.
نستخلص مما سبق أن التجربة هي الأساس الذي تقوم عليه النظرية،وان كانت هذه الأخيرة سابقة عن كل تجريب،والتي تتخذ شكل فرضية،أي فكرة موجهة للبحث والمرتبطة بالعقل، غير أن التجريب يفترض نقيض هذا الأخير،ألا وهو الخيال الذي أسهم بشكل كبير في تطور العلوم والتقنيات؛وقد كانت كبرى الانجازات العلمية مجرد خيال كالطيران والغوص في أعماق المحيطات والسفر إلى الفضاء.
عرفت العلوم قفزة نوعية في القرن 19 و20 لما حدث في فروعها المختلفة من تطور،كما هو الشأن في الرياضيات حيث ظهرت انساق جديدة في الهندسة،وهوما عرف في تاريخ الرياضيات بالهندسات اللااقليدية.وكذلك في الفيزياء حيث ظهرت نظرية النسبية التي جسدت الثورة على مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية،التي أرسى دعائمها "نيوتن"،إضافة إلى ظهور الميكروفزياء الذرية،الذي شكل بدوره خروجا عن الموضوع التقليدي للفيزياء،وهو الماكروفزياء،وقد أظهرت هذه التطورات محدودية المنهج التجريبي،مما دفع الابستيمولوجيا المعاصرة إلى إعادة تصورها للعلاقة بين النظرية والتجربة،ما أسهم بشكل مباشر في ظهور تيار عقلاني معاصر يعيد للعقل مكانته في المعرفة العلمية،مستغنيا عن المنهج التجريبي بالمنهج الاكسيومي،أي الكف عن اتخاذ التجريب كمعيار للتحقق من صدق النظرية والاعتماد على التماساك المنطقي بين المقدمات والنتائج.ذلك أن المهم في الاكسيوكاتيك هو سلامة الاستدلال والتماسك بين الفرضيات والنتائج،أي عدم تناقضها مع مبادئ العقل المنطقية.لقد تغير تصور العقل،فلم يبق كما صاغ "ديكارت" مبادئه منغلقا وثوقيا ودغمائيا،بل إن العقلانية المعاصرة تجعل العقل منفتحا ونسبيا،لايقف عند نظرية بعينها،وإنما يقبل النظريات المتعددة بتعدد الفرضيات،التي لاتكون صادقة إلا بقدر امتثالها لشرط الأكسيوماتيك،ومن ثمة يكون أساس المعرفة العلمية الانسجام المنطقي للنظرية،وليس تطابقها مع الواقع من خلال قوانين التجربة.ويعتبر"ألبير اينشتاينA.Enstein " من أقطاب العقلانية المعاصرة، الذين دافعوا عن المنهج الاكسيومي كوسيلة لبناء المعرفة العلمية،وليست التجربة سوى مرشد وموجه في وضع بعض الفرضيات أو تطبيقها،وذلك ما يظهر بجلاء في نظريات هذا العالم،حيث اعتمد على مجموعة من الفرضيات تفرز نتائج مرتبطة بها بالضرورة،ترابطا عقليا منطقيا،أي بشكل اكسيومي؛فكلما كان الاستدلال صحيحا، كان ما يصل إليه من نتائج صحيحا كذلك،دون حاجة إلى الواقع،لقد احتل هذا المنهج بؤرة البناء النظري للمعرفة،بعد أن طال تربع المنهج التجريبي على عرش العلوم طيلة الأزمنة الحديثة،والى حدود النصف الثاني من القرن التاسع عشر،لذلك لابد في بناء النظريات العلمية من عقل علمي حر ومبدع،يصوغ المبادئ والفرضيات ليستنتج منها مايعبر عن الواقع، حيث يصبح هذا الأخير مطابقا لتلك النتائج التي أدى إليها البحث اعتمادا على المنهج الاكسيومي.ويؤكد الابستيمولوجي الفرنسي المعاصر "غاستون باشلارGaston Bachelard " هذه العلاقة الجدلية بين النظرية والتجربة،مع الاحتفاظ للأولى بمنزلة أكثر سموا؛وذلك من خلال توضيحه علاقة النظرية الفيزيائية القديمة بالواقع والظاهرة المدروسة،مقارنة مع النظريات الميكروفزيائية المعاصرة،وما أحدثته من هزات ابستيمولوجية في مجال الفيزياء،الشيء الذي فرض على العلماء إعادة النظر في المنهج والمبادئ والفرضيات،حتى يتسنى لهم مسايرة تطور المعرفة العلمية،لابد لهم من الانفتاح على مختلف الإمكانيات التي يتيحها العقل العلمي الحر المؤسس على قواعد رياضية،فرضية استنتاجيه، وليتحرروا من خداع الحواس والارتباط بالظواهر السطحية، يقول "باشلار" في هذا السياق:"لقد كان الاعتقاد السائد هو أن العلم واقعي بموضوعاته...أما اليوم،فقد قلب الفيزيائي المعاصر رأسا على عقب ذلك الأفق الذي رسمه للفرضية،لقد أصبحت الموضوعات معبر عنها بواسطة التشبيهات،أما الواقع فهو تنظيم تلك الموضوعات في علاقات...ذلك أن الاتصال المباشر بالواقع أصبح مجرد معطى مبهم ومؤقت واصطلاحي."؛ينطلق "بشلار" إذا من الباب المفتوح،فلا يقبل أي مبدأ عقلي ولا أية فكرة مسبقة.ولكنه مع ذلك يعتقد أن العقل قادر على أن يقوم انطلاقا من التجربة،بصياغة منظومة معرفية يتحقق فيها الانسجام تدريجيا،بفضل التقدم العلمي والمراجعة الدائمة التي يفرضها العلم والعلماء.فالعلم يغذي العقل وعلى هذا الأخير أن يخضع للعلم الذي يتطور باستمرار،وليست التجربة في معناها العلمي سوى أداة من أدوات العقل ذاته،وهو عقل منفتح على الخطـأ،مادام تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه،ومادام العلم بحثا عن الحقيقة لايركن إلى المطلق،ولكنه ينتقد ذاته بشكل دائم،وفي إطار انفتاح العقل يقوم حوار جدلي بين العقلي والواقعي،النظري والتجريبي.ويعبر "روبير بلانشيRobert Blanché " بشكل صريح عن هذا الانفتاح،حين اعتبر أن العقلانية العلمية ليست نزعة اختباريه تعتبر العقل مرآة تنعكس فيها معطيات التجربة،وليست عقلانية دغمائية تقوم على منظومة من القواعد الثابتة،وإنما عقلانية تجريبية بعدية،تراجع مبادئ العقل وقواعده من خلال تكييفه مع الوقائع التجريبية،نازعة صفة الاطلاقية عن تلك المبادئ.
وسوء كانت النظرية مرتبطة بالتجربة أو منفصلة عنها،فان هذه الأخيرة تظل مرجعا أساسيا لبناء المعرفة العلمية.وسواء كانت التجربة في بداية البحث أو في نهايته،فإنها لاتنفصل عن الاستدلالات والفرضيات العقلية،وبالتالي نستنتج أن العلاقة بين النظري والتجريبي علاقة جدلية،فهل يكفي اتخاذ التجربة معيار للتحقق من صدق النظريات العلمية؟
لقد رفضت الاتجاهات الابستيمولوجية المعاصرة الانحياز إلى التجربة،أو الإعلاء من شأن العقل واعتبار احدهما المقياس الأوحد لعلمية النظريات،وتمثل هذا الرفض لدى بعض الابستيمولوجيين المعاصرين أمثال"بيير تويلي Pierre Thuillier " الذي ينتقد القول بأن التجربة معيار علمية النظرية؛لان العالم لاستنبط من هذه الأخيرة نتائج يمكن التحقق من صدقها بإخضاعها للاختبار المباشر،حيث يتطلب هذا الاستنباط والاختبار صياغة فرضيات جديدة تفتح النظرية على نظريات أخرى قد تقوض دعائمها،لكنها في الآن ذاته تدفعها إلى الخروج عن وثوقيتها.ذلك أن الفرضيات بماهي ربط بين النظرية والموضوع الملموس،فإنها ترسم له صورته الذهنية المتناسقة مع النظرية في كليتها،وباعتبارها فرضيات لاحقة تأتي بعد التجربة،فإنها لا تنتمي إلى المسلمات الأساسية والعامة للنظرية.هناك ازدواجية بين الجانب النظري والجانب التجريبي في عملية التحقق من مصداقية المعرفة العلمية،وهي العملية التي تتطلب من الباحث القيام بتجارب متعددة ووضع فرضيات مختلفة والاشتغال عليها من اجل اغتناء النظريات العلمية.ومن ثمة تكون الاتجاهات التجريبية بنظرتها الاختزالية والتبسيطية لمعايير صدق النظرية،وهي الاتجاهات التي تتخذ من التجربة المعيار الأول والأخير لعلميتها،مرفوضة لأن عملية التحقق من العلمية أمر مركب وصعب وليس بسيطا كما تصوره أصحاب تلك الاتجاهات،وترد تلك الصعوبة حسب "تويليي" إلى سببين:الأول أن النظرية عاجزة عن إعطاء نتائج ملموسة بالاعتماد على ذاتها وفي عزلة عن الوقائع التجريبية،والثاني أن التجربة لاتكون علمية إلا بالاعتماد ليس على نظرية بعينها وإنما على مجموعة من النظريات؛كذلك الاعتماد على التجربة للتحقق من علمية النظريات لا يمنح نتائج يقينية ومطلقة،يمكن اعتبارها ثابتة ومغلقة،وإنما تمنح تأكيدات جزئية نسبية ومتغيرة ومنفتحة.وهذا ما عبر عنه"بيير دوهيمPirre Duhem " في كتاباته الابستيمولوجية،حين أكد على عدم وجود تجربة حاسمة expérience cruciale التي جعلها"فرانسيس بيكون"الفيصل في المعرفة العلمية،إذ بها يتأكد أحد الاحتمالات والفرضيات ليصبح قانونا ثابتا يعبر عن الظاهرة الطبيعية؛حيث أن النظرية تكون صحيحة حسب دوهيم لا لأنها تقدم تفسيرا للظواهر الحسية مطابقا للواقع،بل لأنها تعبر بكيفية مرضية عن مجموعة من القوانين التجريبية.وتكون النظرية خاطئة إذا تألفت من قضايا لاتتوافق مع القوانين التجريبية،المعيار الوحيد الذي يجب أن يقاس به صواب أو خطأ النظريات إذا هو التجربة.لكن هذه الأخيرة ليست واحدة ولا ثابتة،وإنما متغيرة،مما يمكن النظرية من إضفاء النظام على القوانين التجريبية وجعلها أسهل تناولا وأكثر اتساقا.لاوجود لتجربة حاسمة ولا لفرضية نهائية إذا،فالمعرفة العلمية في جوهرها تفاعل بين المستويين النظري والتجريبي ،وعلمية النظرية لاتكون إلا بتعدد التجارب والاختبارات،وبالتماسك المنطقي بين فرضيات النظرية،وبينها وبين النظريات الأخرى،والى هذا التصور ذهب "تويليي" الذي يتخذ من تعدد الاختبارات وتطعيم الفرضيات وترابط النظريات بعضها ببعض ،معيارا لعلمية النظرية.
إلا أن للفيلسوف والابستسمولوجي المعاصر"كارل بوبرKarle Popper" 1902ـ1994 أطروحة مغايرة،حيث يكون معيار علمية النظرية هو قابليتها للتفنيد أو التكذيب،وليس مطابقتها للمعطيات التجريبية أو للمبادئ العقلية،بمعنى أن الذي يجعل نظرية ما علمية هو قدرتها على إخضاع نفسها،أي فرضياتها للتفنيد؛بأن تتبين نقط ضعفها،وكل نظرية لايمكن وصف تفنيدها المحتمل تعتبر خارج دائرة العلم التجريبي؛ذلك أن تاريخ العلم بما هو صراع بين النظريات يحكمه معيار يميز في النظرية بين ما هو علمي وغير علمي.ولكن هذا المعيار ليس واحدا ولا متفقا عليه،ومن ثمة يصوغ كارل بوبر معيارا جديدا في محاولة منه لرد الاعتبار للعقلانية،والتصدي للاتجاهات الفلسفية والاديولوجية المشككة فيها؛وليست نزعة "بوبر" التفنيديةFalsificationisme نزعة هدامة بل إنها تتخذ هذا المعيار باعتباره طريقا نحو تقدم النظرية،فكلما كانت قابلة للدحض كلما كانت علمية.وهذا المعيار هو الذي يجعل من نظرية أينشتاين الفيزيائية نظرية علمية؛إذ بإمكان العلماء تكذيب التنبؤات التي وصل إليها هذا الفيزيائي.تصبح النظرية علمية عندما تكشف عن عيوب في ذاتها وتفند فرضياتها بذاتها،ويشبه "كارل بوبر"النظرية العلمية بالآلة الميكانيكية التي يستحيل استخدامها دون الوقوف على الأعطاب التي تلحق احد أجزائها،التجربة اذا حاسمة كانت أو متعددة ليست معيارا للتأكد من علمية النظرية،بل يجب أن تكون قادرة على كشف نواقصها وعيوبها،بما يتطلبه ذلك من عقلانية منفتحة تنتقد ذاتها بشكل دائم ومستمر.لقد كانت هذه النزعة رد فعل ضد كل النزعات العلمية المنغلقة عقلانية كانت أو تجريبية،ويتخذ من العقلانية المنفتحة مع أينشتاين نموذجا لتطبيق معيار القابلية للتكذيب والتفنيد؛حيث كانت الفيزياء النسبية قطيعة ومجاوزة للمفاهيم الفيزيائية الكلاسيكية،والتي صاغها "نيوتن" في مجموعة من القوانين والعلاقات،أشهرها قانون الجاذبية،الذي قاد اينشتاين إلى التنبؤ بانحرافات المدارات الكوكبية،وهذا التنبؤ أكبر دليل على قابلية نظرية أينشتاين للتفنيد والدحض؛ذلك أنه اذا كانت ميكانيكا نيوتن تفسر دوران الأرض حول الشمس بقوة الجذب الرابطة بينهما حسب قوانين الجاذبية،فان نظرية النسبية تشرح ذلك كما يلي:إن كتلة الشمس ضخمة جدا،وتحدث بذلك في الفضاء المحيط بها انحرافا حولها،والأرض تسير في هذا الانحراف الذي يشكل مدارها حول الشمس.وكذلك هو الأمر في مسائل علمية أخرى،تطرق لها أينشتاين،تقبل الدحض والتفنبد وذلك ما يمنحها صفتها العلمية.
نخلص بالنهاية إلى أن اختلاف المعايير التي تقاس بها علمية النظرية ،فإنها جميعا تسعى إلى تحقيق تقدم العلم ومجاوزة نقائصه وعيوبه النظرية.وعليه يجوز لنا التساؤل:أليست غاية التقدم العلمي نفعية؟ ألن يكون معيار نفعية المعرفة مقياسا لعلميتها ؟ وإذا كانت هذه المعايير صالحة في العلوم التجريبية،فهل ستفيد العلوم الإنسانية؟ومتى كان الجدال حول علمية الأولى،التي تدرس الظواهر الطبيعية،محتدما.فما بالك بالأخيرة والتي تتخذ من الظاهرة الإنسانية موضوعا للدراسة؟فماهي العلوم الإنسانية اذا،وكيف تدرس الإنسان؟
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق