الأحد، 23 فبراير 2020

التلقي العربي لمفهوم الدولة الوطنية

التلقي العربي لمفهوم الدولة الوطنية
شأن الكثير من المفاهيم السياسية الحديثة، تلقى الفكر العربي الحديث مفهوم الدولة الوطنية في سياق تاريخي ولد صدمة حضارية للمجتمعات العربية الإسلامية يمكن اختزالها في السؤال النهضوي: لماذا تقدم الغرب و تأخر المسلمون؟ . أفرز هذا السؤال أجوبة و أطروحات متباينة و مختلفة، باختلاف الانتماءات المذهبية و المرجعيات الفكرية لكل تيار على حدة، و من ثمة اختلف التعامل مع المفاهيم التي لم تستورد بقدر ما فُرضت على المفكرين العرب، الذين وجد الكثير منهم سر قوة الغرب في نظام الدولة، بينما أوعزوا تخلف بلدانهم و الشرق عموما، إلى تخلف أنظمتها السياسية. " وراء قوة الغرب تنظيم معين للدولة: أصبحت هذه حقيقة عند مفكري الإصلاح المسلمين. إن سر تفوق الغرب يرجع في نظرهم أساسا إلى نظام الدولة فيه. و بالمقابل، فإن تخلف بلدانهم، والشرق عموما، يعود إلى تخلف نظامه السياسي"[11] ، أصل المشكلة إذن في نظام السلطة في بلدان تواجه تهديدا خارجيا، حمل الحل بين طياته عناصر دفاعية، لتبدأ حركة فكرية تنافح عن الإسلام تبرئه من الاستبداد،فهذا الأخير مرفوض في النظرية السياسية الإسلامية، و لا يمكن الحكم على الإسلام بحال المسلمين. كانت العودة إلى فلسفة مقاصد الشريعة عند الإصلاحيين السلفيين أول خطوات إحياء نظرية الإسلام في الحكم، عودة إلى القصد من الشريعة للانطلاق نحو تأويل النصوص الشرعية بما يتوافق مع متطلبات الظروف ومستجداتها، فصار الاهتمام أوسع بمجال المعاملات و بالمصلحة، و بما أن غاية الشريعة في الحكم هي إعمار الأرض و إحلال العدل، فكما وجد قدماء المفكرين في الإسلام نماذجا عند الفرس و اليونان، كان أمام المحدثين منهم النموذج الأوروبي للدولة التي تهدف لنفس غايات الشريعة، أي تحقيق العدل كشرط لازدهار العمران، فحين يصف الطهطاوي المساواة في فرنسا يقول: " و لقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، و هي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، و تقدمهم في الآداب الحضارية "[12]، لهذا السبب بحث بعض النهضويين عما يماثل المفاهيم السياسية الأوروبية؛ فصارت الديمقراطية شورى، و نواب الأمة أهل حل و عقد، و مراقبة السلطة التنفيذية حسبة، مما أدى إلى إغفال تكامل الدولة الوطنية الحديثة كنظرية و كجهاز، و انصب البحث عما ينبغي أن تكون عليه السلطة وفق الإطار الإسلامي، كعملية إصلاحية للدولة التقليدية فرضها الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية، " إن الدولة القومية التي تعرف عليها المسلمون، كانت ممثلة في دول مهددة لهم منذ بداية التدخل الأوروبي الحديث في البلاد الإسلامية."[13]. لم يكن للإصلاحات التي أدخلت إلى العالم الإسلامي أساس اجتماعي تقوم عليه، بل كانت مفروضة من طرف المحتل، أو بفعل ضغطه على النخب الحاكمة، فاكتسب مفهوم الدولة الوطنية في هذا السياق مدلولا مختلفا عن أصله و منبعه، شأنه في ذلك شأن باقي المفاهيم، مما جعل الفكر السياسي العربي منفصلا عن الحركة الاجتماعية في تلك البلاد، و منحصرا في ثنائية الاستبداد و العدل، أي الحكم الجائر الظالم، و الحكم المقيد بالشريعة، هذا التقسيم الخلدوني لأصناف الملك كان نبراس الكثير من الإصلاحيين العرب، الذين واجهوا مشكلات جديدة تتعلق بإحداث جيش عصري، و فرض ضرائب جديدة تغذي خزينة الدولة من أجل تحقيق الإصلاحات، و سداد الديون الخارجية.  لكن أكبر مشكلة واجهتهم كانت بتر المفاهيم السياسية من سياقاتها التاريخية و الاجتماعية، بما في ذلك مفهوم الدولة الوطنية الذي تبلور في البلاد الأوروبية ضمن سياقات خاصة، مختلفة عن نظيراتها في البلاد العربية الإسلامية، التي حاولت نخبها بناء الدولة لجبه الاحتلال من جهة، وتحقيق الإصلاح بالقضاء على الاستبداد من جهة أخرى، أي انه بناء تأسس على هاجس الخروج من الانحطاط الذي تعانيه تلك البلاد، و هو الهاجس الذي ظهر منذ أواخر القرن الثامن عشر، فرغم المواجهة بين المسلمين وأوروبا الصليبية قديمة، فإن مقارنة أحوالهم بالأوروبيين لم تكن واردة، و لا الاعتراف بتفوقهم كان ممكنا، أما دعاة الإصلاح على اختلاف مذاهبهم فكانوا مجبرين على النهل من النظم الغربية، ليُقر بعضهم بذلك و يصرح به ، بينما اجتهد البعض في تبريره  بمبررات متنوعة، و في جميع الأحوال كانت القوة المادية للأوربيين سبب تفوقهم، و طوق نجاة للبلاد الإسلامية؛ و مادام سر القوة المادية هو تنظيم الدولة، فلابد من بناء هذه الأخيرة على شاكلة الغرب. ظل تنظيم السلطة السبب الرئيس في تأرجح الفكر العربي خلال القرن التاسع عشر  و العشرين، بين ثنائيات التقدم و التأخر، و التمدن و الانحطاط، لتصبح الحاجة ماسة لتجديد جهاز الدولة و إعادة النظر في طبيعة سلطتها. ارتبط الإصلاح إذن بما هو سياسي أساسا، و سر الخروج من غياهب الانحطاط إصلاح للمؤسسات التي تدير المجتمع، و تقوم بتدبير الشأن العام. لكن استنساخ النموذج الغربي اقتصر على الجوانب الشكلية، لأنه غيب التاريخ الاجتماعي و الاقتصادي لهذا الغرب، لذلك كانت الدولة الوطنية التي تصورها المفكرون العرب نموذجا غربيا منتزعا من سياقاته، لترتكز الدعوة إلى الإصلاح السياسي على ضرورة إقامة الدستور، اقتداء بالنماذج الأوروبية، و كان ذلك أولوية عند الحركات الوطنية في البلاد العربية، لكنها الأولوية التي فرضتها المطالبة بالاستقلال، فبواسطة الدستور ارتبطت الأمة بالوطن و بالقوانين، و لأن مفهوم الأمة في الفكر العربي الإسلامي مختلف عنه في السياق الأوروبي، تولدت جدالات واسعة من ذاك الارتباط؛ الأمة عند المفكرين المسلمين تتجاوز المحددات العرقية أو الجغرافية أو الثقافية، و أن ما يحددها هو العنصر الديني؛ فبدأت الحركة الوطنية في البلاد العربي تعبر عن نفسها كمطالب قومية داخل الخلافة العثمانية، تسعى إلى تحقيق اللامركزية في إدارة الدولة، و تمكين الفرد العربي من إدارة بلاده بلغته إلى جانب اللغة التركية، إضافة إلى مطالبتها بتحويل الخلافة إلى ملكية دستورية، علما أن البعض من تلك الحركات الوطنية العربية تمسك بإنشاء جامعة إسلامية، لا تتطابق ضرورة مع نظام الخلافة العثماني. لكن ضعف الخلافة العثمانية عجل في تطور تلك الحركات، التي أصبحت لها مطالب تتعلق بالاستقلال الوطني، أي الارتباط بوطن مخصوص له حدود معين. بدأ التراجع عن المفهوم الكلاسيكي للأمة، التي يكون قانونها هو الشريعة، و ترعرع مفهوم الأمة التي ترتبط بوطن و تتخذ من الدستور قانونا، أي الشعب المتميز بخصوصياته و هوياته التاريخية و اللسانية و الجغرافية، و في نفس الوقت تشترك مع غيرها عنصرا دينيا و تاريخيا. ظهرت الحدود و مفهوم التراب الوطني، و صار الارتباط أقوى بالقوانين الوضعية عوض مثيلاتها الشرعية، و بينما تمسك الليبراليون العرب بتحديد السياسة على أساس الوطنية و المنفعة، لم تجد  السلفيات الوطنية تعارضا بين الانتساب إلى الدولة و إلى الأمة في الآن ذاته، و لا تناقضا بين الشريعة و الدستور، و الرابطة العقائدية للأمة لا تنافي الرابطة القانونية للدولة. أما بعض السلفيات الأخرى فرفضت هذا التوفيق، " كالأفغاني الذي يقطع برفض كل قانون يخالف شريعتها – الديانة الإسلامية- ..."[14] .  نفس الرفض عرض لمفهوم الجنسية لأن المسلمين لا جنسية لهم إلا في دينهم و اعتقادهم، أما اللبراليون فكان دفاعهم عن مبادئ المدنية في السياسة و الاجتماع قويا. لكن السجالات بين الفريقين لم تكن خارج تأثير الاحتلال،  و الدولة الوطنية العربية بما لها من حدود ترابية كانت نتيجة للتقسيم الذي فرضته الدول الكولنيالية، أي أن هذه الدولة لم تتولد و تتطور نتيجة لدينامية اجتماعية داخلية، بقدر ما كانت خارجية و في ظروف قهرية، إضافة إلى إقحام تنظيماتها بشكل جزئي، و انصب الاهتمام على إصلاح أجهزة بعينها، فكان الجيش أول الأجهزة التي حظيت بالأولوية، كما حدث في تركيا و مصر ثم تونس، لتعمم التجربة على باقي الدول الإسلامية، غير أن إصلاح الجيش لم يكن ممكنا دون إصلاح نظام الدولة، بما أن هذا الجهاز جزء من جهاز متكامل، أي يفترض إصلاحه إصلاح القطاعات الحيوية الأخرى، كنظام التعليم  و النظام الضريبي، لكن فرض ضرائب جديدة على السكان جاء بنتائج معاكسة للإصلاح، لتشتعل ثورات و انتفاضات شعبية في عدد من البلدان، مثلما هو حال تونس في ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 الذي لُقب بباي الشعب[15]، و ثورة الدباغين بفاس سنة 1873، حيث كانت مطالب الناس و الفقهاء هي العودة إلى الضرائب القديمة، أي الضرائب الشرعية. لم تكن هذه النتائج السلبية مقصورة على الاضطرابات الداخلية، بل فُرض على الدول في البلاد العربية في تكوين جيوشها صياغة مفهوم المواطنة، بناءا على مفهوم التراب الوطني، من أجل زرع القيم التحفيزية للدفاع عن حدود الوطن؛ " ها نحن نرى إذن أن إصلاح الجيش، هو ما اضطرت إليه البلاد الإسلامية مع بدايات التدخل الأوروبي، طرح مباشرة ضرورة وجود دولة بمعناها الحديث".[16]
   أفضى الإقحام الجزئي لأجهزة الدولة الحديثة، في البلاد العربية الإسلامية بفعل ضغط الاحتلال، إلى اختزلاها في أداة لمراقبة تلك البلاد و استغلالها من طرف المحتل، ذلك ما جعل الفكر العربي متأرجحا بين موقفين كبيرين، أولهما ليبرالي لم يراع السياقات الاجتماعية و التاريخية للمفاهيم التي تشبث بها، و ثانيهما سلفي ظل متشبثا بمرجعياته الدينية في التعامل مع تلك المفاهيم، سواء برفضها جملة و تفصيلا، أو بإعادة النظر فيها وفق مقتضيات التأويل. لا يشد مفهوم الدولة الوطنية عن هذا التأرجح، كان يعزو قيام مثل هذه الدولة في البلاد العربية الإسلامية، و جود مفهوم آخر و هو المجتمع المدني، الذي يمكنه  تحريرها من التبعية محققا استقلالها، لكن المجتمع المدني تحول في ظروف الاحتلال و شروطه إلى أداة أخرى للسيطرة و التحكم؛ خرجت إلى الوجود تحت شعارات الحرية و التسامح، مطالب بحقوق الأقليات الدينية و العرقية، كانت غايتها تفكيك الدولة العثمانية، أو لتكريس تواجد نفوذ الدولة المُحتلة و حماية مصالحها. مثال ذلك، الحملة الدولية بقيادة فرنسا وانجلترا بعد الحرب الاسبانية المغربية سنة 1859، المعروفة بحرب تطوان، و كان شعارها: الحرية والمساواة المدنية، أجبرت السلطان المغربي محمد الرابع على استصدار ظهير فبراير 1864، و ضغطت فيما بعد على الحسن الأول فيما يخص حقوق الأقليات اليهودية في المغرب[17]. لم يكن من اليسير احتواء المفاهيم السياسية الغربية، خاصة و أن المجتمعات العربية الإسلامية مسكونة بالتاريخ؛ وقفت مفاهيم تراثية في وجه نظيراتها المفروضة من طرف المحتل، مُمثلة الاعتراض النظري و العملي على محددات الدولة الوطنية الحديثة، كما تمت بلورتها في أوروبا خلال الأزمنة الحديثة؛ من تلك المحددات  التي وجدت عوائق أمام تنزيلها، مفهوم الوطن و المواطنة، إذ يصده مفهوم دار الإسلام أي الوطن الذي يتحدد عقائديا، و ليس عرقيا او جغرافيا. عول العثمانيون على إحياء هذا المفهوم من خلال اتخاذهم لقب الخلافة رسميا بداية من سنة 1774[18]. لكن سرعان ما ظهرت أصوات في العالم الإسلامي تنكر عليهم لقب الخلافة، لأن هذا اللقب يفترض القرشية، وسرعان ما تفككت الدولة العثمانية، و ظهرت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى معجلة بانمحاء مفهوم دار الإسلام. لكن ظلت المراهنة قوية على الهوية الدينية منطلقا للنخب العربية، من أجل بناء دولة وطنية، خاصة وأنها الهوية التي اعتمدت عليها حركات مقاومة الاحتلال، لتنشأ حركات وطنية إسلامية كالحركة القادرية في الجزائر، أو السنوسية في ليبيا، التي أصبحت وجها لوجه مع قوات الاحتلال، بعد فقدان دعم الدولة العثمانية لانشغالها بحرب البلقان 1912- 1913، فرغم أن سياسة السلطان عبد الحميد الثاني 1878- 1909 الإسلامية التوحيدية، كانت وراء دعم الشعوب المسلمة للعثمانيين في صراعهم مع بريطانيا و فرنسا، فإن القوى الاستعمارية الأوروبية استطاعت إنشاء دويلات القناصل منذ القرن التاسع عشر، قسمت الشعب و السلطة بناءا على العرقيات و الجغرافيا، مما فسح المجال أمام الأقليات و فتح الباب لمشاريع بديلة تدعم الأقليات الدينية، مثل المشروع الصهيوني. مثلت اتفاقية القسطنطينية بين الفرنسيين و البريطانيين و الروس سنة 1915 ، تقسيما للأراضي العثمانية الواقعة في الجزء الأوروبي و في أسيا الصغرى، بينما كانت اتفاقية سايكس- بيكو الثنائية بين البريطانيين و الفرنسيين سنة 1916 تقسيما لأراضيها العربية، فكان التمسك بالقومية لبناء الدولة الوطنية مفروضا من طرف تلك القوى التوسعية، و لم تنتجه سيرورة تاريخية اجتماعية كما حدث في أوروبا؛ فكانت الوعود البريطانية للشرف حسين بدولة عربية مستقلة، مواجهة بين القومية العربية و التركية و إضعافا لوحدة وانسجام السلطة المركزية للدولة العثمانية. بإزالة نظام الخلافة و السلطنة مع مصطفى كمال أتاتورك، انحصر صراع الدولة من أجل الأجزاء الأوروبية حول اسطنبول و الأنضول، لإبعاد اليونانيين و الحفاظ على وحدة تركيا، فخلا الفضاء للبريطانيين و الفرنسيين في البلاد العربية، التي فقدت الصلة مع الدولة التركية بعد إزالة نظام الخلافة، فأتخذ النضال ضد الامبريالية الغربية في عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي، شكل حركات تحرر و استقلال وطنية أكثر من كونها عقدية دينية، مع أنها لم تخل من العناصر العقدية الدينية، لكنها قامت على مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، "هذا المبدأ الذي حول العصبيات و النزعات و الأقليات والإثنيات المحلية و الإقليمية إلى قوميات و شعوب و أمم"[19]. اكتملت عناصر بناء الدولة القومية في أوروبا، فصار الترابط بين العرق و اللغة و الموطن أو الأرض المحددة للقومية، وتم نقل هذا الترابط إلى البلاد العربية دون أن تكتمل عناصره، كما كانت سياسة الانتداب و الحماية التي انتهجتها الدول الاستعمارية، سببا مباشرا في إعاقة قيام دولة وطنية قومية أصلية في تلك البلاد.
   تجسد قلق العرب على مصيرهم إزاء الدولة العثمانية، في سياسة التتريك التي سادت عهد الاتحاد و الازدهار مما دفع مفكرا مثل عبد الرحمن الكواكبي إلى نقد استبداد الحكم العثماني، و جعل العرب يعقدون مؤتمر  باريس عام 1913 ، للتعبير عن رفض المركزية التركية، لكن ذلك القلق ساهم أيضا في توضيح التقسيمة العرقية في الإسلام؛ العرب و الفرس و الترك، هؤلاء هم الذين طوروا الحضارة في صيغتها الإسلامية، لكن النزعة القومية تنامت في الدول العربية، إذ أصبح العرب أوصياء جددا على الدين الإسلامي، ورغم التعاون بينهم في أقاطر مختلفة، فإنهم كانوا ميالين إلى العمل المنفرد من أجل التحرر و الاستقلال، ثم التوحد بعد ذلك، فوصلت في نهاية مطافها إلى الجامعة العربية سنة 1943 . جاءت فكرة الوحدة العربية كرد فعل ضد التقسيمات التي وضعها الأوروبيون بعد اقتسام إرث الرجل المريض، و كبديل للتقسيمات و الأقليات المصطنعة، مزاوجا بين فكرة الأمة الجماعة القديمة، و فكرة الدولة القومية أو الوطنية الجديدة. لكن فكرة الوحدة بدأت تفقد بريقها منذ ستينيات القرن العشرين، حين اشتد صراع الحرب الباردة، فسيطرت على الوعي العربي فكرة التوازن الدولي، وضرورة التحديث و العلمنة و الديمقراطية قبل الوحدة. فإما التسليم بالتبعية و الهيمنة، أو اعتبارهما تهديدا للوجود العربي السياسي و الإنساني، بين هذين الموقفين تأرجح الفكر العربي الحديث و المعاصر، في مسألة بناء الدولة خلال الاحتلال الأجنبي و بعده. شهدت عشرينيات القرن الماضي ظهور السلطات الوطنية، التي جعلت مهمتها الأساسية هي الإصلاح، حيث اتخذ هذا الأخير صيغة  إسلامية مثلتها الحركات السلفية، كاشفا عن علاقة الفقيه بالسلطة السياسية، و عن ضرورة جبه الزحف الغربي على البلاد الإسلامية،  الذي لا يمكن إيقافه إلا بدولة عصرية قوية، ذلك ما لا يمكن تحقيقه إلا بفصل نخب الدولة من رجالات الفقه، و بتمييز التعليم المدني عن التعليم الديني، و بوضع قانون مدني وإنشاء كيانات وطنية خاصة على نهج الدولة الأمة الأوروبية القومية، تجسد هذا الفصل بين الدولة و الدين أولا في تركيا سنة 1924 ، فأصبح بإمكان رجل السياسة تجاوز المرجعيات الشرعية. غير أن العنصر الديني ظل حاضرا بصور متعددة في المشاريع الإصلاحية العربية، وظل الخوف على الهوية الإسلامية وراء إنتاج عدد من المفكرين، فيما أعلن البعض الآخر عن إفلاس النموذج الديني في الحكم. تزامن ظهور الدولة الوطنية في البلاد العربية، مع ميلاد الإسلام الحربي، متمثلا في نموذجه الأكثر وضوحا، و هو جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر، و انتشر فكرها في باقي الدول، فورثت الدولة الوطنية العربية نموذجين للسلطة؛ نموذج الحكم الكولنيالي و نموذج الدولة السلطانية الموروث، حدث دمج النموذجين في الدولة الوطنية العربية الحديثة و المعاصرة، وظل التحديث سطحيا و مزيفا، كما ظل الاستبداد مستشريا باستمرار التقاليد السلطانية، رغم اختلاف هياكل السلطة و مضامينها؛ سواء أكانت نظم ملكية أو جمهورية وراثية عسكرية أو شبه عسكرية، أو كانت قبلية طائفية، مما يعني فشل الدولة الوطنية العربية، وقصورها عن تحقيق مجال سياسي مستقل عن الهياكل التقليدية. " و الوجه الذي نعني، هنا، هو فشل نموذج الدولة الوطنية الذي قام في البلاد العربية ، الحديثة و المعاصرة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، و عجزه عن بناء حياة سياسية عصرية شرعية و مستقلة..."[20]، لم يتغلغل التحديث في مختلف بنيات المجتمعات العربية، و بقي سطحيا رغم وضع الدساتير و إقامة البرلمانات و الأحزاب، إذ استمرت جميعها في النهل من العناصر العصبية و الإقليمية و الدينية و المذهبية، فلم ينشأ وعي وطني مبني على تجربة متأصلة، بقد ما ظل متشبثا بالعصبيات و التقاليد. صارت الدولة إذن حديثة في هيكلها و شكلها، و سلطانية في جوهرها و مضمونها، تحولت بذلك إلى مجال لإعادة إنتاج التقليد في حلة جديدة، و وسيلة لتبرير الاستبداد السياسي و الفساد الإداري، أي أن هذه الدولة لم تُمثل المجال السياسي الذي تحكمه القوانين و قواعد المواطنة، بل اختُزلت في أجهزة ورموز منفصلة عن القوى الاجتماعية الفاعلة، التي بدأ بعضها بعبر عن المطالب السياسية بشعارات دينية، وجدت انتشارا بين الشعوب و طعمت نزعات الإسلام السياسي. حلت فكرة الثورة في الوعي العربي، عوض فكرة الإصلاح و التغيير التدريجي، فلم تكن كل الحركات الاحتجاجية إسلامية المنزع، بل كان للاشتراكية نصيب كبير في تحريك الاحتجاج العربي، ذلك هو حال ستينيات و سبعينيات القرن العشرين، هذه الظروف جعلت الدولة الوطنية العربية في مواجهة العنف، سواء في صيغته الإسلامية أو الاشتراكية الثورية؛ يرى المنتسبون للأولى أن الدولة الوطنية دولة كافرة، و ومحاربتها واجب شرعي، بينما وجد فيها المنتسبون للثانية تجسيدا للرأسمالية المتوحشة، و محاربتها واجب اجتماعي و تاريخي. حتى الحركات الإسلامية التي تحالفت مع السلطة دليل على سطوة الديني و قدرته على صياغة السياسي . ولدت الدولة الوطنية العربية ولادة قيصرية، ولم يترسخ في الوعي السياسي العربي مفهوم المواطنة، لدى النخب كما لدى الشعوب، خاصة بعد إخفاق كل الحركات الاحتجاجية، و زيادة نجاح الاستبداد في البلاد العربية.
   تعرض مفهوم الدولة الوطنية شأن باقي المفاهيم السياسية، إلى إطار نظري مفرغ من محتوياته، كما اتخذ مسارات تختلف جذريا عن تلك التي تولد فيها، لذلك اختلف التعامل مع المفهوم في الفكر العربي السياسي، باختلاف المذاهب و المرجعيات؛ فبينما رفضه البعض لتعارضه مع الأطر النظرية للسياسة الشرعية، حاول البعض الآخر تبييئه استنادا إلى القاعدة المقاصدية، أما فريق آخر فوجد في الدولة الوطنية الوصفة العلاجية لعلل المجتمعات العربية الإسلامية. طال الجدال بين دعاة الأصالة و المتحمسين للحداثة، من أجل التأصيل لممارسة سياسية عربية يمكنها انتشال المجتمعات من تخلفها و انكسارها. لكنها جدالات لم تنعكس على الواقع العملي للسياسيين، و لا على الواقع اليومي للشعوب، فهذه الأخيرة لا ترى في الدولة أكثر من سلطة متعالية و مطلقة لا تكترث لمواقفهم و آرائهم و احتياجاتهم، في تسييرها و تدبيرها للشأن العام، فبينما تحصل النخب الحاكمة على جنسيات مزدوجة، يحلم أفراج الشعب بوطن بديل طريقه المفتوح هو الهجرة. وصل الإنسان العربي إلى درجة احتقار ذاته وتمجيد غيره الأوروبي، الغير الذي جسد العدالة و الرفاه الاجتماعيين.


الإصلاح و الدولة الوطنية
  احتل مفهوم الإصلاح مساحة شاسعة في الفكر السياسي العربي، لذلك كانت تيارات النهضة في مواجهة سؤال الذات و الآخر، السؤال الذي تردد في خطابات التيارات الثلاثة الكبرى في النهضة العربية الحديثة، أي الإصلاحية الدينية و العلمية العلمانية، و الليبرالية السياسية؛ بدأ الأفغاني الإصلاح الديني  ليواجه بفكره الاحتلال الخارجي، و الاستبداد الداخلي في الآن ذاته، ثم اتخذ الإصلاح مع محمد عبده، و تلامذة الأفغاني: مصطفى كمال و محمد فريد و سعد زغلول، صيغته الوطنية التي واجهت الاستبداد التركي من جهة، و حاربت الاحتلال البريطاني من جهة أخرى، لكن لقي المشروع الوطني معارضة لاحقا من طرف مفكرين أمثال رشيد رضا، الذي رأى في الوطنية مخاطر العلمانية وتقليد الغرب والفرنجة، كما هو الحال في تركيا بعد الثورة الكمالية سنة 1924 ، فتوقف المشروع الإصلاحي بدوافعه الوطنية مع حركة الإخوان المسلمين، التي عادت إلى المفاهيم التقليدية؛ " ولعدم تطوير الحركة الإصلاحية و توقفها تحولت – حركة الإخوان- إلى حركة سلفية ومنها خرجت الجماعات الإسلامية المعاصرة"[21]. أما الفكر العلمي العلماني فانطلق مع شبلي الشميل و فرح انطون بجعلهما من فكرة الإصلاح محورا لتحقيق النهضة، ذلك من خلال تبني المهج العلمي و الإعلاء من شأن الفكر العلمي، في حين مثل للفكر الليبرالي السياسي رفاعة الطهطاوي، الذي وضع موضوعات جديدة للفكر الوطني، تتعلق بالدستور و الحر  و المساواة، و الحديث عن الزراعة و الصناعة و التعليم، من أجل بناء الدولة الحديثة، و صار التأكيد على مفهوم الوطنية كما عند لطفي السيد. لكن سرعان ما ارتكس مشروع الإصلاح، وتحولت الدولة من أداة تكوين إلى وسيلة للقهر، كما تحولت النخبة من بانية للدولة الوطنية، إلى مجرد فئة موظفين لدى الأنظمة السياسية، و من طبقة تقاوم الاحتلال الأجنبي، إلى مجموعة عملاء يقومون بخدمة مصالح القوى الكبرى، و مصالحهم الخاصة، و وجه أخر للاستبداد من خلال إعادة إنتاجه في صيغ جديدة، سواء باسم القومية أو الاشتراكية أو ليبرالية .
   ارتبط بناء الدولة الوطنية في البلاد العربية بمفهوم الإصلاح، و ذلك للأسباب التي سبقت الإشارة إليها، فرغم أن الحركة الإصلاحية بدأت التفكير في إصلاح الدين، برد الإسلام الاجتماعي إلى الإسلام المعياري، فإن مسألة التحديث كخطوة من خطوات الإصلاح، فرضت نفسها رغم الجدل الفقهي الذي أثارته في بدايتها، فلم يأبه أحد لمقولة علم الكفار، بل أصبحت كل أسباب القوة مطلوبة لبناء الدولة الحديثة؛ في مصر كما في المغرب وغيرهما من الأقطار العربية، كان الإصلاح وسيلة لبناء الدولة الوطنية، لذلك توجه نحو الجيش أولا و التعليم ثم الإدارة. كانت هزيمة الجيوش العربية أمام الغرات الأوربيين دافعا قويا للتحديث العسكري، إذ انكشف الضعف في التسليح و التنظيم. لم يجد الجيش الفرنسي صعوبة في سحق الجيش المغربي الذي كان تجهيزه تقليديا وتنظيمه ضعيفا،  بمعركة إسلي سنة 1844، ، كذلك الشأن بالنسبة للبريطانيين في مصر، الذين احتلوا القاهرة بعد هزيمة قوات محمد عرابي في التل الكبير سنة 1882، لم يكن الفرنسيون أكثر شجاعة من المغاربة، و لا كان البريطانيون أكثر جسارة من المصريين، ولكنهم كانوا أفضل منهم تسليحا و تنظيما و تدريبا. لكن الجيش يحتاج إلى عقيدة مثلما يحتاج إلى السلاح و العتاد و التنظيم، من هنا لابد من إصلاح نظام التعليم لتربية الشعب على قيم محددة، تجعل أفراده مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل وطنهم، لا مفر إذن من ترسيخ المبادئ الوطنية بواسطة النظام التعليمي، فهذا الأخير قاعدة البناء التي تشيد على صرحها دولة قوية و متطورة. عنى الإصلاح ضمن الدولة الوطنية توجها نحو الغير، و محاولة النهل من تجربته، بينما عنى لقدماء المسلمين العودة إلى الذات، و التنقيب في التاريخ عن حلول التخلف و وسائل للتقدم، انتصب أمام المحدثين منهم إذن، رهان بناء وعي وطني من خلال جيش و تعليم واقتصاد يخدم المصلحة الوطنية، التي اعتبرت مصلحة عليا لا يمكن تغافلها أو استبدالها، إذ إلى جانب القوة العسكرية التي صدمت الجيوش العربية، وقفت قوة اقتصادية أخضعت أنظمة الحكم، قبل و أثناء و بعد الاحتلال. " فمنذ بداية العشرينيات من القرن التاسع عشر أخذ الرأسمال التجاري الفرنسي يفرض وجوده و شروطه على الدولة التونسية و يخضعها إلى سياسة استغلالية مرهقة"[22] . سواء في الإيالات العثمانية أو في الدول المستقلة عن الإمبراطورية، كان الخضوع العسكري و الاقتصادي سيد المواقف، حتى المغرب وقع تحت نير الاقتراض و تراكم الفوائد، فبعد أن تصدت الجيوش المغربية للغزو المسيحي و العثماني منذ السعديين، انهزمت قي عقر دارها و خضعت لسيطرة القوى الاستعمارية الكبرى. " لا شك إذن أن المغرب أصبح منذئذ عرضة لقوتها أيضا بل و لقوة غيرها من الدول الأوروبية التي ستتسرع إلى اغتنام الفرصة السانحة"[23]، لقد فرضت الهزيمة العسكرية ضرورة إصلاح الجيش، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بإصلاحات شاملة تعم كل القطاعات الحيوية في الدولة.
  لعب المحدد العرقي دورا جوهريا في بزوغ إرهاصات الوطنية في البلاد العربية، في مصر مثلا كان رفض الضباط المصريين للميز العنصري الذي مارسته السلطات العثمانية، حين احتفظت بالمناصب العليا للأتراك والشركس، و منحتهم الترقيات و الحوافز، و راء قيام مطالب بالمساواة أولا، ثم تطورت لتصبح حركة وطنية تتحدد بهويتها الخاصة و المستقلة لاحقا. توالت المطالب بالاستقلال عن الحكم العثماني، الذي اضطر بدوره إلى التفكير في الإصلاح، حيث تم وضع الدستور و تشكيل البرلمان سنة 1876، بل وصل الحد مع احتدام الصراع ضد الدول الأوروبية، إلى أزمة داخلية متفاقمة دفعت النخب التركية إلى البحث عن الحل في دولة وطنية، تنبني على القومية و على العلمانية، عوض الدولة الإمبراطورية  و نظام الخلافة. لقد كان إصلاح الجيش و التعليم والاقتصاد و الإدارة مشاريع الإمبراطورية، بداية من سنة 1839 حيث أقر الفرمان السلطاني بالمساواة بين جميع الأفراد بغض النظر عن ديانتهم، غير أن هذا الإصلاح ظل مجرد مشروع و لم يتم تفعيله، أما مرسوم 1856 فكان متميزا في تاريخ الإمبراطورية، إذ هدف الإصلاح بحسبه إلى تكوين هوية جماعية توحد جميع سكان الإمبراطورية، و الانفتاح على القيم الغربية و التجرد من التعاليم الدينية، مما يمكن من التصدي للمطالب الإثنية الانفصالية. من الطبيعي أن تتأثر مصر بصفتها ولاية عثمانية بمجموع الإصلاحات التي حدثت في المركز، و على نفس الخطى سار المصريون نحو بناء دولة وطنية من خلال الإصلاحات، التي يجب إن تطال القطاعات الحيوية في الدولة؛ مثل فيها إصلاح الجيش نقطة الانطلاق، لكن مع تشكيل هوية وطنية خاصة متميزة عن هوية المركز، هوية قومية تختلف عن الهوية التركية أو الشركسية، فلم يكن لهذه الحركة إلا أن تصطدم مع الدولة العثمانية؛ كانت حروب الشام الأولى بين 1831 و 1833 دليلا على استقلال مصر، والانفصال الجزئي عن نظم الحكم الدينية المتمثلة في الخلافة، من هنا  تحولت صور الولاءات و اتخذت أبعادا قومية تتجاوز المحدد الديني. ارتبطت القومية بالبعد الجغرافي بداية مع محاولة محمد علي باشا بناء حدود لدولة مستقلة، و التي تمتد إلى الشام و السودان. لكن سرعان ما تم التعويل أكثر على المحدد اللغوي العرقي، لتسطع فكرة الأمة العربية معلنة بداية الثورات التحررية، خاصة و أن ثلة من المفكرين العرب الناقمين على الاستبداد العثماني استقرت بمصر، مثلما هو حال عبد الرحمن الكواكبي، و رفيق العظم صاحب كتاب: الجامعة العثمانية و العصبية التركية أو التأليف بين الترك و العرب، لهذا العنوان دلالته في علاقة الدولة الوطنية بالعصبية العرقية، إذ ظلت هذه الأخيرة عنصرا ثاويا في الممارسة السياسية الإسلامية، بل و الغربية كذلك .
   ما كان المغرب الأقصى بعيدا عن اضطرابات القرن التاسع عشر، القرن الذي يمكن وصفه في العالم العربي الإسلامي، قرن إصلاحات اضطرارية فرضها السياق الكولنيالي؛ تعرض المغرب إلى ضغوطات كبيرة من طرف القوى الاستعمارية الأوروبية، التي كشفت جيوشها عن ضعف الجيش المغربي، و وهن النظام السياسي القائم في البلاد. دفعت هذه الظروف السلطان المغربي عبد الرحمن بن هشام، و ابنه محمد بن عبد الرحمن إلى التفكير في إصلاحات مماثلة لما حدث في المشرق، فكانت البداية من الجيش كالعادة، و حاول السلطان المغربي تأسيس جيش وطني يعوض قبائل كيش الوداية و جيش عبيد البخاري، يكون قادرا على الدفاع عن الثغور المغربية. لكن خلافا لدول المشرق لم يكن أساس الوعي الوطني نتيجة لتصادم عرقيات مختلفة، بل كانت قائمة منذ زمن بعيد على القبلية و على محددات تاريخية، أكثر من انبنائها على المحددات العرقية، إذ كانت لأنظمة الحكم في المغرب شرعية تاريخية- دينية، تمكنت من تحديد مجالها الجغرافي المستقل عن الإمبراطورية العثمانية و غيرها من الإمبراطوريات القوية. غير أن القرن التاسع عشر قلب الأوضاع في المغرب، إذ خضع السلطان لإملاءات الدول الاستعمارية، لتبدأ المواجهة بينه وبين الفقهاء، الذين جعلوا البيعة مشروطة بتحرير البلاد من الاحتلال؛ كان لدى المغاربة إذن هوية وطنية مؤسسة على الجغرافي و التاريخي، أكثر من أي شيء آخر، و إن كان للعنصر الديني نصيب في تحديد هذه الهوية. أكبر التحديات التي عرفها المغرب حينئذ، أثناء بناء الهوية الوطنية، الاحتلال الاسباني لسبتة و مليلية و المناطق الجنوبية، و الفرنسي لباقي المناطق، مع تحويل طنجة إلى منطقة دولية. لم يعن هذا الاحتلال اقتطاعا لأجزاء من الوطن المغربي، بل كانت كذلك محاولة لاقتطاع الهوية التاريخية، من خلال الغزو الثقافي الذي حرصت تلك القوى على تحقيقه، لكن يقظة النخب خلال تلك الفترة التي انفتحت على نهضة أوروبا و مبتكراتها، حرصت على حماية الهوية الوطنية. " و من الواقع أن مجموعة من النخبة المغربية بدأت تنفتح على عدد من مبتكرات هذه النهضة، و بالضبط على المنجزات التي لا تصادم الأخلاق و الأعراف الوطنية، و لا تعصف باستقلال البلاد"[24] . باشرت  النظام الحاكم و النخب، مجموعة من الإصلاحات للحفاظ على الدولة المخزنية، التي تتحدد بهوية وطنية تاريخية، فكانت هذه الأخيرة مصدرا لشرعية النظام الحاكم، و الحفاظ عليها حفاظ على السلطة نفسها؛ صار للدولة المغربية غاية الحفاظ على هويتها، مع الانفتاح على المنجزات الأوروبية، و كذلك من التحولات في الشرق، خاصة بعد إرسال السفراء إلى أوروبا،           و الرحالة إلى الشرق، فاجتهدت الدولة في الاقتباس من الحضارة الغربية، وتجسدت اجتهادها رسميا في مبادرة السلطانين، محمد الرابع، و الحسن الأول، لتحديث النظام العسكري، و إرسال البعثات إلى أوروبا. ليست غاية هذا التوجه نحو الغرب، سوى خطوة نحو بناء دولة وطنية مستقلة، لكن الإصلاح قاد إلى  الوقوع تحت الاحتلال الأجنبي، و هذا الأخير سيعمل على محو الهوية الوطنية، إلا أن سؤالا يفرض نفسه ضمن هذا السياق: كيف يمكن الحديث عن حس وطني، في دولة مخزنية قبلية؟
   تبلور الحس الوطني في المغرب ضمن شروط مختلفة لما ساد في المشرق، و في باقي دول شمال إفريقيا، كانت هذه الظروف منطلقا لبعض المؤرخين من أجل إنكار وجود روح وطنية، في مغرب القرن التاسع عشر، ذلك ما نجده عند الفرنسي اندري لوبلون André Leblanc ، الذي اعتبر المغرب خلال تلك الفترة، مجرد خليط مضطرب من القبائل تنعدم لديها فكرة الوطنية، " إن المجتمع المغربي ما هو إلا خليط مضطرب من القبائل... تنعدم لديها فكرة الوطنية بقدر ما تنعدم الطاعة لرئيس مشترك...الاروبيون وحدهم هم الذين خلقوا وهم مملكة مغربية..." [25] ، بينما وجد البعض الآخر بدايتها مع تأسيس جمعية لسان المغرب السرية، بين 1907  1908، " و كل ما نعلمه أن هناك جماعة من الشباب الناهض... كانوا يقومون على جمعية سرية لتنوير أذهان المغاربة، و مقاومة الاحتلال الأجنبي... و من جهة أخرى فقد كانت فئة من المشايخ ترمي للمشاركة في وضع انقلاب مغربي...بعضها كان يستمد قوته من رجال الدولة العثمانية، و بعضها من الدول المستعمرة، و كانت هذه الفئة تلاقي معاكسة من الوطنيين أنفسهم و من بعض المصلحين السلفيين"[26]. يبرز هذا المقتطف أن الحركة الوطنية في المغرب كانت متميزة في توجهاتها و مرجعياتها، عن مواقف شيوخ القبائل من جهة، و عن مرجعيات الإصلاحية السلفية، و أنها حركة بدأت بالسرية في عملها و نضالها. لكن يعترض جرمان عياش، على ربط بداية الحركة الوطنية ببداية القرن العشرين، إذ يمكن الصعود بنشأة الروح الوطنية في المغرب، إلى القرن الخامس عشر إبان مواجهة الاحتلال البرتغالي و الاسباني، حيث وقفت انتفاضات القوى الشعبية في وهج الغزاة. " فإن الانتفاضات التي قامت بها القوى الشعبية هي وحدها التي مكنت المغاربة من عدم التعرض للإبادة، كما حدث بالنسبة لبعض الشعوب الأمريكية"[27]. لقد كانت أربعة قرون من الكفاح ضد نفس الغزاة كافية لإذكاء الروح الوطنية عند المغاربة، و كانت عاملا لوحدة الشعب المعنوية، رغم غياب المقومات المعاصرة التي تحكمت في نشـأة الأمم. لكنها أصبحت أكثر تأججا في القرن التاسع عشر، في ظل مواجهة الاحتلال، و رغم انبنائها على أسس دينية و عقدية، فإنها رسخت شعورا وطنيا و أقامت حمية و وعي وطنيين، ظهرا في صيغتهما الأكثر اكتمالا في القرن العشرين. يمكن القول إن المغرب خلافا للمشرق، بدأ الإصلاح من أجل الحفاظ على الدولة الوطنية و تطويرها، بينما باشره المشرق من اجل بنائها، إضافة إلى انبنائه في هذا الأخير على المحدد العرقي أكثر، بينما اتخذت صيغة مخزنية في الأول، وتحققت وحدة بين الحركة الوطنية و المؤسسة الملكية، في مطلبهما المشترك، أي المطالبة بالاستقلال، لتتخذ العلاقة تلك مسارات جديدة بعد الحصول عليه.
   استمر الإصلاح في العالم العربي الإسلامي زمنا طويلا، و لم تكن غايته شيئا آخر سوى الوصول إلى الدولة الوطنية, غير أن محددات هذه الأخيرة كما تبلورت في الغرب، لم تتناسب كليا مع مكونات هذا العالم، بل شكلت نموذجية الدولة الأوروبية عائقا أمام اكتمال الإصلاحات، و تحقيق غايتها المتمثلة في الاستقلال، و الخروج من حالة الهوان و التبعية التي ترزح تحتها؛ انضافت مصاريف الإصلاح إلى ضرائب الحرب الثقيلة المفروضة من طرف المنتصرين، فأنتجت ارتفاعا مهولا في المديونية الخارجية، و بالتالي انضافت التبعية الاقتصادية للتبعية السياسية و العسكرية. حتى إصلاح الجيش كان تكريسا لحالة التبعية تلك، إذ لا تعني الاستعانة بالعدو التاريخي لتدريب الجيش و تسليحه، اعترافا بتفوق هذا العدو فقط، بل تعني أيضا تمكينه من معلومات و معطيات، يفترض أن تكون محاطة بالسرية. سنة 1882 مثلا، أرسلت البعثة العسكرية الفرنسية إلى وزارة الدفاع الفرنسية بباريس، تقريرا مفصلا حول عدد الجيش المغربي، ونوع عتاده و أسلحته[28]. إن إصلاح الجيش في المغرب كما في غيره من البلاد العربية، هو لب الإصلاحات و جوهرها. لكن عوض أن يساهم إصلاح الجيش في بناء قوة الدولة العسكرية، من أجل بناء و الحفاظ على دولة وطنية، باقتصادها و إدارتها و تعليمها و قيمها، أصبح الإصلاح عنوانا للتبعية، و إخفاقا للدولة الوطنية التي تصورتها النخب العربية.
   الدولة الوطنية و مفهوم الشعب
ليس بالإمكان تعريف الدولة الوطنية دون استحضار مفهوم الشعب، و إذا تبينا سالفا، المسارات التي قطعه المفهوم، و حددنا ظروف نشأة و تطور الدولة الوطنية، فإننا نستطيع ملاحظة غياب الأول بمعناه الحقيقي، وصعوبة تحقق الأخيرة فعليا، حين يتعلق الأمر بالمجتمعات العربية الإسلامية. إذ لا يمكن اجتثاث المفاهيم من سياقاتها، و إلا وقعنا في الإسقاطات اللاتاريخية، لأنها تشكلت من داخل الواقع الغربي، بينما كانت واردة من الخارج في واقعنا العربي الإسلامي. لقيام دولة وطنية لابد من وجود شعب موحد، و أراضي محددة و نظام سياسي تتجسد فيهما سيادة الدولة، بما أن هذه الخيرة لا تستمد شرعيتها إلا من الشعب، غير أن وحدة هذا الأخير ليست متجانسة و لا مكتملة، إذ تشهد الكثير من الدول التي اعتبرت نموذجا للديمقراطية، و للدولة الوطنية الحديثة، حركات انفصالية تطالب بالاستقلال عن المركز لنفس الأسباب التي تأسست عليها تلك الدولة، في بداياتها ، أي الخصوصيات العرقية أو اللغوية الثقافية أو التاريخية... لكن العلاقة بين الدولة الوطنية و الشعب في البلاد العربية ملتبسة، بل يصعب الإقرار بوجود علاقة بينهما على غرار البلاد الأوروبية، و لاستجلاء خفايا هذه العلاقة نحصر تفكيرنا في نموذج بعينه، و هو النموذج المغربي. فهل بالإمكان الحديث عن شعب مغربي؟ و إذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف تشكل و تكون؟ و إلا فإن نفي صفة الشعب عن المغاربة، سيؤدي رأسا إلى إنكار وجود دولة وطنية في هذا القطر الإفريقي، فهل يمكننا فعلا اعتبار المغاربة مجرد رعايا، حتى في ظل دولتهم الحديثة، التي يمكن نعتها بالوطنية؟
   كانت الوحدة الروحية منطلقا لتوحيد القبائل المغربية، وهي وحدة امتزجت فيها المنافع المادية بالمثل الدينية والروحية، وذلك منذ المرابطية، " فلنلاحظ أن المؤرخين أنفسهم اضطروا للاعتراف بهذا النفوذ الروحي و هذه الوحدة الدينية منذ المرابطين، و إلى يومنا هذا."[29]، حيث اكتسب السلاطين قوتهم من هذه الوحدة الروحية، وظهر نفوذهم السياسي في العلاقة بالقبائل و الزوايا، فأصبحوا السلطة العليا التي توحد بين هذا الأخيرة، وتفض النزاعات التي تنشأ بين بعضها، أصبح توطيد السلام داخل البلاد، مسؤولية السلطان الذي رسخ سلطته السياسية و الإدارية، فأصبحت القبائل أكثر انقيادا له. بما أن الدولة المغربية منذ نشأتها دولة تجارية، فقد كونت إطارا لتنمية النشاط التجاري و ازدهار الاقتصاد، مما احدث شبكة اقتصادية تربط القبائل بالسلطان، فإلى جانب الوحدة السياسية انتصبت وحدة اقتصادية مهمة، لكنها وحدة لم تكن شاملة، لأنها جهوية التفت حول العواصم، ومضطربة من حين لآخر، لأنها كانت ميالة إلى الاستقلال و الانفصال. أدت الوحدة الروحية إلى انتشار اللغة العربية، دون تراجع اللغة الأمازيغية للقبائل الناطقة بها، كما أدت الوحدة الاقتصادية التي نشأت حسب بعض المؤرخين حوالي القرن الثاني عشر، إلى قيام مؤسسات الدولة المغربية، التي حافظت على هياكلها و زادت قوتها، رغم تعاقب القبائل الحاكمة، مما جعل التحولات في بداية قيام الدولة المغربية داخلية، بينما كان العامل الخارجي سببا في وحدتها لاحقا، ليستمر نظام الحكم السلطاني و يمثل سلطة الدولة المركزية، التي يمكن القول أنها تحولت إلى كيان مجرد، تتداوله سلالات حاكمة مبنية على القبلية، و هو الكيان الذي عرف بمسمى " المخزن"، الذي تحددت علاقته بالقبائل كسلطة دينية، بينما ظلت السلطة السياسية الدنيوية في يد القبائل نفسها، و قد ساعدها على ذلك قوتها وتحصنها بالمناطق الوعرة، ناهيك عن حميتها العصبية و روحها القتالية، من هنا كانت الأمة المغربية مكونة من عنصرين أساسيين، لذلك ستستمر العلاقة المتوترة بين الطرفين، التي تجسدت في تقسيم المغرب إلى بلاد المخزن و بلاد السيبة ، التقسيم الاستعماري الفرنسي، الذي برر احتلال البلاد و فرض السيطرة على المخزن، هذا الأخير أصبح عاجزا عن تأمين سلامة المحميين، بسبب تهديد القبائل الهمجية، و بالتالي أظهرت فرنسا نفسها كدولة تسعى إلى الحفاظ على مصالحها و رعاياها، لكنها في الآن نفسه تحافظ على  الأمة المغربية من شر نفسها، غير أن فزاعة السيبة و الفتنة و الاضطراب، تحولت إلى حافز لدى المغاربة لجمع الكلمة و الكفاح ضد المحتل. افرز تطور الأحداث تدريجيا تكاثفا بين سكان البلاد، الذين انتظموا بفضل دولة نشأت مبكرة و ظلت هي نفسها، حتى بزغ الشعور بالإخوة في الجماعة، أو بصيغة أخرى الأخوة في الوطن، التي عبرت عن نفسها بقوة أكبر في الكفاح و مقاومة الاحتلال الأجنبي. لعب التصدي للغزو إذن دورا أساسيا في تشكل الحس الوطني، أي إرهاصات مفهوم الشعب كما تبلور في سياقه الديمقراطي، كمكون جوهري من مكونات الدولة، و القوة السياسية الأولى، إذ استطاع الشعب المغربي أن يشكل قوة سياسية فاعلة، في نضاله من أجل الاستقلال و التحرر. إنها القوة التي تدفع المجتمع إلى امتلاك مصيره و يستوعب القيم الحضارية للشعوب السائدة، في محاولة للحفاظ على الذات و انتزاع الاعتراف. لكن، هل يكفي التكاثف بين السكان الذي يولده التهديد الخارجي، أن يكون أساسا يقوم عليه مفهوم الشعب؟
   يستدعي الحديث عن الشعب المغربي، استحضار العلاقة بين المجالين الحضري و القروي، و تحديد تطور البنية الطبقية بالوقوف على تحولاتها، بين الزمنين الكلاسيكي و الحديث. لقد كانت العلاقة التكاملية كما هو معلوم، عند اليونان بين المجال القروي و الحضري، وراء بناء الديمقراطية الأثينية، و بما أن لهذه العلاقة تأثير عميق في البنيات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، في العالم القديم و في نظم الدول و المجتمعات التقليدية، لا بد من استجلاء حيثياتها و تمفصلاتها داخل المجتمع المغربي. لم يتحقق في هذا الأخير تجانس بين المدن والبوادي، ذلك أن سكان المدينة كانوا أكثر ولاء للنظام السياسي، بحكم قربهم من السلطة المركزية و ممثليها، واستفادتهم من البنية التجارية للدولة، فيما ظلت البوادي على الهامش أقل ولاء لنظام الحكم،على اعتبار بعدها عن طرق التجارة، مما منحها استقلالا اقتصاديا و جعلها منغلقة نسبيا على ذاتها، و لعل ذلك ما يفسر قيام الدول في المغرب على أسس قبيلة، حيث حاولت القبائل السيطرة على التيارات التجارية، و الحصول على الأراضي الجديدة، رغم قيام دعواتها على أصول دينية، ذلك منذ البرغواطيين إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. كانت العلاقة بين المدينة و البادية إذن، محركة للتاريخ السياسي و الاجتماعي للمغرب، طيلة تلك المدة من الزمان، لكنها أفرزت بنية اجتماعية و ثقافية مشتركة، هي ما نعرفه باسم الشعب المغربي. رغم أن المدينة لم تنشأ من داخل البنية القبلية، بل فرضها عامل خارجي متمثل في التجارة، فإنها تحولت تدريجيا إلى مركز تلتف حوله الأرياف و البوادي "و تمثل فاس و مكناس أبرز الأسواق التجارية بالنسبة لشمال المغرب وبربر الأطلس"[30]. شكلت القبائل التي كانت على الهامش المجال القروي، و بينما تمتع التجار في المدينة بظل الحماية السلطانية، ثم في ظل الحماية القنصلية، كانت البوادي رازحة تحت الضرائب و المكوس، هذا ما يبرر عدد من حركات التمرد، كثورة قبائل الشراردة و الوداية و ثورة إبراهيم يسمور اليزكي بتافيلات، ضد السلطان عبد الرحمان بن هشام، أيضا ثورات قبائل آيت عتاب و بني موسى، و قبائل تافيلات، و ثورة بوعزة الهبري ضد السلطان الحسن الأول. في هذه الوضعية كانت وسيلة المخزن للحفاظ على ولاء القبائل هو القوة العسكرية، فكانت حركاته حملات لتأديب المتمردين و القضاء على العصيان، كذلك ظل الحال على عهد السلطان  عبد الحفيظ، الذي واجه ثورة الجلالي الزرهوني. شكلت المدينة على طول تاريخ المغرب المركز الاقتصادي والسياسي    و الروحي، الذي لعبت السيطرة عليه دورا في قيام و سقوط الدول في المغرب. إن مفتاح تلك العلاقة المتوترة بين البادية  و الحاضرة، هو فهم البنية الطبقية داخل المجتمع المغربي، خلال القرن التاسع عشر خاصة؛ لابد من الوقوف على طبقة اجتماعية كانت، بشكل أو بآخر، سببا في الحدود و الفواصل التي تشكلت بين المدينة و البادية، و هي فئة المحميين المعفية من الضرائب و المحتكرة للنشاط الاقتصادي، بل صارت متحكمة في النشاط السياسي ، ساحبة البساط من تحت أقدام الفقهاء، لتصبح وسيلة يضعف بها المحتل الفرنسي سلطة المخزن، و أداة لإقامة نظام إقطاعي قائدي يكرس الاحتلال، و هي نفس الطبقة التي عارضت الحركة الوطنية أثناء نشأتها، من الداخل المغربي. فكيف تكونت الوطنية المغربية؟ و ما هي أصولها الاجتماعية و الثقافية؟ و كيف ساهمت في تكون الشعب المغربي؟ و بما تختلف وحدة الشعب عن وحدة القبيلة؟   و هل تكفي الوحدة من أجل تحرير البلاد لتكوين شعب بمفهومه الحديث و المعاصر؟ و هل يمكن البحث في المكونات الانثروبولوجية ما يوحد بين المغاربة، مما يجعل منهم شعبا؟
  عاشت الفئات المكونة للمجتمع المغربي تحولات في بنيتها، خاصة خلال القرن التاسع عشر مع التدخل الأجنبي، ذلك ما يظهر جليا في تقلص سلطة الفقهاء، و تراجع نفوذ الشرفاء و الزوايا، و لم تعد للخاصة ذلك التأثير العميق في الحياة الاجتماعية و السياسية، و يمكن اعتبار البيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، آخر تدخل للفقهاء في إدارة الشأن العام بقوة مؤثرة. رغم استمرار الفئات التقليدية في أداء وظائفها، فإن تأثيراتها بدأت بالتراجع مع صعود فئات جديدة، لها مرجعيات مختلفة تماما عن مرجعياتها، لأن النخبة التقليدية دينية في تكوينها لم تتعامل مع المحتل الفرنسي، بينما تعاونت الفئة الجديدة- القديمة بشكل غير مشروط معه، فكانت الوطنية حاضرة عند قاعدة كبيرة من النخبة التقليدية، و غائبة كليا لدى فئة المحميين التي احتلت مكانة مركزية في إدارة البلاد، لأنها انشغلت بتحقيق مصالحها الخاصة، عبر تحقيق مصلحة المحتل. استندت الوطنية المغربية في بدايتها على الثقافة الدينية، و كذلك ظلت إلى حدود القرن العشرين،" اعتمد تكوين الفقهاء في المغرب،على الوفاء لنفس القواعد منذ القرون الأولى للإسلام، لأنها أساسية في الحياة الجماعية؛ خلال القرن التاسع عشر ضاقت مضامين العلوم المدرسة في جامع القرويين، إلى حد أنها لم تشمل إلا الفقه و العلوم اللاحقة به."[31] مثل العلماء أو الفقهاء القوة الناعمة المؤثرة في الواقع السياسي و الاجتماعي، و كانت فاس مركز تجمعهم مما كرس مركزية المدينة، إضافة إلى تمركز الأعيان فيها، أي التجار و أمناء التعاونيات الحرفية، الشيء الذي أفشى روح المدنية بين الأفراد، الروح التي تنامت بوتيرة متسارعة، مولدة شعورا بالانتماء الوطني، و بضرورة الدفاع عن المدن و القرى، ليكون التدخل الأجنبي سببا مباشرا في وحدة الشعب، الذي قامت نخبه بمواجهة الفرنسيين عسكريا و دبلوماسيا، و حافظت على هوية الشعب المغربي. يجد عبد الله العروي في المكونات الثقافية محددا مميزا للشعب المغربي، بدء باللباس و المأكل و المشرب  و المسكن و اللغة...، و أبرز الأمثلة على ذلك الوحدة النقدية التي امتدت عبر التاريخ،" كان للمغرب عملتين، واحدة من فضة،و الأخرى من نحاس"[32]، ميزت هذه العناصر الشعب المغربي عن غيره من شعوب شمال إفريقيا، لكنه مع ذلك ظل مجرد خزان للمحاربين، أو مصدرا للمداخيل الضريبية، و لم يرتقي إلى مرتبة الشعب المؤثر في سياسة البلاد، على غرار الشعوب الأوربية، صحيح أن الحركة الوطنية في بدايتها أشعلت جذوة الوعي الشعبي، و تحرك سكان المدن والبوادي بشكل موحد، فإن الشعب ظل مدفوعا بالوجداني و الروحي أكثر  من اندفاعه بسبب العناصر سياسية. بعد تحالف بعض القبائل ضد المخزن، و ثورته عليها زمنا ليس بالهين، تسبب الاحتلال الفرنسي في توحدهما، حيث ظهرت نخبة مغربية ذات تكوين حديث، و ليس تقليديا شرعيا كما كان عليه مع الفقهاء. في خطاب هؤلاء تردد مفهوم الأمة، الذي امتزجت فيه محددات تاريخية ثقافية إلى جانب المحدد الديني للمفهوم، ذلك ما عبرت عنه بقوة على سبيل المثال لا الحصر، رسالة لمحمد بن عبد القادر الكيلالي الشهير بالكردودي،" سارت في البلاد فورة الألم من الهزيمة... و ألف الكردودي رسالة أسماها( كشف الغمة بأن الحرب النظامية واجب على الأمة)..."[33]. لا يمكن الإقرار سوى بتحقق وحدة الشعب المغربي، في أبرز تجلياتها، مع تردد مفهوم الأمة الذي صار مرادفا لمفهوم الشعب، إذ تداخلت في تكونه عوامل دينية و ثقافية في الآن ذاته، ما زال تأثيرها ساريا في الحياة السياسية للمغرب المعاصر. ليس من باب المبالغة، اعتبار قيام حركة الاستقلال في المغرب لحظة لبداية تحديد ملامح الشعب المغربي، لأنها حركة تشبعت بالفكر السلفي الإصلاحي، فكانت مطالبها السياسية مدعومة بحمولة تاريخية و روحية، مكنتها من تحريك الجماهير و التأثير فيها، " أما من الناحية الثقافية فطبيعي أن تتجه همة المصلحين لتذكير الشعب بحالته، و بما كان عليه أسلافه الأولون من مجد و عظمة..."[34]. امتزجت الدعوة الدينية بالروح الوطنية إذن في تشكيل الشعب المغربي، و لم يتدخل المحدد الإثني في هذا التشكيل، وهو المحدد الذي حاولت فرنسا استغلاله لإضعاف المقاومة و الحركة الوطنية، بل أدى العزف على العرقية في المغرب من طرف فرنسا، إلى نتائج معاكسة لمخططاتها، إذ دفع الناس بتوجيه من النخب إلى قراءة اللطيف، احتجاجا على ظهير 16 ماي 1930 المنظم لسير العدالة في القبائل ذات الأعراف البربرية، والمعروف عند المغاربة بالظهير البربري، رغم وجود أصوات تعترض على هذا التحليل، و اعتبرت الظهير مجرد تشريع تنظيمي للقبائل الأمازيغية، و أنه ظهير شرعي بما أنه يحمل ختم السلطان المغربي[35]. مهما يكن، أثر هذا الظهير على النخب التي تخوفت على وحدة الشعب، التي بدأت لتوها تظهر بقوة أكبر أثناء تلك المرحلة، فاستطاعت توظيف هذا الظهير توظيفا سياسيا يخدم توجهاتها الوطنية، لقد شكل نقيضا للمرجعية الفكرية الاستقلالية، أي المرجعية الدينية التي تعتبر العقيدة هي المحدد الوحيد للشعب، و عامل التوحيد الأوحد والثابت، إذ انتقلت النخب المغربية من السلفية إلى الوطنية، في سبيل تحقيق وحدة الشعب. " لقد وجد المغربي في دائرة السلفية ميدانا لبذل نشاطه و تعويد نفسه على العمل لخدمة الأمة و التضحية في سبيلها."[36]. يمكننا استنتاج اقتران مفهوم الأمة بمفهوم الشعب، في الخطاب الوطني المغربي أثناء الكفاح من أجل الاستقلال، أما بعد تحقيق هذا الأخير فقد اتخذ مفهوم الشعب حمولات حديثة، حيث انتظام أفراده ضمن أطر سياسية تمثله وتنطق باسمه، كما تزايد شعور النخب الوطنية بخطورة فرنسة المجتمع، العملية التي تعني محو الهوية والذاكرة الجماعية، أي القضاء على مميزات الشعب المغربي و وحدته، ذلك من خلال فرض اللسان الفرنسي في التعليم والإدارة، مما يسمح بنشر و ترسيخ القيم الفرنسية، التي وجدت في القيم الإسلامية عائقا و حاجزا أمامها، لأن هذه الأخيرة منعت ما أطلق عليه الوطنيون، السياسة التبشيرية و الإدماجية، رغم ذلك لم يكن بالإمكان إلغاء التأثير الذي أخذته السياسة تلك، إذ انضافت فئة من الشباب العصري إلى باقي الفئات التقليدية، من أعيان وعلماء وعمال و فلاحين   و حرفيين، بوصفها الفئات المكونة للمجتمع المغربي بداية من ثلاثينيات القرن العشرين، أما المكونات العقدية فلم تقتصر على الدين الإسلامي، بل اعترفت الحركة الوطنية منذ بداياتها بالدين اليهودي كذلك، و اعتبرتهما معا الديانتين القوميتين حصرا، في هذا الاعتبار إرهاص لتكون مفهوم الشعب بمعنى الحديث في المغرب، أي وضع تصور يجعل الفرد منتميا للجماعة، ليس بسبب دينه أو عرقه، و إنما لأسباب ثقافية وجغرافية و تاريخية. لكن هذه الخطوة لم تكن حاضرة في الدساتير المغربية، التي اعتبرت الديانة الإسلامية ديانة رسمية، و اللغة العربية لغة الإدارة و التعليم. رغم ذلك يمكن تجاوز هذا التحديد العقدي و أللسني و العرقي، و الإقرار بأن الشعب المغربي كناية عن الوحدة التي ظهرت بين السكان على اختلاف أعراقهم و معتقداتهم، من أجل الدفاع و الحفاظ على الذات إزاء الاحتلال الأجنبي، أي محاولة إقامة دولة وطنية بناء على وحدة عنصرها البشري. للشعب ارتباط بالمواطنة ضمن سيادة الدولة و قوانينها. لكننا نجد في البلاد العربية عامة،  و المغرب على وجه التحديد، توفيقا بين الأمة الدينية و شعب الدولة الحديثة، لتبقى الأولى أعم من الثاني في الحالة العربية الإسلامية؛ يمكننا مثلا أن نقول: شعوب الأمة العربية أو الإسلامية، بينما العكس غير صحيح، فتكون الأمة أعم من الشعب، بينما يترادف المفهومان في الحالة الغربية، إذ الأمة أو الشعب هي الجماعة العرقية و اللسانية المحددة جغرافيا، و المحكومة بنفس القوانين و نفس السلطة.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق