مثلت فلسفة الفارابي 870- 950 م، مرجعا أساسيا للفلسفة الإسلامية خلال العصر الوسيط، فكان محاورا لبعض فلاسفة الإسلام، و غريما للبعض الآخر، بينما أخذ بعضهم تعاليمه الفلسفية مضيفا ومطورا، فليس لقب المعلم الثاني عبثيا، إذ أصبحت نصوصه مؤسِّسة للفلسفة الإسلامية، ولغيرها زمنا طويلا، ولم يكن الفارابي مجرد ترجمان للفلسفة اليونانية، بل واجه قضايا فكرية لم تكن معهودة عند اليونان، كعلاقة الفلسفة بالشريعة. يَعتبر محسن مهدي أن المعلم الثاني هو أول من تصدي إلى هذا التحدي، محاولا جعل الوحي، والنبوة، و الشريعة، أمورا معقولة.السعي إلى المعقولية فرض إعادة تأسيس للفلسفة السياسية، استجابة إلى هذا المستجد الحضاري، المتمثل في الشريعة الجديدة، فكان العلم المدني حاضرا في مصنفات الفارابي بقوة، بداية من " آراء أهل المدينة الفاضلة"، و "السياسة المدنية"، و" تحصيل السعادة"، وصولا إلى كتاب "إحصاء علوم الدين"، وكتاب "الملة"؛ إنه الاهتمام بالعلاقة التي تربط الاجتماع، و المعرفة، و الدين، و الكون، وفي الوقت نفسه، محاولة لتحديد وظائف هذا العلم، و تحديد مهامه. إن في تمهيد الفارابي لدخول الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، محاولة للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو، من جهة، و بين الحكمة الغربية و الشريعة الشرقية، من جهة أخرى، بل هي المحاولة ذاتها التي جعلت إنتاجه غزيرا، يشمل المنطق، و الطبيعيات، والمدنيات، والإلهيات، والموسيقى، مما يفتح آفاقا شاسعة للتفكير، مثّلتها في المكتبة العربية دراسات كثرة، على رأسها دراسة إبراهيم مدكور ، وفي المكتبة الغربية تلك التي قدمها ليو شتراوسLeo Strauss ، خلال أربعينيات القرن العشرين، إلى جانب الاهتمام الكبير للمستشرقين بفلسفته. ما زال الفارابي يثير اهتمام الباحثين الآكادميين، أمثال ماجد فخري ، ومحمد على خالدي، و محسن مهدي ، الذين تعتبر دراساتهم دليلا على حيوية فكر الفارابي وراهنيته. ضمن هذا المسار البحثي، الذي يستدعي فلسفة الفارابي في زمننا الراهن، ينخرط عمل البريطاني روبيرت بوثAnthony Robert Booth ، الذي خص فيلسوفنا بوقفة طويلة، في كتابه الذي يحمل عنوان: "الفلسفة الإسلامية وأخلاقيات الاعتقاد"، حيث حاول إبراز البعد الأخلاقي، في فلسفة الفارابي السياسية. فكيف تتحدد علاقة الديني بالسياسي عند الفارابي؟ وأي دور للأخلاق في نظريته السياسية؟
النبوة والسياسة
يُعتبر الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، أكثر فلاسفة الإسلام شهرة، وقد تضمنت تصوراتهم أفكارا حول أخلاقيات الاعتقاد، ورغم الاختلافات الموجودة بين أنساقهم، فإنهم شكلوا وجهات نظر رحبة، و شاسعة الأفق. كان السبق للكندي في إدخال دراسات فلسفية، يستسيغها العقل الإسلامي، و يتقبلها جمهور المسلمين، محددا من ثمة جدول أعمال الفكر الفلسفي، التي اتخذت مسارين على الأقل: أولهما تقديم الإرث الأفلاطوني، والأرسطي باعتبارهما فكرا واحدا منسجما، إلى درجة يرى معها روبيرت بوث، أن الكندي أضفى على الأفلاطونية نفسا أرسطيا. أما ثانيهما، فتمثل في التأكيد على ترابط تحليلات أرسطو المتأخرة، والواردة في كتابه: "في النفس"، وغايتها جميعا، معرفة السبيل إلى بلوغ معارف رياضية مجردة. إضافة إلى نظرية الفيض التي وُجدت في أعمال الأفلاطونية المحدثة، مثل أعمال بروكليس، وأفلوطين. هذا الانشغال المتميز جعل للفلسفة الإسلامية في نظر بوث، خصوصية على آراء فلاسفة الإغريق. في إطار هذه المحاولات لبناء نظرية في المعرفة، من خلال إعادة قراءة التراث اليوناني، اجتهد الفارابي ضمن مشروع سيكولوجي لتفسير و تعليل الآليات التي تجعل النبوة ممكنة، والكشف عن وشائجها بالسياسة، وقد اهتم ابن سينا، وابن رشد، بنفس المشروع، في سعي مقصود، أو غير مقصود إلى تسويغ الفكر الفلسفي للمتلقي المسلم، إذ اكتشف ثلاثتهم، بوصفهم أكبر الفلاسفة في الإسلام، أن مسألة النبوة تطرح قضية التفرد والتميز، وفي الآن ذاته، تتضمن التشابه والمطابقة؛ فالأنبياء متميزون بخصال تخصهم، لكن لهم خصائص إنسانية مشتركة مع عامة الناس. لفهم هذه الوضعية الخاصة للنبوة و النبي، أخضع الفارابي مفهوم اليقين للفحص، والتدقيق؛ مادام اليقين هو أعلى درجات المعرفة، فإنه غير متاح للجميع، ولا يمكن للعامة بلوغه. أما الأنبياء فمنذورون لامتلاك اليقين التام، حسب الفارابي؛ اليقين الذي لا يبقى نفسيا، بل يرتبط بحاجات الناس الواقعية، والأنبياء قادرون على معرفة أسباب، وكيفيات امتلاك الإنسان لعمليات فكرية، تمكنه من معرفة المبادئ الأولى، كمبدأ عدم التناقض مثلا، بينما يعجز الناس العاديون عن معرفة ذلك، لأن للنبي ملكة جد متميزة للتخيل، مقارنة مع الأشخاص العاديين. لهذه الملكة حسب بوث، علاقة بنظرية ستصير معتبرة في الفلسفة الإسلامية؛ القول بوجود وحدة وانسجام في الجود بأسره، وهي التي عرفت بنظرية وحدة الوجود، تلك الملكة المتميزة للنبي، هي التي تحقق هذا الانسجام في أرقى تجلياته، و تسمح له بمعرفة أسباب، و كيفيات حدس الحقائق المجردة، زيادة على ذلك، لهذه الملكة وظيفتان أساسيتان: تمنح أولاهما للنبي قدرة معتبرة على الخطابة، فيعبر عن قضايا معقدة ببساطة شديدة، بينما تعطيه ثانيهما قدرة عملية على استيعاب العلاقات داخل العالم، وعلى فهم أفضل للطريقة التي تجعل بعض الأفكار واقعا. إن الخاصية التي تُمكِّن النبي من بلوغ اليقين إذن، هي التي تمنحه القدرات العملية، لذلك يرى روبيرت بوث، أن هذه النتيجة تستلزم النتيجتين التاليتين:
- إن الكمال الإنساني كما يمثله شرط اليقين عند النبي، مركب من الكمالين: العملي، والنظري.
- إن النبي هو الزعيم السياسي الأمثل.
البشر كائنات ناقصة، حسب الفارابي، لأنها تفتقر إلى جودة الحكم، وسداد الرأي، واستحكام العقل، والتروي في الأمور، وحده النبي بقدرته المتميزة، والتي تؤهله لحيازة جودة الحكم، وسداد الرأي، وعدالة الأحكام، بما أنه إنسان معصوم يمتلك يقينا خاصا بالطبيعة الإنسانية، كما يمتلك المعرفة العملية الضرورية، لتنفيذ الأمور المرتبطة بالحياة الواقعية للناس. من هنا تنبجس علاقة النبوة بالسياسة عند الفارابي.
يؤكد المعلم الثاني أن الاعتقاد الصحيح والفعل الصائب، هما الاعتقاد والفعل الخيِّران، أي أن الإنسان ملزم باعتقاد و فعل ما يتناسب مع الكمال الإنساني. أما عند أرسطو، فإن الاعتقاد الصحيح، و الفعل الصائب، هما عمل الفكر لخدمة الوظيفة الإنسانية، المتمثلة في بلوغ السعادة، و فيما يؤسس لحياة خيِّرة، من أجل الكائن الإنساني؛ لذلك يقدم الفارابي وصفا لأسس تحقيق غاية الكمال الإنساني، هذا ما يحضر بشكل مضمر في كتاب "تحصيل السعادة"، كما في كتاب "شروط اليقين"، حيث تتحدد الفضيلة ليس بوصفها كمالا نظريا فقط، بل باعتبارها كمالا عمليا أيضا. نموذج اجتماع الفضائل هو النبي، بما له من قدرة خارقة على التخيل، هذه الملكة المتطورة لا تسمح له بأكثر أنواع اليقين كمالا فقط، بل تعطيه أفضل أنواع المعرفة العملية الممكنة أيضا، و هذا يجعله أكثر الناس معرفة بتحويل المِثالي إلى واقعي، بما أن اليقين هو التركيب بين الكمالين: النظري، والعملي.
يتأسس الكمال الإنساني عند الفارابي، حسب ماجد فخري، على الكمال النظري، و حسب شتراوسLeo Strauss على الكمال العملي، بينما تري مريام غالستون Miriam Galston، في كتابها: " السياسة و التفوق، الفلسفة السياسة عند الفارابي." ، أن الكمال الإنساني رهين بنظرة شاملة، يمتزج فيها النظري و العملي ، غير أن الكمال النظري يطرح عنده مشكلة التعارض مع ما يمكن تسميته، بالنزعة التحفيزية الخارجية motivational externalism، أي أن معرفة كل شيء رهينة بكون الدافع وراء الشيء هو نفسه؛ يمكن للإنسان حسب الفارابي معرفة ماهية السعادة، لكنه يفتقد الدوافع لملاحقتها،و محاولة تحصيلها، ومعرفتها لا تستلزم أن يكون الإنسان سعيدا. في المقابل يُبرز الكمال العملي عنده إشكالية حقيقة السعادة، التي تتشكل من تعالي الروح الإنسانية على الوجود المادي، ومن الإتحاد التام مع فاعلية العقل؛ هذا ما توسع في شرحه المعلم الثاني في نظريته حول الفيض، حيث تنبثق النفوس من هذه الفاعلية، وتتطلع إلى الاتحاد بعقل اللاأجسام السماوية ، وهو الرأي الذي نجد له صياغة صريحة في كتاب: " آراء أهل المدينة الفاضلة "، كذلك في كتابه: " رسالة في العقل "، حيث يسمي الحالة التي تبحث فيها الروح الإنسانية،على الوصول النهائي إلى الحالة اللامادية في الحياة الأخروية، أي إلى السعادة القصوى. حدود النظرة الشمولية للكمال الإنساني ، هي ارتباط الكمالين النظري و العملي بالنزعة التحفيزية الخارجية، لذلك يناقش روبيرت بوث مسألة اليقين، ويؤيد وجهة النظر الشمولية، التي تقرن بين الكمالين، و يتبنى وجهة نظر مريام غالستون، التي لخصها فيما يلي: " يبدو أن الفارابي يقر بذلك، لأن الكمال النظري مرتبط بالإنسان، و بالموضوعات الطبيعة، وما بعد الطبيعة، ولأن معرفة الأمور الإنسانية تجد اكتمالها في تحقيق أفضل حالاتها، ينبغي أن يُكوِّن الكمال النظري و العملي معا حقيقة الإنسان القصوى،زيادة على ذلك، يبدو الفارابي متجها في بعض كتاباته، إلى ربط الحكم بالوحي."
تقدم غالستون إحصاء لما يعتبره الفارابي مبررا لوجهة النظر الشمولية للكمال الإنساني، وكذلك لبذور حل مسألة الترابط بين الكمالين النظري و العملي، و ببين الحكم و الوحي. يتفق بوث مع غالستون حول وجهة النظر الشمولية، لكنه يعترض على تفسيراتها لأفكار الفارابي، ويبرز عدم انسجام المقدمات مع النتائج، التي توصلت إليها، ويشرح اعتراضه على النحو التالي:
- معرفة الطبيعة الإنسانية هي المعرفة النظرية المتضمنة في الكمال النظري.
- معرفة الطبيعة الإنسانية كاملة فقط في حال تحقق الوضع الأفضل للطبيعة الإنسانية.
- إذا كان (س) كاملا، وإذا كان و فقط متحققا، فإن تحقق (س) هو كمال عملي.
- الكمال الإنساني هو تركيب الكمالين النظري والعملي.
- الكمال الإنساني كمال عملي أساسا.
يعتقد روبيرت بوث أن نتائج هذه الحجج، لا تلزم ضرورة عن مقدماتها، ومن ثمة لا يكون الكمال الإنساني قابلا للفهم الشمولي، إلا ضمن الكمالين. يقول الفارابي: " الأشياء الإنسانية إذا حصلت في الأمم وأهل المدن، حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى؛ أربعة أجناس: الفضائل النظرية، والفضائل الفكرية، والفضائل الخلقية، والصناعات العملية." يعتقد الفارابي أن كل المعارف النظرية الإنسانية تتضمن العنصر العملي، لذلك ليست المعرفة النظرية بالطبيعة الإنسانية، أساسا للكمال النظري، إذ لا يوجد كمال نظري دون كمال عملي، كما سلف بيان ذلك، من هنا تُلح غالستون على أن الفارابي أثبت حدودا للمعرفة الإنسانية، التي تقف عند عجز تام عن تجنب ضعف الإرادة akrasia ، لأن تجنبها متاح للإنسان الخارق، أو المتميز، وذلك ما يتجسد في شخص النبي، الذي يمتلك حسب الفارابي اليقين المطلق. فكرتان تنعكسان بقوة، على قراءة الفلسفة السياسية عند المعلم الثاني، وهي فلسفة في تقدير روبيرت بوث، أبعد ما تكون عن الطوباوية، التي قد يعتقدها البعض، بل تقدم نظرية سياسية واقعية، في مقابل النظرية المثالية، من حيث أنها وضعية يتحقق فيها المثال على أرض الواقع، مما يؤدي أيضا إلى السخرية من القراءات الفئوية، التي ترى في فلسفة الفارابي السياسية حرمانا للجمهور من تحصيل السعادة، لأنها تُعتبر محجوبة عنه بطريقة ما.
المدينة – الدولة الطوباوية
يعتقد روبيرت بوث بوجود علاقة وطيدة بين السياسة والنبوة عند الفارابي؛ فالأنبياء وحدهم القادرون على بلوغ أعلى درجات اليقين، الذي يمنحهم قدرات عملية، وملكات لشرح الأفكار المعقدة للعامة من الناس، وبالتالي يمتلكون القدرة على صياغة الأفكار المجردة، ضمن الممارسة من أجل تحقيق المِثالي، من هنا يكون النبي زعيما سياسيا نموذجية. يحدد الفارابي الكمال الإنساني الخاص بالنبي، ويعرف مختلف مراتب الكمال الإنساني الموجودة في الواقع، و يؤطره ضمن المزاوجة والتركيب بين الكمالين النظري و العملي؛ ذلك ما يعود الفارابي إليه في " تحصيل السعادة "، حيث التفكير في كيفية تحقيق هذا النموذج من الكمال، لأي أشخاص غير الأنبياء. يلاحظ روبيرت بوث أن الفارابي يتحدث عن المدن والأمم، وليس عن مدينة – دولة بعينها، لأن الحاكم المِثالي عنده مجسد في النبي، الذي يمتلك سلطة تشريعية تعم نطاقا واسعا من الجماعة الإنسانية، إذ ظلت الأمة بوصفها جماعة موسعة من المسلمين حاضرة في ذهن الفارابي، فالحاكم عنده، هو صاحب السيادة الأولى في المدينة الفاضلة، وسيادة الأمة الفاضلة هي سيادة الدولة الكونية، كما استنتج ذلك روبيرت بوث. تثير هذه المسألة إشكالا مباشرا يمكن بسطه على النحو التالي: كيف تُحكم المدن، والأمم عندما يغيب النبي؟
لا يستطيع النبي حكم كل المدن في حياته، وتصبح المسألة أكثر تعقيدا بعد وفاته، بل يكاد يكون مدار تفكير الفارابي، حسب بوث محاولة للجواب على السؤال التالي: كيف حقق النبي السعادة على الأرض؟ وهو السؤال الذي يدفع إلى إعادة التساؤل حول الكيفية، التي تنتظم بها الشؤون السياسية في حال غياب النبي، هنا يذهب الفارابي إلى ضرورة محاولة تكرار النموذج المعطى من طرف النبي، بما أنه النموذج الذي تتوحد فيه الكمالات النظرية و العملية، وإن اتحاد هذين الكمالين في شخص النبي، هو الذي يضع من يتولى الحكم بعده في مرتبة الفيلسوف - الحاكم الأعلى، أو الأمير، أو المشرع، أو الإمام، وهي مسميات لنفس المسمي، يقول الفارابي في هذا السياق: " فتبين أن معنى الفيلسوف، والرئيس الأول، وواضع النواميس، و الإمام معنى كله واحد، وأية لفظة ما أخذت من هذه الألفاظ، ثم أخذت كل واحد منها عند جمهور أهل لغتنا، وجدتها كلها تجتمع في آخر الأمر في الدلالة على معنى واحد بعينه." . لكن الفضائل لا توجد إلا مجزأة وتفرقة في الأفراد، حين لا ترتبط بالنبي؛ هذا يعكس الكوسمولوجيا المبنية على الفيض عند الفارابي، إذ تتضمن انبثاقا تدريجيا من السبب الأول للوحدة، ذلك ما يعرب عنه في قوله: " كان هذا الإنسان هو الإنسان الذي حل فيه العقل الفعال، وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوته الناطقة، وهما النظرية والعملية، ثم في قوته المتخيلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحي إليه الله عز وجل، فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى، إلى العقل الفعال يُفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل، بتوسط العقل المستفاد." . مع ذلك، لا يستطيع النبي أن يصل بالناس الذين يتبعونه إلى سعادة مثل سعادته، لأن الفضائل الإنسانية مجتمعة فيه دون غيره، و هي متقرفة في الأفراد مما يدفعهم إلى التعاون على توحيدها، ما دامت شرطا أساسيا لتحقيق السعادة الإنسانية، وبالتالي تتجسد هذه الفضائل بفضل عملهم المنسجم، والمتناغم، مما يجعل الانضمام إلى الجماعة ضروريا حسب الفارابي،؛ " وإن فطرة كل إنسان أن يكون مرتبطا فيما ينبغي أن يسعى له بإنسان آخر أو أناس غيره، وكل إنسان من الناس بهذه الحال، وإنه كذلك يحتاج كل إنسان فيما له أن يبلغ من هذا الكمال، إلى مجاورة ناس آخرين، واجتماعه معهم." ؛ يعتقد روبيرت بوث أن الفارابي راهن على هذه الخاصية الناشئة، من خلال الانضمام إلى الآخرين للبحث عن السعادة، حتى يتعالى الإنسان على الوجود المادي الفيزيائي، و بذلك يكون الكمال الإنساني مشروطا ليس بالكمالين العملي و النظري فقط، بل بنظرة متعالية على المعطى المادي أيضا. في كل الأحوال تضمر أطروحة الفارابي، حول قدرة النبي على قيادة الناس نحو السعادة، ضعف إرادة هؤلاء، من جهة، وحاجتهم إلى العمل مجتمعين، من جهة أخرى، وهي الأطروحة التي تنطلق من مرجعية أرسطية، تؤكد غياب قواعد ثابتة للسلوك، وملازمة للخير والشر في كل الحالات الفردية، إذ لا يمكن بلوغ هذه المعارف إلا من خلال التجربة. الإنسان بالنسبة إلى الفارابي كائن ناقص، وعرضة للنقص في جودة حكمه وسداد رأيه، ومن هنا الحاجة الملحة إلى النبوة، التي تساهم في تعليم الناس الحقائق الأخلاقية، من خلال الخطابة التي يتفوق فيها الأنبياء، من ثمة تصبح هذه الحقائق لازمة الاعتقاد، بما أنها قائمة على معرفة مطلقة بالطبيعة الإنسانية، ليس كما هو الحال عند الفيلسوف، الذي لا تصل معرفته بهذه الطبيعة درجة اليقين، مما يجعل الإرادة الضعيفة متحققة، والشك متسللا إلى الحلول الأخلاقية، التي تمسك بها الناس زمن طويلا، لتفقد إجرائيتها مع مرور الوقت، وهذا ما يعطي للنبوة وظيفة أساسية، تتمثل في إقرار تعاليم حول كيفية العيش، من خلال التحكم في الرغبة و الشهوة، أولا، والتأسيس لتعاليم نظرية، ثانيا، فالنبي هو الذي يحدد للناس قواعد تصرفهم.
يحدد الفارابي في كتابه: " تحصيل السعادة " ضمانات انسجام المدينة – الدولة، و شرط تناغم الجماعة هو تحقيق الفضائل النظرية و العملية في المدن و الأمم، ذلك من خلال بناء وتكوين الطبع، لذلك يكون المسؤول على ترابط الجماعة، مطالبا بالحفاظ على العلوم النظرية، بتعليم الأئمة و الأمراء؛ " والعلوم النظرية؛ إما أن تعلمها الأمة و الملوك، وإما أن يعلمها من سبيله أن يستحفظ العلوم النظرية" ، لأن التعليم و التلقين أساسيان في تكوين المدينة، أو الأمة، يسعى الأول إلى استنهاض الفضائل النظرية، بينما يرنو الثاني إلى ترسيخ الفضائل الخلقة، والقناعات العملية. يحصل التعليم عند الفارابي بالبرهان، أو بالجدل، أو بالتمثيل والخطابة، فكل طريقة تناسب فئة من الناس داخل المدينة؛ فبينما يختص الفلاسفة بالبرهان، تلائم الأساليب الخطابية و التمثيلية العامة من الناس، بما أن استعدادات البشر مختلفة؛ فليس الجميع مهيأ للوظيفة السياسية مثلا، لذلك يتم توجه طائفة من الناس نحو علوم أخرى غير نظرية، ويتم اعتماد التأديب طوعا أو قسرا، وبالتالي الحاجة إلى الصناعات الحربية، التي تتحقق بفضلها سعادة الأمة، يوازن الفارابي إذن بين العلوم المختلفة، بل أنه في رأي بوث يوازن بين العلوم و الدين، حيث يمثل هذا الأخير خلفية مرجعية في كل أعماله ، إذ يمكن أن تكون الملل متعددة في الأمم والمدن الفاضلة، حيث تشترك جميعها في أن غاية أهلها، هي تحصيل العلوم حسب طبع كل واحد منهم، ويهدفون جميعا إلى تحصيل السعادة، يؤكد هذا المعنى قول الفارابي: " فلذلك يمكن أن تكون أمم فاضلة و مدن فاضلة تختلف ملتهم، فهم كلهم يؤمون سعادة واحدة بعينها، و مقاصد واحدة بعينها." . يلاحظ روبيرت بوث هذا الحضور القوي للدين في فلسفة الفارابي السياسية، الذي يعلن عنه مصطلح الرئيس الأول، الذي ليس سوى النبي بوصفه القائد السياسي المثالي، وهو الذي يضع الأسس، ويحدد ما هو واقعي. دفعت هذه السلطة المطلقة للنبي روبيرت بوث إلى مساءلة الفارابي، حول السبيل لتحقيق السعادة، ما دامت تحصل باجتماع الفضائل النظرية و العملية، وهذه الأخير لا تجتمع إلا في النبي. لكن يُبرز بوث أن الفارابي خرج من المأزق، حين اعتبر أن الكمال الإنساني رهين باتحاد البشر، حيث يستعين الحاكم، أو الرئيس بلغة الفارابي بالفضائل المتفرقة في الأفراد؛ الحاكم هنا ليس الجزأ العاقل في المدينة، كما هو الحال في التصور الأفلاطوني، بل هو مجرد جزأ من الدولة المتعددة الفضائل، لهذا يتشبث الفارابي بضرورة محاكاة نموذج النبوة، حتى يصير الإنسان زعيما، أو قائدا. لكنه لا يستطيع أن يحكم كل المجتمعات، أو المدن، والأمم، وبالتالي لابد للرئيس من أعوان.
يحدد روبيرت بوث أخلاقيات الاعتقاد عند الفارابي، من خلال الوقوف على العلاقة بين الديني والسياسي، وبين اليقين والسعادة، كما تتأكد تلك الأخلاقيات بتمحور تفكير الفارابي حول معرفة الخير، وفعل الخير. هذه النزعة البديهية التي أسس عليها الفارابي فلسفته، هي بالذات ركن الزاوية في كل تعالق بين الديني والسياسي، والأخلاقي والكوسمويوجي؛ هناك فكرة الانسجام الأفلاطونية، وفكرة المثال، بما هو كمال ينبغي السعي نحوه، إلى جانب تصور لليقين، ليس على المستوى النظري المجرد، بل كذلك على المستوى العملي الأخلاقي، فكما ينبغي على الإنسان معرفة اليقين، عليه فعل الخير، واعتقاد الحق، وهي أمور مترابطة عند الفارابي، تؤسس لأخلاقيات الاعتقاد عنده. ليس من شك إذن، في راهنية فلسفة المعلم الثاني، وفي توفقه إلى المزاوجة، والممازجة، بين الاعتقاد و اليقين، وبين النظري والعملي، وبين الكوسمولوجي واللاهوتي... فهل كانت أخلاقيات الاعتقاد محكومة بالنزعة اليقينية/البديهية، في كامل الإنتاج الفكري للفلسفة الإسلامية؟
ملخص
غاية هذه المقالة، تحديد التجاور بين الديني والفلسفي، في فلسفة الفارابي السياسية، التي مَثّلت لجزأ من الفكر المعاصر البدايات الفعلية للعلاقة بين السياسة و الإيتيقا في الإسلام، وكذلك للتفاعل بين الفلسفة والدين، الذي اتخذ مكانة داخل النقاشات المعاصرة، بمحاولتها توضيح أصول فلسفة الفارابي السياسية، من خلال معتقداته الدينية، آخذة بعين الاعتبار الربط الممكن بين النبوة واليقين. هكذا تتمظهر المبادئ الخفية التي تحكم الشأن العام، في الفكر الإسلامي، وبالتالي ما يحكم السلوك الفردي والجماعي، في ارتباط دائم بالفضائل النظرية والعملية، باعتبارها شروطا للكمال الإنساني، الذي يتجسد في شخص النبي، الزعيم السياسي الأمثل. لكن إشكاليات سياسية كثيرة، يُسلط عليها الضوء، خارج النموذج النبوي.
الكلمات المفتاحية: الفلسفة السياسية – النبوة – اليقين – الفضائل النظرية – الفضائل العملية– الدين.
Abstract
The aim of this article is, to detect the juxtaposition of religious and philosophical discours, in the political philosophy of Alfarabi; which representing in a part of contemporary thought, arealbeginning of the relation between ethics and politics in Islam,and also the first interaction of religion and philosophy, a thought that clarifies the origins of Alfarabi’s political philosophy, through his religious convictions, and discuss the possibility of linking certainty to the prophecy, which means the emergence of hidden rules governing public affairs, in the Islamic thought, and therefore what command the individual and collective behavior, in constant association with theoretical and practical virtues; as conditions of human perfection, the perfection embodied in the person of the prophet, who is a perfect political leader. However, many political problems outside this prophetic modelare highlighted.
Keywords : politocal philosophy – certitude – theoritical vertu – practical vertu – religion.
لائحة المصادر و المراجع:
• الفارابي أبو نصر، تحصيل السعادة، قدم له و شرحه: علي أبو ملحم، دار و مكتبة الهلال، الطبعة الأولى، 1995.
• الفارابي أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق، الطبعة الكاثوليكية، بدون تاريخ.
• مدكور إبراهيم بيومي، نظرية النبوة عند الفارابي، دار المحرر الأدبي، 2017.
• مهدي محسن، الفارابي و تأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، ترجمة: وداد الحاج حسن، دار الفارابي, الطبعة الأولى، 2009.
• Strauss, Leo, Farabi’s Plato, Louis Ginsberg Jubilee Volume, New York, American Academy for Jewish Research,1945.
• Fakhry, Majid, A History of Islamic Philosophy, Columbia University Press,2004.
• Galston, Miriam, Politics and Excellence: The Political Philosophy of Alfarabi, Princeton, NY: Princeton University press,1990.
الثلاثاء، 25 مايو 2021
السياسة و النبوة عند الفارابي

عن رشيد النفينف
رشيد النفينف مدرس فلسفة ، باحث في الفلسفة السياسية و فلسفة الدين. خريج جامعة محمد الخامس و جامعة الحسن الثاني و المدرسة العليا للأساتذة.. مهتم بالشأن العام و بقضايا الفكر العربي و بعلم التأويل و الإسلاميات التطبيقية و الاستشراق.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق