الخميس، 29 ديسمبر 2011

الاشكاليات الابستيمولوجية للعلوم الانسانية


v   العلوم الإنسانية: العلوم الإنسانية هي فلسفة الإنسان، وهي المبادئ العقلية والانفعالات والملكات التي لا تتغير بتغير الملل والأديان كعلم المنطق وعلم الكلام وبعض علوم الحكمة كما ذهب إلى ذلك "أبو نصر الفارابي"في كتابه "تحصيل السعادة".والعلوم الإنسانية بالمعنى المعاصر هي التاريخ وفقه اللغة والاقتصاد والاجتماع والانثروبولوجيا والقانون وعلم النفس وعلم الجريمة،ونظرية الاتصال...وغير ذلك مما يستجد من علوم يمكن إدراجه ضمنها،وهي ما يعرف بالإنسانيات،وأطلق عليها "ستيوارت مل" اسم العلوم الخلقية.وتدرس العلوم الإنسانية الإنسان باعتباره فردا يزخر بجملة من الميولات والأهواء والعواطف والتصورات،وتعتبره كائنا منخرطا في جماعة تمارس عليه تأثيرات معينة،كما تدرس الواقع الإنساني بحوادثه المختلفة للوقوف على ثوابته وتفهم اتجاهاته.وبما أن هذا الواقع متعدد ومختلف،فان العلوم التي تدرسه كثيرة ومتفرعة؛فعلم النفس مثلا فروع شتى،كعلم النفس المرضي وعلم النفس الطفل،أو الصناعي أو العسكري...وكذلك علم الاجتماع والقانون والتاريخ؛هناك قانون مدني وقانون جنائي وتجاري ودولي ...وهناك تاريخ الطبيعة وتاريخ العلم والفن والدول...فهل هذا التعدد والكثرة عامل ايجابي أم سلبي في بناء نظرية علمية موضوعها الظاهرة الإنسانية؟هل تبلغ العلوم الإنسانية درجة الموضوعية والعلمية في دراستها للإنسان؟وكيف يمكنها دراسة هذا الأخير، ووفق أي منهج؟وما علاقة العلوم الإنسانية بالعلوم التجريبية؟
أـالصياغة الإشكالية:سادت النصف الأول من القرن 19 نزعة وضعية أقصت من اهتماماتها بشكل معلن  دراسة مواضيع الميتافيزيقا،وركزت على دراسة الطبيعة،بغية السيطرة عليها،وقد تغذت هذه النزعة من النزعة العلموية  scientisme التي عرفتها الأوساط العلمية اواخر القرن الثامن عشر،وحملت الكثير من العلماء والفلاسفة على الاعتقاد بأن العلم قادر على تفسير الظواهر باختلاف أنواعها،أي ما تعلق منها بالطبيعة أو بالإنسان،وفد كانت هذه الثقة العمياء في العلم وراء وضع" أغيست كونتAuguste comte " لعلم جديد يدرس الظاهرة الاجتماعية أطلق عليه اسم الفيزياء الاجتماعية،وكأنه يبحث عن كيفية حدوث الظواهر الاجتماعية بنفس الطريقة التي يدرس بها ظواهر الطبيعة،فهل ستنجح هذه المماثلة بين الطبيعي والإنساني في تأسيس معرفة علمية بالإنسان؟ لقد تجاهلت كل النزعات الوضعية في تناولها للظاهرة الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية خصوصية الإنسان،الذي لا يخضع لمقولات الضرورة والحتمية كما الظواهر الفيزيائية،مغفلة بذلك حرية الإنسان وجوانبه اللاواعية،لتصبح هذه الأخيرة خارج دائرة العلم.ألن يفيد ذلك أن الظاهرة الإنسانية خارج العلم بدورها؟أم أنها تحتاج لعلم خاص نظرا لخصوصيتها؟ما علاقة الذات بالموضوع حين يتعلق الأمر بمعرفة الإنسان؟ وإذا كان التاريخ كعلم إنساني يثير جملة من الإشكاليات المتصلة بالمنهج وبالموضوع،كما سلف التعرف على ذلك،فهل ستثير العلوم الإنسانية نفس الإشكاليات؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب،لزم التساؤل عن إمكانية قيام علوم تدرس الإنسان،وتجيب عن أسئلة أساسية متصلة بالمصير والوجود،وبصيغة أخرى،هل يمكن لهذه العلوم أن تكون موضوعية؟كيف تنفصل عن الذاتية وهي بحث في الذات وعنها،فردية كانت أو جماعية،في حاضرها أو في ماضيها؟وما هي المناهج المعتمدة في علوم من هذا القبيل؟هل تحاول تفسير الظواهر قيد الدراسة،أم فهمها ووصفها؟وما علاقة العلوم الإنسانية بالعلوم الطبيعية؟أهي علاقة ترابط واتصال أم قطيعة وتجاوز؟
ب ـالموضوعية والظاهرة الإنسانية:ليست الظاهرة الإنسانية شيئا كالأشياء المادية الخارجية،إنها ظاهرة ترتبط بصميم الإنسان وكيانه ووجوده،ولذلك فإنها لا تسلم من الأحكام القيمية والمعيارية.إلا أن الإنسان يرنو إلى فهم طبيعته قصد توجيهها نحو ما يحقق له المزيد من الكمال،ومن ثمة فعليه التجرد من الذاتية لتحقيق رؤية واضحة لهذه الطبيعة،والواقع أن معرفة الإنسان لذاته قطعت أشواطا وأحرزت تقدما ملحوظا منذ النصف الأخير من القرن 19 وبدايات القرن المنصرم،وليس السبب في ذلك سوى درجة الموضوعية التي باتت ممكنة في العلوم الإنسانية،ولا أدل على ذلك مما يقدمه علم النفس من معرفة حول نفسية الطفل وشرائط التعلم والذاكرة والإدراك...وكذلك علم الاجتماع الذي أصبح قادرا على تحديد الصيغ الاجتماعية المتدخلة في نمو الشخصية أو إعاقته،وتحديد المجتمعات المتوازنة وغير المتوازنة.هذا يعني أنه بالإمكان معرفة الحوادث المرتبطة بالإنسان معرفة علمية موضوعية ودقيقة،وإذا كانت كذلك فإنها ستكون قابلة للملاحظة على غرار الحوادث المرتبطة بالطبيعة.لكن الظواهر الإنسانية موضوع لا كموضوعات الطبيعة الخارجية؛حيث الحوادث معزولة ومنفصلة عن الذات،ما يمنح درجات من الموضوعية والدقة أثناء دراستها،بل إنها موضوع مرتبط بالذات ،فكيف ستكون دراسة الذات موضوعية؟ولماذا يطرح سؤال الموضوعية كلما تعلق الأمر بمعرفة ما هو إنساني؟وهل يطرح نفس الأشكال كلما تحدثنا عن الذات؟
   ظهرت النزعة الوضعية مع "كونت" لتؤكد إمكانية دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية موضوعية؛حيث أثارت الأوضاع الاجتماعية المتدهورة انتباه مؤسس الوضعية،ما دفعه الى محاولة تفسير الظواهر الاجتماعية علميا،أي اعتمادا على العلم بعيدا عن الميتافزيقا أو اللاهوت.وأطلق على العلم الذي يدرس تلك الظواهر اسم، الفيزياء الاجتماعية،وتحمل هذه التسمية اشارة الى الثقة في العلم القادر على بلوغ الموضوعية ،سواء تعلق الأمر بالطبيعة أو بالإنسان؛فكما تدرس الفيزياء الأجسام المادية تدرس الفيزياء الاجتماعية الجسم الاجتماعي.يسفر هذا التصور القول بضرورة التعامل مع الظواهر الإنسانية كأشياء مادية،وذلك ما أكده عالم الاجتماع الفرنسي"اميل دوركايم" الذي يعتبر التخلص من الأحكام المسبقة والقيم التي تؤطر الظواهر موضوع الدراسة،إذ لتتحقق الموضوعية في علم الاجتماع،لابد من الانفصال عن الذاتية حتى يكون فهمنا وتفسيرنا للظواهر الإنسانية موضوعيا وعلميا.
   وخلافا لهذا التصور يذهب عالم النفس الفرنسي"جون بياجي jean Piaget "1896 1980 إلى أن الموضوعية لا تنفصل عن الذاتية في العلوم الإنسانية،وهذه الخصوصية الابيستمولوجية تجعل من بلوغ الموضوعية أمرا صعبا، وتستمد هذه الصعوبة تبريرها من كون الذات هي الموضوع في الآن نفسه،وبالتالي لايمكن الانفصال كليا أوجزئيا عنها لدراستها،فدراسة الظاهرة الإنسانية محكومة بشكل، أو بآخر بالتأثيرات الفلسفية والإيديولوجية للباحث، وإذا كان  وقع هذه التأثيرات أقل في العلوم الطبيعية التجريبية فإنه يظل قويا في العلوم الإنسانية، ذلك أن الذات جزء لا يتجزأ من الظاهرة الملاحظة، التي عليها أن تلاحظها من الخارج، والتي تبدو الفواصل فيها بين الخارجي والداخلي واهية، وبين الذاتي والموضوعي أقل وضوحا وتميزا إضافة إلى  محاولة الأنا الملاحظ في تجاربه على ذاته  وغيره، الانخراط في الوقائع اجتماعية كانت أو نفسية أو تاريخية، وكذا لإضفاء قيم ذاتية عليها، ما يؤدي إلى تجاهل الضرورات المنهجية والتقنيات الموضوعية في دراسة الظاهرة .هناك صعوبة إذا في تحقيق موضوعية العلوم الإنسانية حسب "بياجي" نظرا للعلاقة التداخلية بين الذات والموضوع في هذه العلوم خلافا للعلوم الحقة، ويذهب في نفس الاتجاه عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر " فرنسوا بستيان"Francois Bastian "الذي يبين صعوبة انفصال الذات عن الموضوع ما يضع عالم الاجتماع في مفارقة استحالة انفصاله عن واقعه الاجتماعي، أي الظواهر والموضوع الذي يقوم بدراسته، و إذا كان انفصال الذات  وعزلها عن موضوع بحثها لأنها منخرطة ومشاركة فيه بشكل ضروري، بمعنى أن نتناوله الظاهرة لن يسلم من الذاتية، التي تدفع الباحث إلى خوض صراعات معلنة أو مضمرة تحركها المعتقدات والمثل والقيم، وهي عناصر غير ضرورية في دراسة الظواهر الفيزيائية، فالبحث في الذرة مثلا لا يحتاج إلى معتقدا أو قيمة، حينها يصبح  فهم المجتمعات الإنسانية رهينا بمدى انخراط الباحث في موضوع البحث وتجاربه، فرديه كانت أو جماعية، لذلك نجد " فرانسوا بستيان" ينتقد دعاة الموضوعية المؤسسة على فصل الذات عن الموضوع’، الذين جعلوا من مبدأ الحياد القيمي معيارا وشرطا لبلوغ العلمية والموضوعية في دراسة الظواهر الاجتماعية، ومفاد الحياد القيمي، عدم إقحام قيم الباحث من معتقدات و أخلاق، في تحديد الموضوع والحكم عليه، أي التمييز بين أحكام قيمة كونية وشمولية، و أخرى جزئية تتعلق بذات الباحث فقط.
يحيل الحديث عن موضعية العلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع، وما يطرحه من صعوبة متصلة بالموضوعية إلى المعرفة العلمية والمعرفة التاريخية، فإذا كانت الأولى تجد سندا لموضوعيتها في العودة إلى الواقع وتأمله عقليا،فان العلوم الإنسانية لا تخضع لنفس المقياس،لتتمثل موضوعية هذه الأخيرة أساسا في التداخل بين الذات والموضوع، و إذا كانت صعوبة تحقيق الموضوعية في هذه الأخيرة امرا واقعا، حيث أن دراسة الحياة النفسية للإنسان مثلا تحتاج لملاحظة تمتد سنوات نموه من طفولته إلى شبابه ...دون إغفال أن الظواهر الإنسانية متغيرة ومختلفة، فلايمكن لعالم الاجتماع على سبيل المثال وضع قواعد تنطبق على كل المجتمعات،هناك صعوبات ليفهم الباحث ذاته وغيره، فما طبيعة هذه الصعوبات ؟  هل تتوقف وظيفة العلوم الإنسانية على فهم الظواهر؟ وهل هذا الفهم للتفسير أم التأويل ؟ وكيف يمكن للمناهج المعتمد في هذه العلوم التنبؤ بوقائع اجتماعية أو نفسية ....؟
ج- وظيفة العلوم الإنسانية: تطمح العلوم الإنسانية إلى تطبيق المنهج العلمي، باكتشاف القوانين وصياغتها صياغة رياضية، ما يطرح إشكاليات إيبستمولوجية أفرزت العديد من المدارس والمناهج إلى درجة أصبحت فيها هذه العلوم كثيرة المناهج قليلة النتائج،ويظهر الاختلاف بين النزعات العلمية في مختلف فروع العلوم الإنسانية، حيث نجد في ميدان الأنتربولوجيا مثلا، تقابلا بين النزعة التطورية والنزعة الوظيفية الأولى تدرس حضارة الشعوب البدائية وثقافتها محاولة ربطها بحضارة الشعوب المتقدمة وثقافتها معتبرة هذه الأخيرة مرحلة عليا في سلم تطور الحضارة البشرية,في حين حصرت الثانية اهتمامها في دراسة عناصر الحضارات و الثقافات البدائية، وبيان وظيفة كل عنصر منها داخل الكل، دون الدخول في متاهات مقارنة بين الشعوب البدائية والمتحضرة، حيث أن هذه النزعة تدرس الشعوب البدائية كما هي في الواقع، فلا  تعنى بما قبل وما بعد، بل تدرس ما هو موجود. لتوضيح وظيفة كل ظاهرة في إطار مجموع الظواهر المشكلة لهذه الحضارة البدائية أو تلك، وسواء تعلق الأمر بالنزعة التطورية أو الوظيفية، فإنهما  يهدفان معا إلى فهم وتفسير الظواهر الإنسانية، فهل تقف العلوم الإنسانية بنزعاتها المختلفة عند الفهم والتفسير؟ و إلى أي حد يمكن أن يكون هذا التفسير علميا، خاصة و أن الوضع الايبستيمولوجي للعلوم الإنسانية،  وضع يتعارض فيه الجانب الستتاتيكي (الساكن-الثابت) بالجانب –الديناميكي (الحركي-الحيوي)  والبسيط بالمركب، والجانب التاريخي بالجانب الوظيفي، والموضوعي بالذاتي.
قامت النزعة البنيوية كمحاولة للتغلب على هذه الصعوبات، وكطموح إلى تطبيق المنهج العلمي في العلوم الإنسانية، واكتشاف قوانين الظاهرة الإنسانية وصياغتها رياضيا كما هو الشأن في العلوم الحقة (الطبيعيات- الرياضيات...)، وقد برزت معالم هذا الطموح في دراسات العالم السويسري " فرناندو سوسير Ferdinand de saussure  (   1857- 1913)، فالبنيوية لا تريد دراسة الأجزاء في تطورها نحو الكل، أو من البسيط إلى المركب، ولا تضع الكل كأوليات ومقدمات قبلية، و إنما تهتم بدراسة البنيات -  structures   ومن هنا جاءت تسمية هذه النزعة بالبنيوية  structuralisme  ، ذلك أن "دوسوسير" في دراسته للغة لم يبحث عن تاريخها أو تطورها أو وظيفتها، بل بحث في نسق العلاقات أي البنية اللغوية، على اعتبار أن البنية كل منظم من علاقات متزامنة، يستمد منها كل جزء من أجزاء هذا الكل قيمته وأهميته، واللغة نسق يجب أن ينظر إلى أجزائه  من خلال العلاقات الترابطية القائمة بينها بشكل تزامني. لقد سعت  هذه النزعة إلى بناء منهج أصيل  ملائم لخصوصية الظواهر الإنسانية، حيث لا يتحرك الباحث في عالم مادي، بل في عالم رمزي إنساني وقد تبلورت منهجية خاصة للبحث في الظاهرة الإنسانية بداية بالدراسات اللسانية المعاصرة مع دوسوسير وصولا الى الدراسات الأنتروبولوجية  Anthropologie   مع "كلود لفي - ستروس" الذي جعل من التحليل البنيوي أسلوبا جديدا لتحقيق أكبر قدر من الدقة والموضوعية مستوحيا ذلك من الفيزياء والرياضيات المعاصرة فهل ستكون وظيفة الأنتروبولوجيا كوظيفة الفيزياء التي تفسر الظاهرة وتتنبأ بحدوثها ؟
يعترف "كلود ليفي- ستراوس    "Claude Lévi-strauss  أن جل التنبؤات في العلوم الإنسانية كانت خاطئة، وان  كانت لهذه العلوم القدرة على تفسير الظواهر الإنسانية، ما يجعلها علوما متأرجحة بين التفسير والتنبؤ، شأنها شأن بعض العلوم الطبيعية التي قد تفسر ظواهر لم تتنبأ بها، أو تنبأ بها دون تفسيرها (علم الأرصاد الجوية)، إن تقديم أسباب تحدد نشأة الظواهر وتطورها، وافتراض حدوث ظاهرة معينة اعتمادا على قانون السببية، طبيعة كانت أو إنسانية  محكوم بالتجريب والتصحيح ،كذلك كانت علمية العلوم الإنسانية وموضوعيتها رهينة بمدى قدرتها على التوفيق بين عمليتي التفسير والتنبؤ من جهة، وربط التفسير بالفهم من جهة أخرى، دون الوقوف عند تفسيرات نهائية وتنبؤات يقينية، مقدمة لنا مزجا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة، كما يذهب إلى ذلك " ستراوس" إنها علوم تتأرجح بين التفسير والتننبؤ ما يجعلها  منفتحة .
  في مقابل هذا التصور البنيوي، يعتقد وليام دلتاي   W.Dilthey    أن المنهج التجريبي والاقتداء بالعلوم الحقة في دراسة الظواهر الإنسانية، لن يمكن العلوم الإنسانية من المضي قدما، ذلك أنها تحتاج منهجا تستمده من خصوصية موضوعها الروحية، فعلم النفس التجريبي إذ يربط الظاهرة النفسية بالظواهر الفيزيولوجية، يغفل الجانب الروحي للإنسان، لتصبح الظواهر المتعلقة به كظواهر الطبيعية، والحال أن التعامل مع الظواهر الإنسانية لا يقبل هذا التطبيق للمنهج التجريبي، لذلك يجب عليها أن تكيف المفاهيم المستخدم في علم المناهج بشكل أكثر عمومية،ما يسمح بتطبيقها على الظواهر الإنسانية،لأن الإنسان كائن حي له عقل يمكنه من إنتاج المعاني، وله تجربته الداخلية، المتمثلة في وعيه بذاته وبالعالم الذي هو بمثابة كل له معنى وقصد، ومن ثمة تكون وظيفة العلوم الإنسانية ليس التفسير والتنبؤ،بل الفهم والتأويل،أي أن المنهج الذي ندرس به الظواهر الإنسانية منهج تفهمي- تأويلي حسب " دلتاي"، مختلف عن المنهج التجريبي الذي يفسر ويتنبأ بالظواهر الطبيعية.
نستخلص من هذه الصعوبات الموضوعية  والمنهجية للعلوم الإنسانية، أن البحث في هذه الأخيرة لا زال مستمرا وسيظل كذلك، دون إنكار التطورات التي تشهدها فروعها المختلفة والتي تجد  سندا لها كذلك في التطور التقني الذي منح أجهزة و آلات، تكشف عن حقائق تتعلق بالسلوك الإنساني.
د-نموذجية العلوم التجريبية:
تختلف الموضوعية في  العلوم الإنسانية عنها في العلوم التجريبية لأن الأولى لا تنفصل عن الذاتية والأحكام القيمية كما سلف الذكر، أما الثانية فتتوفق إلى حد كبير في عزل الظواهر المدروسة، و إخضاعها للتجربة فهل يعني ذلك وجود قطيعة بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية ؟ وهل بالإمكان إخضاع الظاهرة الإنسانية للتجربة؟ وإلى أي حد يمكننا ذلك من صياغة قوانين لها على غرار قوانين الظاهرة الطبيعية ؟
إذا كان القرن السابع عشر قرن الفيزياء والكيمياء، فإن القرن التاسع عشر قرن التأسيس العلمي للبيولوجيا والعلوم الإنسانية، وقد تبيانا فيما سبق كيف أسهم المنهج التجريبي في تقدم الفيزياء مع "غاليلي" وتطور البيولوجيا مع " كلود برنانر"، حيث تظهر إشكاليات هذا المنهج حين يدرس العضوية الحية إذ عليه التضحية بالجانب الحيوي لممارسة الملاحظة، وكذلك في العلوم الأخرى، اعترضت الدارسين صعوبات منهجية، و إذا كانت هذه الصعوبات حاضرة في العلوم الطبيعية، فإنها أكثر حضورا في العلوم الإنسانية، نظرا لما تتميز به الظواهر الإنسانية من خصائص، إنها متغيرة باستمرار ما يجعلها نسبية، حيث تختلف باختلاف العصور والثقافات والأشخاص، وهي ظاهرة واعية فيها الشيء الكثير من العواطف والأهواء والميولات والأفكار، أي أن الوعي البشري عنصر يتدخل ويؤثر  فيها، إضافة إلى أنها ظاهرة مضمرة لا تعطى بمجرد الملاحظة، كما أن الظواهر الإنسانية كموضوع لا تنفصل عن ذاتية الدارس، نظرا لصعوبة التخلص من القيم والتصورات الخاصة به إلا أن المنهج التجريبي قد أبان عن فعاليته في مجالات كثيرة كالطب النفسي والدراسات المرتبطة بالانحراف والشذوذ والحروب والظواهر الاقتصادية ،وهي ظواهر إنسانية، و من ثمة يكون تطبيق هذا المنهج ممكنا لدراسة تلك الظواهر. وذلك ما تؤكده الأنثروبولوجيا المعاصرة مع الفرنسيين بيير فارنييه وفليب تولرا  Warhier  و hPh.Laburthe Tolraحين تضع شروط لعلمية العلوم الإنسانية على غرار العلوم الطبيعية،وإن كانت الظواهر موضوع الدراسة في الأولى أكثر غنى وأقل انتظاما منها في الثانية، التي تكون التجربة فبها  مقياسا حاسما  لعلميتها، وإذا كان التجريب قاصرا على لعب نفس الدور في العلوم الإنسانية،فان هذه الأخيرة تبلغ العلمية بانفتاح الذات على الغير وتقبلها للاختلاف،وقدرتها على استيعاب التناقض، وعلى مواجهة الأشياء الغريبة البعيدة عن التلقائية، لأن الملاحظ لظاهرة إنسانية ما طرف فيها وحكم في الآن ذاته، فالعلمية رهينة بتجاوز ونسيان المصلحة الذاتية للباحث، ويجب أن يكون هذا التجاوز هدفا لكل بحث حول الإنسان، إضافة إلى الانفتاح والتجاوز يكون للباحث وعي بتفاعله وانخراطه في موضوعاته، أي أن حضور الذاتية في الدراسات الإنسانية شرط أساس من شروط علميتها، مادامت العلوم الفيزيائية المعاصرة ذاتها تعترف بعامل تدخل الذاتية، وعليه لا توجد قطيعة بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أو التجريبية فكلاهما يحتاج إلى عناصر ذاتية كحاجته إلى العناصر الواقعية التجريبية ويذهب الفيلسوف المعاصر "ميرلوبوني  M. Merleau-Ponty إلى أبعد من ذلك  حين اعتبر الذات مصدرا لكل المعارف العلمية،ما يتعلق منها بالطبيعة أو بالإنسان،ومن ثمة فان التجربة التي اتخذها العلماء مقياسا للعلمية والموضوعية، ليس سوى التجربة  الذاتية داخل العالم الذي تعيش فيه، والتي يحاول العلم فهمها وتفسيرها وتحديدها  بعديا، أي أن العلم لاحق بخوض التجربة الذاتية كمصدر مطلق للوجود والقيم والمعرفة. إن الفصل بين الذات والموضوع كأساس للعلمية مجرد خداع حسب هذا الفيلسوف،لأن التجربة المعيشة هي ما يشكل معرفة بالذات وبالعالم، وعليه تكون التجربة في هذا المعنى إنسانية، وليست إعادة إنشاء ظاهرة ما، بل إن الأولى هي أساس الثانية، إذ يجب على الإنسان العيش في العالم وبعد ذلك يفهمه ويفسره.
سواء كان بإمكان العلوم الإنسانية تطبيق المنهج التجريبي بتكييفه مع خصوصية الظواهر الإنسانية أو كانت التجربة هي ما يحياه الإنسان داخل العالم، فإن هذه العلوم لم تقطع صلتها بالعلوم الطبيعية ولم تقف عند نتائج ثابتة، شأنها في ذلك شأن جملة من العلوم، إنها في تطور وتقدم مستمر يكشف شيئا فشيئا عن حقيقة الإنسان.فماذا نقصد بالحقيقة ؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق