الخميس، 13 يناير 2022

ديداكتيك الفلسفة: القراءة الفلسفية حسب كوسيطا وجاكلين روس

 

        


                         

يتعلق الأمر هنا بمحاولة تعريف موضوعة لم تجد حتى الآن اسما ملائما، والتي تحمل اسم القراءة؛ هناك ما هو خارق في القراءة، والذي يمكن للتأمل ضمنه أن يساعد بدون شك ليس في التفسير، وإنما في إدراك أشياء أخرى خارقة في حياة الإنسان. 1                                                               

              

                                        [1]

  


القراءة لغة الجمع والضم، ويصعد اللفظ الفرنسي Lecture اشتقاقا إلى الجذر اللاتيني Lectura  وتعني القارئ، الذي يقوم بهذا الفعل للغير مقابل أجر، أما في اللسان الأنجليزي فيصعد اللفظ Read إلى الجذر الجرماني Redana ويعني نَصَحَ واسْتَشَارَ، أما في الاصطلاح فيتخذ لفظ "قراءة" دلالات مختلفة تشترك في القدرة على فك الرموز وفهم المعنى؛ يرى بول ريكور مثلا أن فعل القراءة يمر من مراحل ثلاث حسب نظريته المتعلقة بالنص، وهي البنية ما قبل الفهم، وتأويل عناصر النص من خلال التداخل بين التفسير والفهم، ثم المرحلة الأخيرة وهي فهم النص بانصهار عالم القارئ في عالم النص، حيث وضع هذا الفيلسوف دائرة تأويلية تضع حدا بين مفهومين متعارضين للقراءة؛ قراءة بنيوية تعزل النص عن محيطه الخارجي وتعلق توقعات القارئ، من أجل وصف البنية الدلالية للنصوص، وقراءة ثانية تأويلية يرتبط فيها النص ببيئته الخارجية وبانتظارات القارئ وتوقعاته، لذلك كان ريكور معارضا للقول بانغلاق النص، لأنه كان رائدا من رواد القراءة الفينومينولوجية للنصوص، يقول في هذا السياق:" لم يكن الهدف من جمالية التلقي عند ياوس[2] في صيغتها الأولى أن تكمل نظرية ظاهراتية عن فعل القراءة، بل كانت تريد تجديد تاريخ الأدب"[3]، غير أن القراءة التي يتناولها ريكور وياوس وإنغاردن Roman Ingarden 1893 – 1960 وغيرهم توجهت نحو النص الأدبي، لكنها ألهمت الكثير من الدراسات التي اهتمت بقراءة النص الفلسفي على المستوى الديداكتيكي، وهو المجال الذي يهمنا في هذا المقال، خاصة أن المعنى كان غاية كل نظريات القراءة، وكل أدبيات التفسير والتأويل، والوصول إلى المعنى هو الغاية التي تتطلع إليها القراءة الفلسفية داخل الفصول الدراسية، " إذا كان فعل القراءة، نشاطا يهدف إلى إدراك وبناء معنى النص، باعتبار هذا الأخير كلاما ذي معنى، فكيف يمكن تحديد هذا المعنى؟"[4] خاصة لما تحتله القراءة من أهمية في التوجيهات التربوية، التي اعتبرت من مبادئ تعليم الفلسفة  الارتقاء بالبرنامج إلى مستوى "التمرس بالتفكير الفلسفي في المفاهيم والقضايا والتيمات، اعتمادا على مضامين فلسفية ( نصوص فلسفية) يتم الاشتغال عليها قراءة منظمة وتحليلا وتعليقا، مع وضعها في سياقاتها النسقية والتاريخية. تعلم الفلسفة في هذا المستوى هو إذن اشتغال على النصوص الفلسفية أساسا، مع كل ما يرتبط بذلك من تقنيات منهجية ملائمة"[5]، كما اعتبرت هذه التوجيهات القراءة نشاطا أساسيا في العمل بالمجزوءة استجابة لمطلب الانزياح عن مركزية المدرس نحو مركزية المتعلم، إضافة إلى أن قراءة النصوص والآثار الفلسفية قراءة منظمة وفهمها ودراستها ومناقشتها والتعليق عليها كفاية من كفاية توصلية التي يسعى الدرس الفلسفي إلى تحقيقها، لذلك كان النقل الديداكتيكي للمعارف العالمة المرتبطة بفعل القراءة إلى معارف ملائمة لتدريسية الفلسفة، باعتبارها تعلم التفلسف من خلال دعامات متعددة، يمثل النص فيها ركن زاوية، تحديا للكثير من المدرسين الذين وجدوا مرجعيات نظرية مزدهرة في الإنتاج التربوي الفرانكوفوني، لتحيق ذلك النقل.

   حاول العديد من الديداكتيكيين أمثال طوزي Michel Tozzi  وكوسيطا Frediric Cossutta، وجاكلين روس J. Russ وفرنسواز رفان F. Raffin وفرانس رولان F. Rollin وغيرهم، تحقيق النقل الديداكتيكي لفعل القراءة، إذ نجد لدى لدى كوسيطا محاولة تأسيسية لتحديد عناصر قراءة النص الفلسفي، من خلال محاولة استلهام ومجاوزة المقاربات المعتمدة في نظريات القراءة، لذلك حمل كوسيطا على عاتقه رهان وضع منهج قراءة يلائم النص الفلسفي وفق مقتضيات فلسفية وبيداغوجية، من أجل التغلب على الصعوبات، وتجاوز العوائق التي تُحبط القارئ، لكن منهج القراءة ليس للتخلص من عملية التحليل  أو لاستبدالها، وإنما قيادة وتقوية القارئ لمواجهة صعوبات قراءة النص الفلسفي، لذلك يقف كوسيطا على صعوبات ثلاث يثيرها المعنى الغامض للمنهج وهي:

·        انسداد الحس السليم: يُفهم المنهج في الحس السليم باعتباره إسهابا في النصائح لتفسير النص، على أن تلك النصائح تتجسد في وصفات جاهزة، يبلورها كل أستاذ انطلاقا من تعميم عاداته الشخصية في القراءة؛ " تصاغ النصيحة الأساسية على النحو الآتي: يجب تعلم القراءة، التي لا يتم التصريح بقواعدها من الثانوي إلى التبريز، هذا لم يمنع بعض الأساتذة من بناء إنشاءات بالغة الوضوح لطلبتهم."[6] بهذه الطريقة تنمحي الذات التي تقوم بملاحقة المعنى وتعلق على النص، لأن موهبة الأستاذ تُتَرجم بصعوبة إلى منهج، كما أنها تكرس فكرة القارئ المتفرد، الذي يعرف وحده القراءة على حد تعبير كوسيطا، أو فكرة أن التفلسف لا يمكن تعلمه على شاكلة التعلم في مجالات أخرى، هذه المقاربة القائمة على الحس السليم  لا تناسب في نظر كوسيطا إلا من كان فيلسوفا بالطبيعة أو بالمهنة. 

·        حدود اللسانيات: ينبغي إقامة المنهج على علم مؤسس بدوره على الخطاب الفلسفي، يمكن تطبيقه على هذا النص أو ذاك، خاصة بعدما شهده مجال الأدب واللسانيات من تجديد في عادات التحليل على المستوى الأسلوبي والسردي، وقد اهتم الفلاسفة أيضا بقضايا تحليل الخطاب، لكنهم توقفوا أمام المفاضلة بين المقاربات اللّسانية، وظلوا مترنحين بين المقاربة السيميائية، والمقاربة البرغماتية، ومقاربة علم المعجم Lixicologie، على أن مناهج التحليل في اللسانيات متغيرة باستمرار، ومتعارضة بتعارض المقاربات، إضافة إلى أن هذه الأخيرة تتأسس على طبيعة اللسان، وطبيعة اللغة، وطبيعة الخطاب، كما تحيل الإشكاليات الإبستيمولوجية في اللسانيات نفسها إلى نقاشات تمتد في النهاية إلى طبيعة فلسفية، لنجد أنفسنا فيما يرى كوسيطا: " ها نحن نُعتقل في الفلسفة، ونظن أننا قبضنا عليها موضوعيا من الخارج."[7] لا بد إذن من تجاوز المقاربات اللسانية التي لم تحقق إلا قابلية ضئيلة لفهم النص، مما يدعو إلى بلورة مقولات فعالة وموثوق بها في التحليل النصي، حيث ستسمح عموميتها بتفادي ملاحظات الحس السليم، والانفلات من النزعة التجريبية، غير أن تحديد هذه المقولات لا يستوحي تعريفها واستخدامها حسب كوسيطا من اللّسانيات فقط.       

·        صعوبات فلسفية: إن وضع كوسيطا لمقولات التحليل الخاصة به لا يتجاوز العائق الفلسفي في القراءة الفلسفية للنص، المتمثل في أن كل متن فلسفي يفرض طريقة قراءته الخاصة، هنا يستشهد كوسيطا بفتجتشتاين Ludwing Weittgenstein الذي يقدم نصيحة لقارائه، بأن يعتبروا اللامعنى في قضاياه ليكتسبوا رؤية صائبة للعالم، لكن كوسيطا يلاحظ أن فيتجنشتاين يدعونا إلى القراءة رغم أنه جعلها مستحيلة، لكن يمكن الإفلات من هذه الصعوبة، متى اعتبرنا كل متن فلسفي حاملا لنظرية عامة في المعرفة، والمعنى، واللغة، هذا ما سمح لكوسيطا باستنباط هرمينوطيقا أو نظرية إنتاج المعنى، هنا يقدم مثلا من المتن الماركسي، تحديدا كتاب: مدخل إلى نقد الاقتصاد السياسي، حيث فسر ماركس Karl Marx سبب التحليل المادي بلحظة محددة وخاصة في تطور نمط الإنتاج الرأسمالي، لكن كوسيطا يجد مرة أخرى تأكيدا ومشروعيته للاعتراض السابق ، إذ يرتبط كامل المنهج باللبنة الفلسفية الأساس ويُستنبط منها، ومعايير التقويم نهاية المطاف مبطنة في هذه الفلسفة ذاتها. " الكل يريد الإفلات من دائرة التأويلات، ومع ذلك فالكل في حركة يحاولون من خلالها الإفلات منها، والحال أنهم مقذوفون فيه."[8] هذا في نظر كوسيطا دليل على أننا نواجه ظواهر عامة تبرز المواصفات الخاصة للتفكير الفلسفي، ويتساءل عن كيفية التمكن منها بواسطة الفلسفة دون الوقوع في الانغلاق والانسداد، لذلك يبحث كوسيطا سبل تجاوز هذا الانسداد والصعوبات المنهجية السالفة الذكر.

  لمواجهة هذه العوائق المنهجية يجد كوسيطا نفسه في إحراج؛ من جهة لدينا نظريات قوية في الفلسفة واللّسانيات بلورت تصورا عاما للمعنى، لكنها غير ذات فائدة تطبيقية، ومن جهة أخرى تقترح كتابات إنشائية توضيحية ممتازة أحيانا، لكنها غير قابلة للنقل كمنهج، إما لأنها مرتبطة بموقع في رقعة الفلسفة، وإما لأنها لا توضح سوى سمة محددة في النص، يفهم كوسيطا تعليم القراءة كتعليم لا يمكن أن يكون إلا فلسفيا، لأن التخلص من التفكير أمر مستحيل في كل فعل قراءة، دون أن يؤدي ذلك إلى الاعتقاد بلا جدوى المحاولة المنهجية، بل يقود تحليل كوسيطا للعوائق السالفة الذكر إلى الوعي بخصوصية الفلسفة، باعتبارها نصا يستهدف ما هو كوني، لكن بلوغ هدفه يكون من خلال محو ما هو خاص، فحتى المتون الفلسفية التي تبني وجهات نظر جزئية وخاصة لا تسعى إلى تعميمها، وهذا ما يشجع كوسيطا على البحث في الآليات العامة التي تُنتج بواسطتها الفلسفة باعتبارها كذلك من خلال النصوص، فرغم تعدد أساليب التعبير واختلاف الأطروحات وتنوع الأشكال، فإنه بالإمكان القبض على وظائف أكثر عمومية تحدد ما يكون به النص فلسفيا.

  يدرك القارئ المتمعن في نظر كوسيطا، ظواهر عامة ما وراء الأبعاد الإيديولوجية، وأنواع النصوص                  ( حوار، دراسة، ملخص، رسالة)، وما وراء السياقات الاجتماعية والتاريخية، ويضع يده على ظاهرتين:

·        كل نص هو توسط بين الخاص والكوني، مما يجعل الفلسفات متناقضة وقريبة من بعضها البعض في الآن ذاته.

·        لكل فلسفة متطلباتها التي تناسب خطاطاتها، ونظامها الاستكشافي، ونظامها المنطقي أو نظام الحجج، ونظام عرضها.

  بناء على هذه الملاحظات يستخلص كوسيطا صنافة تنطلق من التركيز على كثافة مستويات ثلاثة في المقاطع داخل النص، وهي المفاهيم، والاستعارات، والحجج، لأن الإجراءات التي تمفصلها عن بعضها قابلة للكشف، لا بد إذن من منهج لا يختزل النص في بعد واحد دون الأبعاد الآخرى، كالتركيز في القراءة على الحجاج أو التحليل المفاهيمي، " الفلسفة تحاجج لكنها لا تُختزل في الحجاج."[9] بما أن الحجاج قد يدثر بأنماط تعبيرية لا تجعله ظاهرا دائما، كما في السخرية والتهكم النيتشويين أو في الوعظ والتقوى الأبيقوريين، فالنص حسب كوسيطا كل مركب وليس مرصوصا وفق طبقات، وقابلا للتصفح فقط، وإنما متسلسل أيضا في خطية الزمن والكتابة ، حيث يتقاطع البعدان بفضل سلسلة من المرجعيات الداخلية التي تستحضر بشكل مثالي مختلف لحظات الإنشاء، فسواء قام المتن الفلسفي على الاستنباط أو على بريق الأقوال المأثورة، فإنه يظل منفتحا على العالم والمعنى، لكن ما السبيل إلى تخطي الغموض الاصطلاحي ومتاهة الحجاج؟ وماذا نفعل بالصور والأمثلة كمنعطفات تبدو معيقة للتفكير؟ يتساءل كوسيطا.

  " حتى وإن أنجزنا ذلك بذكاء، أي بهذا التحكم في المجهود الذي نسميه منهجا، فإنه لا وجود لمنهج عمومي الصلاحية، ومع ذلك هناك قواعد للقراءة، ولملاءمتها مع كل نص(...) القراءة هي التموقع الفوري أمام العمليات التي حققت المعنى، ومنحته وحدته"[10] من المؤكد أن كل فلسفة تفرض وصفا لشروط قراءتها الخاصة، غير أن للقراءة سيرورات عامة ومشتركة، وتخضع لتجارب عامة ومشتركة أيضا، هي التي أراد كوسيطا تبسيطها بتقديم عناصر لا تقيم في مجال التأويل، بقدر ما تسمح برصده، لذلك سيتتبع كوسيطا المعنى من خلال القيام بعمليتين أساسيتين:

·        الوحدة من خلال محددات داخلية: تقوم على كل ما يحفظ للنص انسجامه الداخلي، ومحددها هو التسلسل الخطي للقراءة، بما أن هذه الأخيرة هي الشروع في حركة ذهاب وإياب بين مكونات النص، وبين الجمل التي تشكل الوحدة العامة للمعنى، كما أن القراءة تحدث وفق بعد خطي للزمن، بسبب الإكراه الذي يفرضه الحامل المادي للكتابة، لكن بالتزامن أيضا مع قدرتنا واستعدادنا للتّذكّر، فبتصريف هذين البعدين ينفتح أفق دون نهاية لإعادة القراءة، التي تعيد تتبع آثارها الخاصة أو تتحرك بنقلة أو بقفزات، وتؤسس للقاعدة التي يتحقق التعليق، والتفسير، والتأويل من خلالها. فالقراءة بالنهاية شروع في الاشتغال على فك سنن البنية العامة للنص ولديناميته، أي أن القراءة عند كوسيطا هي تحيين قواعد الوظائف التي تربط المفاهيم بالقضايا والحجج، أو انطلاقا من مؤشرات وسبل وقضايا خفية في النص حتى  على كاتبه، أو من الخارج بتنويع مقاييس مختلفة، مما يسمح بتحديد مكونات النص الفلسفي، وبالتالي التغلب على صعوبات القراءة من خلال التوحيد النصي بمجرد توضيح تحليل العمليات المكونة للخطاب الفلسفي.

·        الوحدة من خلال الوظيفة التعبيرية لضمير المُتكلم: يمنح هذه الوحدة الاسم العلم من خلال وظيفة المؤلف، ومن خلال الصوت الخفي الذي ينمحي خلف الطابع اللاشخصي للمفهوم، هذه المؤشرات العبارية تسمح بفهم الكيفية التي تنتظم وفقها أنماط العرض، وشكل سيرورة التفكير، وتوزيع الكلمة ومنطوق وجهات النظر، أي أن القراءة اندماج القارئ في نسق من الملاحظات يحدد موقعه ودوره، من ثمة يمكنه الوصول إلى ما يجب فهمه في النص، أكثر مما يسمح النص بفهمه، إن اقتراح بدْء قراءة النص الفلسفي بالبحث عن الآثار المضمرة أو المقنعة لإحالة داخلية أو خارجية إلى كاتب النص، هو رسم لملامح الفيلسوف في الفراغ، وتحليل لظلال مجهود الكتابة الرهين بالتطور، لذلك لا ينصح كوسيطا بدراسة عامة لشروط إنتاج الخطاب الفلسفي، التي تأخذ بعين الاعتبار الإكراهات المؤسساتية والتاريخية المحددة لعبارات النص، إذ لا يتعلق الأمر هنا بإقحام السيرة الذاتية في المتن، بل غاية هذا الديدتكتيكي هي الانطلاق من دراسة داخلية لاستخراج العمليات التي يبني من خلالها النص إحالته إلى أبعاد السيرة الذاتية والأبعاد المؤسساتية، فتعلم القراءة في مستوياتها المتواضعة هو أولا نظر إلى تموضع الذات أو ضمير المتكلم، وهو ما يسميه كوسيطا وظيفة الذات/ضمير المتكلم.

v    الجهاز الصوري للعبارة الفلسفية: تبحث القراءة في بدايتها عن علامات مضمرة للعبارة الفلسفية، وتصنف العبارات إلى ثلات مجموعات ضمائر تدرجها في نظام الخطاب، وهي على النحو التالي:

·        يقدم النص نفسه كتعدد صوتي عباري منتظم حول مؤشر قائم على الاسم العلم، الذي يعبر عن علاقة بالقارئ وعن وظيفة المؤلف، وهما أمران لا يؤخذان في الاعتبار أثناء القراءة، ويعبر عنهما كوسيطا بمفهوم وظيفة التّخاطب، بما أن النص جهد لإقناع القارئ، وحثه على التفلسف وعلى تطوير عملية التفكير، لا تؤسس علاقة المُخاطِب والمُخاطِب المشارك (كضمير مُخاطَب) للإطار الذي تجري فيه التحليلات والبراهين فقط، بل تقدم إمكانية فصل داخلانية النصية intériorité textuelle   ( الفضاء/الزمن المتقاسَمان في القراءة) عن عالم خارجي يحيل عليه المؤلف، حيث تسمح الضمائر المستخدمة في النص بتحديد التأكيدات أو الاعتراضات الممكنة، فوجه الآخر هذا مندرج بين السطور داخل النص، ويؤدي في نفس الوقت إلى إدماج تعددية وجهات النظر، وإلى رفض أو إضفاء الطابع النسبي على هيمنة الأطروحات التي يدافع عنها النص.

·        لا تكتفي النصوص الفلسفية بعرض الأطروحات المستنتجة من المفهمة والحجاج على طبق جاهز ومتسلسلة خطيا، بل إنها تتراص وفق خُطط مختلفة، بفضل تحديد المنظور من خلال الإجراءات القائمة على مؤشرات ما يسميه كوسيطا الجهاز الصوري للعبارة الفلسفية، أي تلك المصفوفة التي تنتج مجموع العلامات النصية التي تشهد على حضور الذات المتكلمة؛ فالذوات تضع الخطاب الفلسفي بالقدر نفسه الذي يقوم هو بوضعها؛ " تفترض قراءة النص فهما حدسيا للعلاقات التي وضعها الأشخاص أيضا، فتحليل نص ما يفرض إضمار القواعد التي يتحدد بفضلها مجموع مركب من التأثيرات النصية."[11]  

·        من الضروري حمل النص على هذا الجهاز الصوري للعبارة الفلسفية، دون أن يعني ذلك إمكانية اختزاله ميكانيكيا، بل انطلاقا من البنية الأولية تتأسس مجموعة من الإجراءات تنساق ضمن الخصوصية الحوارية للعبارة الفلسفية، وضمن الخصوصيات العبارية لكل مذهب أو نظرية، وكذا ضمن الأشكال المتنوعة للعرض، وأخيرا ضمن التخييل المبدع الذي يلائم اللغة والمحمول بوظيفته الإبداعية الخاصة، ورغم أن بدء دراسة نص فلسفي من تحليل الأشكال العبارية يبدو مفارقا، لأن النص يتسم عادة بالطابع اللاشخصي والكوني لرؤيته، فإن النصوص التي تستخدم ضمير المتكلم كثيرة ومتعددة، لذلك كان الوقوف على هذه الوظيفة ضروريا أثناء القراءة، لما للإجراءات العبارية من دور مهم في البنية الحجاجية، والتحليل المفاهيمي، وأنماط العرض، فهذا مجموع خصائص النص المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالبنية الصورية للعبارة الفلسفية، والتي تيسر بفضل هذا المنهج الولوج إلى النص.

   يسمي كوسيطا نتيجة عمل كتابة الفيلسوف الذي يقدم سيرورة التفكير داخل النص بالمشهد الفلسفي scène philosophique المركب من مجموع الإجراءات المشتقة من البنية العبارية، والذي يغتني بالتركيب والتنويع، على أن خوض هذا التعقيد بفحص تفصيلي للكيفية التي تفتح بها مكانة كل بنية سجلات مختلفة للعبارة الفلسفية؛ فوضعية المشهد الفلسفي تحدد قطب الوحدة النصية، وحضوره الثابت يضمن دعم مجريات التفكير، لأن النص يتبنى منظورية خاضعة لبناء حامل لحضور الصوت، ولغياب الجسد، يقدم تصوره الخاص، إذ العبارة الفلسفية تعبير عن تحليل فلسفي، يضع له كوسيطا الوظائف التالية:

·        وظيفة النظام العباري: العبارات محمولة دائما على ذات مرجعية، حيث يتمفصل المُخاطِبون من خلال المؤشرات التي يحددها المؤلف أو المُخاطِب، باعتباره مُنتِجا للنص.

·        الوظيفة الديداكتيكية البيداغوجية: وهي الوظائف التي تحدد قابلية النص للفهم، والطريق الذي يقود إلى التحكم المذهبي.

·        وظيفة البعد السجالي والحواري: هي الوظيفة التي تؤسس لمجال بين نصي بترسيخ إعادة تهيئة وإعداد عملية التفكير.

  تشمل المرحلة الأولى من القراءة عند كوسيطا الإجراءات الموالية:

·        تحليل تنوع النظام العباري في النص.

·        تحديد وظيفة الضمير ( مُتكلم – مُخاطُب – غائب).

·        وضع خطاطة التفنيد والبعد الحواري في النص.

أما المرحلة الثانية من القراءة فتنصب على بناء الوظيفة المفاهيمية من خلال ما يلي:

·        السيميائية المفاهيمية: " إذا لم توجد فلسفة دون مفهوم، وإذا كان المفهوم وظيفة، فإنه من الواجب تعلم تحليل الكيفية التي تنبني بها دلالة المفاهيم داخل النص، والأدوار الموكولة إليه في الخطابية الفلسفية."[12] يتم البدء أولا بترسيخ وتحديد معنى المصطلحات من خلال التعريف الاصطلاحي، على أن اختيارها مرتبط بإجراءات معقدة وخاصة، يسميها كوسيطا سيرورة إنشاء المعنى، الذي قد يتم ترسيخه في مقطع مخصوص داخل السيرورة النصية ( الفصول الأساسية التي يبني من خلالها الفيلسوف جهازه المفاهيمي)، حيث يتبنى هذا الديداكتيكي قولة جيل غاستون غرانجي G.G. Granger: " بصريح العبارة، لا توجد إطلاقا لغة فلسفية، بل هناك فقط استخدام فلسفي للغة."[13] إذ بهذا النشاط المقولي تُنظم المذاهب والنظريات عالم اللغة، من ثمة لن يصلح وضع معجم فلسفي عام، لأننا نتحدث في الفلسفة عن حمولات اصطلاحية للمفهوم، تختلف من عصر إلى آخر، ومن مذهب إلى آخر، بل ومن فيلسوف إلى آخر.، وبالتالي لا بد من تحديد الحقل المفاهيمي انطلاقا من السياقات والعلاقات التي تربط المفاهيم، وتصبح بدورها مفاهيم تتدخل في تحديد معنى النص، أي أن المفاهيم ليست جاهزة و إنما يتم بناؤها.

·         تنوع المفهمة الدلالية في علاقتها بالمُخاطِب: ينطلق كوسيطا من نص لدفيد هيوم               D. Hume مساجلا جون لوك J. Locke  حول مفهوم الانطباعات، حيث تظهر في النص العناصر الموجهة للقراءة، أي على المستوى العباري (وظيفة الضمر المُتكلم والمُخَاطب في النص) ، والبعد الحواري السجالي، لذلك يدعو كوسيطا إلى الوقوف في النص على:

·        استخراج المستوى العباري الذي يفتح التعريفات التي يتحمل المؤلف من خلالها مسؤولية ملاءمتها مع الإملاءات اللغوية، والمحددات مخصوصة.

·         بناء السجلات المفاهيمية التي تسيطر على الحقل المفاهيمي وتحدده، كتمييز هيوم الانطباعات عن الافكار.

·        انفتاح المصطلحات على المفهوم حيث تصبح مقدمة بشكل أوضح من خلال الأمثلة، لتأتي مرحلة الحجاج كدفاع عن اختيارات المؤلف المفهومية.  

  يرى كوسيطا أن النواة التعريفية تتضمن وجوبا ما يلي:

·        المصطلح الدَّال : اختيار المصطلح وتثبيت الدَّال؛

·        المعنى : الملامح التعريفية، والعناصر التمايزية التي تحدد العلاقات بين المفاهيم؛

·        المرجع : عنصر فوق لغوي يترجمه المثال والحالة الخصة؛

  على أن إجراءات أخرى تطبق على هذه النواة التعريفية :

·        التصريح الفوق دلالي : تسمح للمؤلف بالتوضيح والاستدلال أو للتعليق على مساهمته التعريفية، إضافة إلى كل التنويعات والأساليب التي تشهد على حضور أو غياب الذات المُصرِّحة، وعلى الجهاز التوزيعي في الفضاء السجالي، وهي العناصر التي تلعب دورا في إنشاءات المعنى.

·        استعادة ما وراء النصية : حضور المتكلم والبعد السجالي وارتباطهما رهين بإعادة التصريح بدلالات معتبرة لمفهومين من نفس الجذر اللغوي. ( مقطع من نص كانط: وبالنهاية حتى لا نخاطر بالتعرض لسوء الفهم نعني بلفظ إحساس...)[14] .

  في مقابل النصوص التي يظهر فيها المتكلم في شخص الفيلسوف مسيطرا بتحديداته للمفاهيم، ترد نصوص أخرى بصيغ لا شخصية تقرب القارئ من المضمون التعريفي، رغم أن الإثبات مبني إلى المجهول، ولا يُحمل على متكلم بعينه، بل يكون غائبا في النص، لأن الفيلسوف مطالب دائما بالانتباه إلى المعنى، مما يقوده إلى تسجيل ملاحظات حول اللغة بشكل عام، وحول الوضع الفلسفي للدلالة، وبالتالي يجد نفسه مطالبا بتوضيح استعماله الفلسفي للغة، من هنا تلعب سيرورات إعادة بناء المعنى دورا أساسيا في اللحظات الأولية لبلورة النظرية أو المذهب، على أن التعريفات ترتبط بالوضع العام لسؤال المعنى داخل المذهب أو النظرية، إذ يكشف كوسيطا عن علاقة بين سيميائية المفاهيمية والتحليل الفلسفي، حيث تخضع مصداقية بعض المفاهيم إلى إمكانية الإحالة على أخرى داخل نفس النسق، من ثمة يسمح هذا المعيار بإقصاء دلالي لبعض المفاهيم والموضوعات المرتمية في الغموض الميتافيزيقي، ويلاحظ كوسيطا أن جزء مهما من التحليل ينصب حول توضيح المعنى، على غرار الفلسفة التحليلية الأنجلوسكسونية المعاصرة التي تقوم على تحليل اللغة العادية، يتبنى كوسيطا مايلي على التوالي:

·         إضفاء الطابع السميائي لإنشاء الحقل المفاهيمي للنظرية أو المذهب.

·         تفكير منهجي حول مشكلة المعنى في التعابير الفلسفية، وترجيح ما يحمل معنى وما لا يحمله.

·         إمكانية إقامة التحليل كاملا على اعتبارات المعنى في بعض الحالات، كما في الفلسفة الأنجلوسكسونية المعاصرة.

    يؤكد كوسيطا أن الاختيارات التعريفية والاسمية ليست عشوائية، بل تكشف النصوص عن تبرير واستدلال مؤلفيها لتحديدات، و تحملهم مشقة البرهنة على اختياراتهم، لذلك لا يتردد هذا الديداكتيكي في اعتبار أن الإجراءات الدلالية تكتسب مصداقية مهما كان شكل التحليل الذي يُطبق عليه، غير أن تبرير السيرورة التعريفية والدلالية ليس ضروريا في نفس الحظة  التي تُطبق فيها عملياتهما، بل يكفي أن يكون المعنى أو التعرف ظاهرا في في المذهب أو النظرية؛ " هكذا يستخدم سبينوزا بغتة تعريفات بداية كتاب الأخلاق، لكن توجد نصوص يعرف فيها ما هو التعريف، وهذه مشكلة في حال لم تستطع نظرية التعريف والمعنى بشكل عام التبلور إلا بالمفهوم، الذي يرتبط هو ذاته بهذه التعريفات الأساسية."[15] إن الاهتمام بالدلالة المفاهيمية ليس خارجيا عن الممارسة الفلسفية، لأنها تلعب دورا أساسيا في بناء عالم من الدلالة المستقلة، أي أن وظيفة المفهوم هي الطريق الأكثر وضوحا نحو معنى واضح كذلك، لأن المفهوم الفلسفي عند كوسيطا فاعل إجرائي نصي، يؤدي بفضل خصائص اللغة إلى تصنيف الواقع أو الكائن وإدراجهما ضمن مجال ما يمكن أن يقال، بما أن المفهوم لا هو الشيء ولا اللفظ أو الكلمة، وليس كلية بسيطة بقدر ما هو مركب وظيفي تدبر وفقه كل نظرية مكوناتها لصالحها؛ يستطيع الفيلسوف توظيف تلك المكونات بشكل متداخل حينا ومتزامن حينا آخر، لكن دائما ضمن أنواع: فعندما نصادف مصطلحات تدل على الزمان، والإمكان، والكائن ... علينا الانضمام ذهنيا إلى معنى محدد، و إلى إحالة مرجعية بعينها، وهي العلاقات التي يسعى كوسيطا إلى الكشف عنها في فعل القراءة، ذلك الكشف لا يتأتى إلا بالمفاهيم التي تفترض تحليل الإجراءات التي يصرح بواسطتها الفيلسوف عن العلاقة بين المصطلح الدال والمعنى والمرجعية، هذا العمل التعريفي لاختيار المصطلحات وقواعد استخدامها، التي تبني مفاهيمية نظرية ما، هي التي تؤسس السميائية الفلسفية؛ فالمفهوم ليس العنصر المستهدف من طرف التفكير الذي يقوم ببنائه فقط، بل الوسيط بين الإجراءات التي يحاول الكاتب من خلالها إضفاء المعقولية على معطياته المرجعية، لذلك يدخل المفهوم في ثلاثة أنماط من العلاقات حسب كوسيطا:

·        كل مفهوم مشارك في مجموع يضم مفاهيم أخرى موزعة في النص، أي الكل الذي يشكل الحقل السيميائي للنظرية أو المذهب.

·        يدخل المفهوم كعنصر في القضية أو الجملة بوصفها دعامة عبارية، وهو نواة ضمن بنية حملية تؤدي إلى وضع الأطروحة، باندماج في السيرورة الاستدلالية.

·        العلاقات السيميائية والحملية متفاعلة مع المرجعية التي تنظر من خلالها النظرية أو المذهب إلى العالم، لإضفاء معنى عليه.

  يضع تفعيل المفهوم إذن ارتباطا قويا بين البعد السيميائي الدلالي، والبعد المنطقي، والبعد الأنطولوجي، فتنوع العروض التعبيرية التي تتبناها المذاهب الفلسفية خاضعة للكيفية التي تركب أو تفصل من خلالها هذه العوامل الثلاثة. غير أن المفهوم رغم ذلك لا ينفصل عن التعريف، حيث يضعنا كوسيطا أمام تعريف التعريف، ويؤكد أن كل تعريف فلسفي خاضع لمذهب معين أو نظرية، أي أن تعريف المفهوم هو ترسيخ لمعنى ولمرجعية، وإنتاج علاقتها وإعطاء قواعد إعادة استخدامها، فكما يحدد المفهوم نواة تعريفية تكون امتداداتها إظهارا أو إغناء للمعنى، مما يعني أن التعريف هو إعادة تخصيص سيميائية في نظر كوسيطا، رغم كونه سياجا تعريفيا يحدده المستوى العباري، فإنه يضع المصطلح والتيمه باعتباها شارات طريق، للانتقال إلى مستوى ما فوق التعريف، حيث تؤدي التعريفات إلى تولد المفهمة الخاصة بالمذهب  أو النظرية، لتقترح قواعد لإعادة كتابة المفهوم وفق أشكال أخرى، مما يعني انتقالا من اللغة إلى المفهوم، أي من الحقل الموضوعاتي إلى الحقل المفاهيمي، هنا يستحضر كوسيطا غرانجي مرة أخرى، حيث يطرح هذا الانتقال استعمالا فلسفيا للغة، دون اعتقاد بوجود لغة فلسفية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك؛ فالحقل الموضوعاتي هو مجموع التحديدات المصطلحية القبلية الوجود في المذهب أو النظرية، مهما كان مجال ظهورها الأولي، حيث ينبغي دائم تحديد الدلالة القبلية للموضوعة ومجال ظهورها، من أجل تحديد الفرق الذي ينتج عن إدماجها في سياق جديد، أما الحقل المفاهيمي لنظرية فيتكون من إدماج مصطلحي في كلية سيميائية، أي أن المفهمة لا تكون مفسرة دائما، بل تخضع لمقتضيات بلاغية مجازية، إضافة إلى خضوع اللغة الطبيعية إلى تقنيات تأثيلية وممارسات في وضع مصطلحات جديدة، حيث يُطرح مشكل الترجمة هنا بقوة، من هنا نكون حسب كوسيطا أمام معجم تقني وغموض فلسفي في الآن ذاته، مما يجعل القارئ أمام نص مبهم بسبب تسييج مرجعي يمثل صعوبة فعلية في النصوص الفلسفية، لأن علاقة الفيلسوف باللغة رهينة بفلسفة في اللغة، لذلك كان من الضروري تشييد بنية دلالية للحقل المفاهيمي، فإذا حاول اللسانيون تحديد العلاقات بين عناصر الحقل المعجمي بتحليلها وفق معايير صورية، فإن السميائيين استحدثوا مقولات ما فوق لسانية من أجل إظهار وتحليل هذه العلاقات، التي ترتد إلى ثلاث أساسية: الاسم المندرج Hyponymie ، والنقيضة، والتعارض، ومنها تشتق باقي العلاقات كالتضاد والمترادفات وغيرهما، من هنا يفهم كوسيطا أن المفهوم هو الذي يصنع النسق، فبقدر ما يصنع النسق المفهوم، بقدر ما يحدد هذا الأخير حقلا مقوليا آخر، يقدم كوسطا المثال[16] التالي على ذلك:


 

  

 

    

                             

  لا يقف النص الفلسفي عند العمليات والعلاقات الدلالية فقط، بل يعيد أخذها إلى مستوى موضوعاتي ظاهر أيضا، إضافة إلى أن العلاقات بين المفاهيم يمكن أن تصبح بدورها مفاهيم، ويقوم الفيلسوف بهذه العمليات في تقدير كوسيطا من خلال الإجراءات التالية:

·         معارضة  مستويات التراتبية بين المفاهيم بواسطة الاسم المندرج، فالانطباعات والأفكار عند هيوم مثلا  أسماء مندرجة بالنسبة إلى الإدراكات.

·        تمييز العلاقة من خلال تمييز العبارات والاشتقاقات الممكنة للمصطلح.

·        الوقوف على الهوية والاختلاف والسببية التي تتبلور هي ذاتها مفاهيميا كمقولات أساسية للنسق الفلسفي.

   يمكن لكل العلاقات التي تضم مفهمة نظرية ما أن تخضع بدورها للمفهمة، بما أن الفلسفة حسب كوسيطا متميزة بالتفسير الذاتي لمقولاتها الدلالية، لأن خاصية الفلسفة الأساسية تكمن في كونها هي ذاتها موضوع من موضوعات العالم وتخضع للشبكة المفاهيمية التي تضعها بنفسها، من ثمة تكون القراءة موجهة بمرجعية نصية مستقلة Auto – Référence Textuelle ، حيث يقوم النص الفلسفي على مكان/ زمان القراءة المتماسكة، بفضل نسق المؤشرات والإحالات ( قلنا سابقا...)، ( سأتناول لاحقا...)،  ( عندما تقرر أن...)، يسمح الاعتماد على التزامن في مكان وزمان النص بتحديد مستقل أو ذاتي، كما يسمح باقتطاعات وبتراجعات إلى المقاطع التي تستأثر باهتمام القارئ، سواء من أجل الذاكرة ( الانسجام) أو من أجل التوضيح ( التصنيف) أو من أجل إعادة توجيه ( التعميق)، بهذا المعنى يؤسس النص لنفسه عالمه المرجعي الخاص، ويمكن للنص تحقيق هذه المرجعية المستقلة من خلال طريقتين:

·         تفضيل انفصال بين لحظة التصرح وما تحيل إليه، مما يحول كل الأماكن وكل لحظات التحليل حاضرة افتراضيا.  

·        تفضيل التزامن والفعل التعبيري بواسطة خاصية البناء للمجهول التي تسمح للنص أن يحدد ذاته بذاته، ويمحو المسافة الفاصلة بين الفعل الهادف والموضوع المستهدف.

  يجد كوسيطا مثالا للمرجعية المستقلة أو الذاتية للنص في المحاورات السقراطية، التي تبرز محاكاة النص للطابع الحواري ، والموقع الحاسم الذي تتخذه العبارات في تحديد المعنى والوصول إلى الحقيقة، كما وجدها في نصوص دافيد هيوم التي لا تخلو من أشكال تعريفية تؤدي إلى تقاسم الدّال الأمثل للمفهوم، لكن هذه العدة الذهنية مرتبطة بالفعل الذي يتجاسر القارئ من خلاله لفهم ما يقوم بقراءته، وهذا النوع من الإثبات المستقل مرجعيا يتلافى البراهين الطويلة، إذ تستمد مصداقيتها من فعل القراءة ذاته؛ " نتذكر أن الكوجيطو الديكارتي ليس قضية يقينية إلا حين نعبر عنها، مما يبين خضوعهاها لفعل التعبير."[17]  لقد وجد كوسيطا نفسه بعد بيانه لهذا البعد العباري أمام تحديد الوظيفة الفلسفية للمثال وللحالة الخاصة؛ فللمثال وظائف أربع:

·         الوظيفة الديداكتيكية: دور المثال أو الحالة الخاصة في تعديل الآراء والمواقف الأولية الخاصة بالقارئ، ومن ثمة تسهيل الفهم عليه.

·         الوظيفة الأنطولوجية: يقوم المثال أو الحالة الخاصة بملاءمة تواجد العالم في الخطاب، بل وخضوع العالم لنظام الخطاب.

·         الوظيفة الاستكشافية: Heuristique  حيث يكون المثال دعامة وصفية تُبنى من خلالها المفهمة.

·         وظيفة المصادقة: حيث يلعب المثال والحالة الخاصة دورا في المصادقة على الأطروحات، وفي تقاسم الكاتب والقارئ مجال تجربة مشترك.

  غير أن استعمال المثال في حاجة إلى ملاءمة فلسفية، إذ تنفتح أمام الفلاسفة إمكانية التفكير بشكل صريح في استعمالات المثال داخل نصوصهم بفضل الوظيفة الفوق نصية، ويستطيعون إبراز الوضع الفلسفي للمفهوم، وتحديد العلاقة بين العام والخاص، يستشهد كوسيطا بكانط، الذي يشرح الأسباب الداعية إلى الحد من استخدام المثال ( مدخل الباب الثاني من نقد العقل الخالص حول ملكة الحكم ص 221- 222 ترجمة Alain Renaut)، باعتباره عاملا يشتت الفهم، وبالتالي تكون دراسة الأمثلة والحالات الخاصة داخل النص الفلسفي ضرورية لتحقيق الفهم، أي تحولها من عائق وفق التصور الكانطي إلى عامل مساعد و ميسر لعملية الفهم، لأنها تدفع إلى مساءلة طبيعة الفلسفة.

v    الوظيفة المجازية للنصوص الفسفية: بين كوسيطا في فصول كتابه الأولى الكيفية التي يساهم بها الوصف، والتعريف، والمثال، والمفهمة في الصياغة العامة للنص الفلسفي، لينتقل في الفصل الرابع إلى بيان وظيفة المجاز الذي يؤخذ بمعنى تكويني، بما أنه يطرح التعارض بين التجريد والتجسيد، كما أنه مكون إلى جانب المثال والوصف في البناء الأنطولوجي للمذهب أو النظرية، مما يعني أن كوسيطا لا يتناول المجاز لتحديد الوضع البلاغي للفلسفة، وإنما تحديد وظيفة المجاز داخل النص الفلسفي؛ فرغم استبعاد المجاز من الخطاب الفلسفي عند الكثير من الفلاسفة، واعتراف البعض الآخر بوظيفته الجمالية فقط، حيث ظل المجاز عنصر تشويش على المعنى في الخطاب الفلسفي، باعتبارها فلسفة قطعت الصلة بالمجاز بمجرد انفصالها عن الأسطورة، وهو انفصال عن الصورة بشكل عام، إذ تظهر علاقة بين المجاز والمفهوم كالعلاقة بين الكلمة وما لا يمكن النطق به، أي أن المجاز سبب في انكسار التسلسل الاستدلالي، وقطع انسجام التقديم المفاهيمي، لذلك اجتهد الكثير من الفلاسفة في تنقية لغتهم من كل شوائب الغموض، لكن فريقا آخر على قلة أفراده اعتمد المجازات والاستعارات بشكل مكثف في النصوص، أي أن للخطاب الفلسفي إمكانية إدماج المجازات دون إخلال بالتحليل، بل لا توجد لحظه صفر في العملية المجازية حسب كوسيطا، لأن اللغة تحمل جزء من الصور، لذلك أكد بعض المؤلفين استحالة تطهير اللغة الفلسفية من المجاز والاستعارة؛ " فسر بعض الكتاب منذ أرسطو Aristote إلى بالي Charles Bally ( 1865 – 1947) استحالة التفكير الخالص بنقص في النفس الإنسانية."[18] غير أن العلاقة بين المفهوم والصورة أكثر تعقيدا مما يمكن تصوره، وهو السياق الذي كتب فيه جاك ديريداJ. Derrida  دراسة بعنوان: " الميثولوجيا البيضاء" يحدد من خلالها هذه العلاقة، حيث يبدو المجاز تهديدا ودخيلا على الحدس، رغم وظيفته التماثلية من خلال المحاكاة والمماثلة وفق مبدأ اليهوية، فمعارضة الحدس والمفهوم والوعي لم تتم ملاءمتها، وهي في الواقع قيم تنتمي إلى نظام وحركية المعنى، كما أكد ديريدا.

  يبين كوسيطا من خلال استحضاره لموقف ديريدا المتعلق بعلاقة المجاز بالفلسفة، وعلاقة هذه الأخيرة بالصورة، أنواع الصور، والمجازات، والمماثلات، لتحديد وظيفتها وأثرها في المعنى الذي يتبلور ضمن المفهمة،  كما أن الدلالة الفلسفية لاستخدامها لا تظهر إلا باختبار القواعد التي تحكمها، أي القواعد البلاغية والخطابية، لذلك يحدد كوسيطا المفاهيم بتقديمه تعريفات لكل من المجاز والصورة والمماثلة، ثم يؤكد أن المماثلات والمقارنات والأمثولات والأساطير والصور والمجازات خاضعة لنفس المبدأ، وتخلق تفاعلا ضمن التركيب النصي، وليست مجرد زخرفة أو ترف بيداغوجي، بل يندرج المسار المجازي في التشكل الفلسفي، ليس ضمن النصوص التي توظفها فقط، وإنما حتى في الخطابات الفلسفية التي تحصر استخدامها، لذلك فالعملية المجازية هي نقل خصائص مجال مرجعي ملموس ومصور إلى سلسلة نصية مجردة تهيمن على النص، من هنا يصنف كوسيطا أنواع المجازات التي تحضر في نصوص الفلاسفة، من أجل إثبات الوظيفة الجوهرية التي تكون للمستوى البلاغي في فهم معنى النصوص، لذلك يقترح كوسيطا خطاطة مجازية Schéma métaphorique  لتحديد طبيعة الانتقال من المفهومي إلى المصور، حيث يتم الانتقال من صورة إلى أخرى نحو المفهوم، وهو التتابع الذي يكون منسجما، بما أن المجاز مندمج في النظريات والمذاهب الفلسفية، من ثمة يكون تقييم أهمية المجاز في النص الفلسفي من خلال معايير حسب كوسيطا، الأول كمي والثاني قائم على الصيغة الفلسفية للمجاز، أما الثالث فيرتبط بالتعديل المجازي أو المفاهيمي، ثم أخيرا الوضع الفلسفي للمجاز داخل النص، مع ذلك يعتبر كوسيطا توظيف النص للمجاز مغامرة تفرض التحكم في آليات الاستخدام.

  أما على المستوى الاستدلالي فيميز كوسيطا في النصوص الفلسفية بين نوعين؛ نصوص برهانية و أخرى حجاجية، فالأولى تنتظم حول قواعد العرض القائمة على الاستدلال البرهاني كما هو الحال في كتاب الأخلاق لسبينوزا، وهي نصوص يغلب عليها المنهج الاستنباطي، أما النصوص الحجاجية فتعتمد على المجازات والاستعارات، ويغلب عليها الطابع الخطابي، وهناك العديد من العوامل التي تزيد من الجرعة البرهانية أو الحجاجية في النصوص، على أن المركب النظري للخطاب الفلسفي يمكنه استخدام أشكال عرض مختلفة تبعا لغرض المؤلف، سواء أكانت ديداكتيكية أو حوارية أو سجالية، وهو ما وجد له كوسيطا نموذجا في نقد العقل الخالص لكانط، حيث تحضر البرهنة و الحجاج جنبا إلى جنب، رغم خضوع الأخير لنظام الأولى، فما يسميه كوسيطا المشهد الفلسفي هو المتحكم بالنهاية في الطريقة التي ينتظم بها الاستدلال في النص، الذي يسعى دائما إلى انتزاع مصداقيته الخاصة ضمن الخطابات الفلسفية الأخرى، لذلك يحلل هذا الديداكتيكي الكيفية التي تندمج بها البرهنة و الحجاج، وارتباطهما بالسيرورة العبارية بما للضمير المتكلم أو الغائب من دور في تحديد مسار الاستدلال في النص، مما يؤدي إلى تحديد الآثار الديداكتيكية والبيداغوجية للاستدلال، خاصة حين يرتبط بالأشكال السجالية التي يحضر فيها الإثبات والتفنيد، بما أنها تجسد حوارا سجاليا بين الأطروحات، بعبر عن جوهر التفكير الفلسفي.

v   القراءة الفلسفية حسب جاكلين روس J . Russ  

   تتناول روس القراءة بوصفها دراية أو بالأحرى مهارة؛ إنها فعل يتم طيلة السنة، لكن كيف نقرأ ونلج النصوص؟ وكيف نستخلص الأفضل من قراءتنا؟ القراءة أولا وقبل كل شيء فن، لكنها في مجال التدريس في حاجة إلى منهجية، بما أن "القراءة الفلسفية قائمة على تعلم التفكير"[19]  لأن قراءة نص فلسفي لا تتعلق بالإجراءات والعمليات التي يتكوّن من خلالها القارئ في نظرية أو مذهب ما فقط، بل كذلك بمجموع الأفعال التي يتآلف بواسطتها القارئ مع النصوص، وهي الأفعال التي تعمق تمرينه على التفكير، فقراءة النص هي أجرأة وانعطاء للمعنى، لكنها انعطاء دينامي وشخصي، لذا تتساءل  روس عن كيفية الظفر بهذا الذي يمنح ذاته، وعن المنهجية الكفيلة بوضع اليد عليه.

  إن الوصول إلى المعنى الذي يكشف عن ذاته عبر فعل القراءة مشروط باعتبار القراءة سيرورة جماعية، وحتى لا تصبح القراءة غمرا يراكم المؤلفات تقدم روس مجموعة من النصائح:

·        تنظيم القراءات بواسطة التيمات أو المؤلفين.

·        الانطلاق من بنيات و الآليات الأساسية الأكثر بساطة وسهولة بوضع لوائح مراجع معقلنة.

·        قراءة ما يفهم بوضوح من أجل الولوج تدريجيا في نُظم أكثر تعقيدا.

  يمكن القيام بهذه السيرورة جماعيا، إذ توجد قراءات متنوعة ومتعددة لنفس النص الفلسفي، لذلك كانت القراءة الجماعية إجراء عمليا لخصوبة الفكر، من هنا تأخذ القراءة عند روس دلالة جماعية مشتركة، وبالتالي تصبح تمرينا بما يحمله هذا الأخير من جدية وقصدية فكرية، فالقراءة – التمرين عند روس ليست هي القراءة – الهروب، ولا هي القراء – الثقافة؛ فالأولى تفتح الطريق أمام التخييل وتسمح بالانفصال عن الواقع، بينما تسعى الثانية إلى تنمية الحمولة الثقافية، أما القراءة – التمرين فهي التي يستعد من خلالها المتعلم للامتحان، أي أنها قراءة فكرية وعقلانية يستعد من خلالها القارئ للتعامل مع نصوص معينة بطريقة معينة، وهذا النوع من القراءة دينامي متفاعل، وليس مجرد سلب وانفعال، لأنها مدفوعة إلى تحديد الأفكار الموجِّهة للنص، إلا أنها قراءة غير منفصلة عن الكتابة؛ " ينبغي في الحقيقة العمل أثناء القراءة والقلم في اليد."[20] إن ارتباط القراءة بالكتابة يؤدي حسب روس إلى ضرورة وضع جذاذات حتى لا تضيع القراءة والمجهود من أجل الفهم، غير أن أخذ رؤوس الأقلام خاضع للشروط التالية:

·         التعبير عن المفاهيم والمقاطع الأساسية بلغة شخصية من أجل الإفلات من النسخ الآلي للنص، ومن الإنتاج السلبي الخاضع والعقيم. قد تكون عملية إعادة صياغة النص هذه بعد القراءة، لكن يجب أن تحرص على إظهار الأسلوب الشخصي في التعبير.

·        وضع تركيب أو تنظيم واضح للحركة الفكرية الخاصة بالمؤلف

·        تحرير جذاذة، بما أن فن القراءة عند روس لا ينفصل عن إنجاز جذاذة قراءة من خلال: التيمات، والمفاهيم، والمؤلفات، والمؤلفين، مع الأقوال والتعريفات المرتبطة بها، والتي تؤخذ أثناء القراءة، لذا تقترح روس جذاذة القراءة التالية: ( جذاذة قراءة المؤلفات)

 


 

  يفترض مجموع هذه الإجراءات ذاتها تطبيق النظرة المسحية والمطالعة الاستكشافية؛ فالأولى قراءة انتقائية، إذ توجد كتب لا تتطلب قراءة كاملة حسب روس، بينما الثانية مطالعة سريعة من أجل تحديد الموضوع العام، وكذا تحديد العناصر الإرشادية حسب مطلب القارئ، حيث يمثل التراكم المهول للمعارف الإنسانية حاجزا موضوعيا أمام المتعلم، لذلك لا بد من انتقاء يقف على ما هو أساسي وتفادي ما هو هامشي، ويتم بذلك التركيز على التيمات الأساسية الموجِّهة لمسار المتن، كما تمنح المتعلم شبكة للبحث والتفكير، لكنه في حاجة إلى منهجية سليمة للقيام بهذه المطالعة الاستكشافية دون تعارض مع الدلالة العامة للمتن أو لفصل من الفصول، إذ تضمن المنهجية الجيدة فاعلية القراءة وعدم التعارض مع المضامين الأصلية، لذلك تنصح روس بما يلي:

·         قراءة المدخل الخاص بالمتون المقررة، إذ غالبا ما يُكثف الكاتب أفكار الكتاب الأساسية، ويقدم التصميم الذي يعتمده الكاتب، بل يقدم بعض المؤلفين تلخيصا في المدخل لكل فصول الكتاب، وهذا الإجراء مساعد على إدراك الخيوط الناظمة للمتن.

·        جرد الفهرس كإجراء يمكّن من إدراك بنية الكتاب وتنطيمه، حيث يرشد القارئ إلى الطريق الذي ينبغي اتباعه، والفصول التي تبدو مفتاحية في المتن، وبالتالي فالفهرس هو جوهر الكتاب بما يقدم من أداة ثمينة للقيام بنظرة استطلاعية أو قراءة استكشافية.

·         عدم إغفال قراءة الملاحق والمعاجم التي تحوي المفاهيم والمصطلحات التي تلعب دورا حاسما في توجيه الفهم.

·          الوقوف على المقاطع أو الفقرات التي تهم القارئ حسب حاجته، وتسجيل رؤوس أقلام للعناصر الأساسية، وهو الإجراء الذي يفيد في إعادة القراءة.

·        من أجل القيام بنظرة استطلاعية خصبة لا بد من التمرن على الكلمات المفتاحية وعلى القراءة المُسائلة والاستباقية.

 الوقوف على الكلمات المفتاحية من خلال القراءة المسحية التي تكون هنا اقتناصا للمصطلحات المفتاحية، التي تحمل معاني غنية، أي وضع جدول للمفاهيم ( المصطلحات المفتاحية) يسهل حل عقدة التحليل المؤسس للمتن، حيث يمكن أن يتحول الجدول إلى خطاطة تحكمية لاحقا، إضافة إلى اعتماد المُساءلة قبل القراءة أي طرح السؤال حول : من؟ أين؟ متى؟ كيف؟ انطلاقا من أي شيء؟ ما هو؟ هذه المساءلة هي التي تحدد القصد والانتظارات من القراءة ، بهذا المعنى تصبح هذه الأخيرة انتقائية وإجرائية، وهي في نفس الوقت تفاعلية دينامية، وأكثر من ذلك قراءة استباقية، هذه الأخيرة عبارة عن توقفات أثناء القراءة من أجل فك سنن الاستدلال والتحليل؛ مثلا الارتماء في المنطق الترنسندنتالي لنقد العقل الخالص، يجبر القارئ على متابعة الاستدلال بنفسه؛ " ألا تقوم القراءة الذكية بالأساس على الاستباق."[21]  انطلاقا من الكلمات المفتاحية والاستباقية إذن يمكن للقارئ استطلاع أو تعميق متابعة النص حسب حاجته، من ثمة يكون تعميق القراءة أجراء ضروريا، خاصة أن كل نص يفرض قراءات متعددة في مستويات مختلفة، لذا يمكن للقارئ تعميق فهمه للنص من خلال الوقوف على الفصول والمقاطع العميقة قصد إدراك الإشكاليات والصعوبات التي تطرحها، لمعاودة القراءة المسحية مرة أخرى، مع الوعي بأن القراءة المسحية والتعميق متكاملان غير متعارضين.

  تبقى القراءة رغم الإجراءات السالفة الذكر رهينة بالتمرّن على صياغة التركيب للنصوص، بما أن التركيب في تقدير روس تعميق تكميلي ومناسبة لممارسة التفكير، فالتمرين على التركيب هو تمرين على التلخيص، أي تحديد التيمه الأساسية والفكرة الموجِّهة، والمشكلة، مع الشروع في نفس الوقت بتحليل وإعادة بناء تركيبية للنص أو المقطع، فمثلما يجب تقسيم وتحليل النص يجب توحيده وتركيبه لتحديد فكرته الموجهة، فأثناء القراءة لا بد أن تكون النصوص التي تبدو أساسية موضوع تقرير حالة compte rendu دقيق ومختصر للمقاطع وتحديد فكرتها الموجهة، ولهذا التمرين حسب روس فوائد ثلاث:

·         تكوين الملكات الفكرية.

·        تحرير جذاذات تضم العناصر الأساسية.

·        تطعيم الإنشاء أو التعليق.

  تشكل القراءة إذن، فعلا أساسيا في الإشتغال الفلسفي، ذلك أن نصوص الفلاسفة هي المدخل إلى أفكارهم ومذاهبهم ونظرياتهم، وليس تاريخ الفلسفة سوى حوارا بين الفلاسفة عبر النصوص، والأمثلة على ذلك غير  قليلة في تاريخ الفكر عامة وتاريخ الفلسفة خاصة. إن الحوار الذي طبع هذا التاريخ كان نتيجة القراءات التي خضعت لها النصوص، حيث تعمل حينا على الشرح كما هو الحال مع المتن الرشدي في علاقته بالنصوص الأرسطية، وحينا آخر على مجاوزة التصورات والنظريات والمذاهب، كما هو الحال في الفلسفة المعاصرة التي حاولت الإفلات من قبضة هيجل مع كارل ماركس، ومجاوزة نيتشه لهذا الأخير ومجاوزة هايدغر للميتافيزيقا الغربية بما فيها ميتافيزيقا نيتشه... لا شك إذن في إرتباط فعل التفلسف بفعل القراءة، لكن ماذا نقصد بهذا الفعل؟ وهل الغاية من قراءات نصوص الفلاسفة هي التعرف على أفكارهم المختلفة؟ وماذا عن المسافات المقفرة التي تفصل الذات القارئة عن النص المقروء؟ أليست الهوة التاريخية شاسعة بين قارئ في الألفية الثالثة وبين نصوص أرسطو حول الوجود؟ فكيف نتعلم قراءة النص الفلسفي فلسفيا؟

 لابد من التمييز بين القراءة الفلسفية للنص، والقراءة النصية للفلسفة ؛ في الحالة الأولى يكون فعل القراءة فلسفيا ، أي وفق مبادئ وخطوات مضبوطة تشمل النص بشكل عام ، إذ لا يخلو نص مهما إختلفت طبيعته من حمولات وأبعاد فلسفية، وبالتالي يمكن قراءة قصيدة شعرية مثلا فلسفيا،ولعلنا نجد في قراءة هايدغرلهولدرلين نموذجا لذلك، أما في الحالة الثانية فيكون النص فلسفيا وليست القراءة،  فقد لاتكون هذه الأخيرة فلسفية وإن كان النص كذلك، وإذا كان جمهور المتمدرسين يجيد القراءة في مستواها الحس-حركي، أو من المفروض أن يكون كذلك بوصفه تلميذا في الثانوي التأهيلي، فإن فعل القراءة يتجاوز هذا المستوى إلى مستويات أكثر تجريدا وتعقيدا؛ " إن الإرشادات أو التوجيهات المدرسية، تظل في كل الأحوال توجيهات عامة، قد تقدم وصفات جاهزة أو نماذج عن العمليات والأفعال المطلوب القيام بها ومحاكاتها، لكنها في غالب الأحيان، لا ترسخ لدى التلاميذ مهارات القراءة. فهل يمكن للتمارين أن تساعد التلاميذ على تجاوز صعوبات القراءة؟"[22] يتعلق الأمر هنا بالقدرة على الفهم والتفسير والتحليل والنقد والإستشكال والإستدلال وغيرها من العمليات العقلية والسيرورات الذهنية، التي تسمح بالكشف عن الخفي في النص وسبر غوره وإستنطاق كنهه، وإذا كانت النصوص قابلة للتفسير فإنها تقبل التأويل كذلك، الشيء الذي يفتح النص على دلالات متعددة، بل ومتناقضة في بعض الأحيان؛  لهذا السبب كان لزاما على المشتغل بالنص الفلسفي الإلتزام بخطوات منهجية تولد قراءة معقلنة تعبر عن مقاصد أصحاب النصوص دون إقحام لأية إعتبارات خارجية، أي أن عليه قراءة النص الفلسفي فلسفيا. بمعنى النظر في البنية الداخلية للنصوص بوصفها تعبيرات عقلية عن مواقف وأطروحات تتجاوز الحالات الجزئية والإستثنائية. هذه المقاربة الظاهراتية للنص الفلسفي هي أول شروط القراءة الفلسفية ، إضافة الى إعتبارها النص من طبيعة نسبية لا يمتلك الحقيقة بقدر ما يسعى إلى البحث عنها، فكيف نعلم التفلسف من خلال النص الفلسفي؟ وماهي القراءات الإجرائية الممكنة والقابلة للتطبيق على هذا النص، إضافة إلى مايمكن استلهامه من كوسيطا وروس ؟



[1] Weill Simoe, Essai Sur La Notion de lecture, Les Etudes Philosophiques, Noivelle Serie, 1ère Anné, No.1(Janvier/Mars 1946), p 13.

[2] Hans Robert Juss 1921 - 1997

[3] ريكور بول، الزمان والسرد، الزمان المروي، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، الجزء3، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى،2006، ص، 256.    

 [4] الكاك مصطفى وآخرون، ديداكتيك مادة الفلسفة وتقويم التعلمات، الوحدة المركزية لتكوين الأطر، يونيو 2009، ص،19.

[5]  التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة، بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، الكتابة العامة مديرية المناهج، ملحق لالة عائشة، حسان، الرباط، 2007، ص،6.                                                         

 6 Cossutta Frédéric, Elements pour la Lecture des Textes Philosophiques, Bordas, 1989, p 14.   

[7]Op, cit., p 15.

[8]   Op, Cit,.17

[9] Op, Cit., p 18.

[10] Op, Cit., p 20.

[11] Op, Cit., p 26.

[12] Op, Cit., p 56.

[13] Granger G.G , Philosophie, Langage, Science, EDP, Sciences, 2003, p 98.

[14] Op, Cit., p. 60.

[15] Op, Cit., p . 62.

[16] Op, cit., p. 82.

[17] Op, Cit., p. 109.

[18] Op, Cit., p. 121.

[19] Russ Jaqulline, Les Methodes en Philosophie, Armond Colin, Paris, 1992, p. 63.

[20] Op, Cit., p. 64.

[21]  Op, cit., p. 67.

[22]  الكاك مصطفى وآخرون، ديداكتيك مادة الفلسفة وتقويم التعلمات، الوحدة المركزية لتكوين الأطر، يونيو 2009، ص، 16.


هناك تعليقان (2):