الاثنين، 24 فبراير 2020

النقد المعاصر للدولة الوطنية

  النقد المعاصر للدولة الوطنية
ليست الدولة الوطنية نموذجا مثاليا، و إن كانت نموذجا واقعيا للدولة الفعالة، فإنها أول ما تطرح من المفارقات هو ارتباطها بالإيديولوجية، إذ يمكنها أن تكون شيوعية أو اشتراكية أو ليبرالية، كما يمكنها أن تكون أوليغارشية أو إي شكل آخر من أشكال الحكومات، أيضا لا يوجد ما يمنع من اتخاذها شكل الملكيات أو الجمهوريات، بل حتى شكل الإمبراطوريات؛ هذا يفرض على الدولة كسيرورة تنكشف من خلال مجموع ممارساتها، صناعة نموذج للمواطنة يتوافق مع اديولوجيتها الرسمية، و بالتالي، تطرح للنقاش إشكاليات العلاقة بين الدولة الوطنية الحديثة و المواطن، و موقع العدالة داخل دولة مماثلة، بما أنها تحتاج في صناعة النماذج الملائمة لتوجهاتها، إلى وسائل اختراق المجتمع و الثقافة و التحكم فيه، " لكي يشكل كيان ما نفسه في صورة دولة مكتملة التحقق، يجب عليه أن يفترض ذاتا / ذاتية معينة، ألا و هي المواطن"[1]، فلا يمكن قيام دولة إلا بتكون مواطنها، من خلال سيرورة تاريخية لا تعتبر أساسية في الدول، التي تنعت اليوم بالضعيفة أو المتخلفة، لتنشأ في كنف الدولة الحديثة طبقية دولية، تصنف الدول وفق تراتبية اقتصادية و عسكرية و تنموية، و هو التصنيف الذي لا يكترث بإيديولوجياتها، مما يعني أن هذه الأخيرة ليست ضرورية في تحديد الدولة الحديثة، التي تتميز أساسا بصفة المواطنة، و ليس بصفتها الاقتصادية أو الإيديولوجية، إذ إلى جانب كونها تجربة تاريخية محددة و محلية، إلى حد كبير، تحرص الدولة الوطنية الحديثة على استمرار سيادة الميتافيزيقا التي أنتجتها، و على احتكار العملية التشريعية و العنف المشروع، و على دوام أجهزتها البيروقراطية، و تكريس تغلغلها الهيمني في الحياة الثقافية والاجتماعية، " النتيجة هي تحول الدولة إلى مؤسسة تعليمية أكثر شساعة"[2]، و من ثمة تتحدد هذه الدولة كترتيب سياسي – ثقافي، يحيل إلى مركزية أوروبية تحددت جغرافيا و إنسانيا، لكنها تحولت إلى الكونية مع مرور الوقت، خاصة منذ القرن الثامن عشر و التاسع عشر، حيث كان للمنزع الاستعماري للدول الأوروبية أثر في ترسيخ تلك الكونية، لأن الشعوب المتحضرة هي التي تعيش داخل دولة وطنية حديثة، هذه هي الايدولوجيا التي تقوم عليها الأنظمة السياسية الحديثة و المعاصرة، مما يجعلها مزيجا من الطوباوية والواقع، و من الخيال و الحقيقة و من المادي و الفكري. أصبحت لا شخصية الدولة مجرد وهم في الكثير من الأقطار، إذ ظل نفوذ الطبقة الحاكمة سائدا، و ظلت هيمنتها مستشرية في كل بنيات المجتمع، مما يحولها إلى دولة كليانية في جوهرها، و إن كانت هياكلها الحديثة التي لا تخلو من عناصر متخيلة، مثل مفهوم الإرادة التمثيلية الذي يتم إسقاطه بطريقة لاتاريخية، على كل الكيانات السياسية الوطنية الحديثة؛ هذه الإرادة التي تفترض ذاتا مجردة تمثلها، تتعارض مع السيادة التي تستدعي كيانا واقعيا، تمثله الحدود الجغرافية و القوة العسكرية، تتحول الإرادة الشعبية إلى آلية بيروقراطية لتبرير حكم القلة باسم الوطنية و القومية، لأنها لا تتأثر حتى في حالة وصول قوى غير ديمقراطية إلى السلطة، من هنا تتخذ السيادة صيغة متعالية عن تلك الإرادة، وتحول الديمقراطية إلى نوع من الاستبداد، الذي لا يقتصر على العلاقات الداخلية بين الطبقات و الفئات في الدولة، بل يمتد لعلاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى. في هذه العلاقة انكشف الاستبداد الدولي الذي ولدته الدولة الوطنية الحديثة، أي الطابع التوسعي الاستغلالي لهذه الدولة الأوروبية المنشأ، لذلك اختلفت تجربة بناء الدولة الوطنية الحديثة في الأقطار الآسيوية و الإفريقية، عن نظيرتها الأوروبية التي ظلت النموذج المرجعي، مع أنها لا تخلو من تناقضات داخلية، و لا تعدم السلبيات و نقط الضعف؛ حتى الحالات التي تضطهد فيها الدولة الفئات الشعبية العريضة، فإنها لا تفقد شرعيها و لا تضعف سلطتها، يتحول العنف إلى طريق مباشر نحو السيادة، تتنازعها الفئات الحاكمة الضيقة و الطبقات الشعبية العريضة، إذ يمكن للإرادة الشعبية أن تؤسس لسيادة بديلة، لكن دون استغناء عن العنف،و بالتالي تظل الدولة الوطنية الحديثة عرضة للأزمات و الاضطرابات، إنها بنية سياسية هشة رغم شرعيتها التاريخية، إذ بهذه الشرعية بررت بناء متخيلا و أصبحت مجسدة له، وهذا البناء هو الأمة المتخيلة: الأمة الواحدة و  المحددة عرقيا و جغرافيا؛ فالحدود أثبتت قصورها عن تحقيق الغاية المنتظرة من الدولة الوطنية، التي صارت أكثر ميلا إلى الانفتاح على الحدود الإقليمية و القارية، كما أن قضية الهجرة التي أسقطت وهم العرق، حولت الدولة الوطنية إلى فسيفساء عرقية و ثقافية، يمكن أن ينطبق على هويتها الجديدة مسمى اللاهوية، غير أن هذه الوضعية حيث تتعدد الأعراق،تتزايد النزعات العنصرية  و الخطابات المتطرفة، بؤرة تهديد المجتمع و مصدر قلق الحضارة المعاصرة، و ليس خافيا عجز الدولة عن محو العنف من الحياة الفردية و الجماعية، داخلية كانت أو خارجية، بل ما زالت تعتمد العنف في ممارسة سلطتها و الحفاظ عليها، و إلا ماذا يعني أن تشجع الدولة المواطن على التضحية بنفسه من أجلها؟، و من أين لها هذه القوة التي تأثر بها على المواطن الذي يصبح مستعدا للتنازل عن حياته من أجل مصلحتها العليا؟؛ تحولت هذه الدولة التي طالما اعتبرت نموذجا مرجعيا، بنيت على غراره العديد من الكيانات السياسية، إلى جهاز لإنتاج مفاهيم لاهوتية جديدة، و العمل على دونونتها و علمنتها. " وقد شرح كارل شميت القضية بوضوح ثاقب عندما كتب: إن كل المفاهيم المهمة في النظرية الحديثة عن الدولة، هي مفاهيم لاهوتية معلمنة..."[3]، لقد وجد هذا الفيلسوف في الإقرار بالدولة ككائن له سيادة، ما يشبه المعجزة الدينية لأن مرجعيتها الوحيدة هي كينونتها، فهي توجد من أجل أن توجد وغايتها في ذاتها، مما يجعلها متعالية ليس على المواطنين فقط، بل على الإرادة الشعبية  و أشكال الحكم كذلك، تتحول الدولة إلى قيمة عليا لها ميتافيزيقا خاصة بها. قد تكون الدولة الوطنية أكثر دينية في عقيدتها المدنونة ، لأنها تعمل بنفس آليات الفكر الديني، فعوض أن يخضع الفرد لإرادة إلهية، يصبح خاضعا لإرادة الدولة، و عوض أن يضحي المؤمن في سبيل الله، يضحي المواطن الصالح في سبيل الدولة، لأن هذه الأخيرة هي ما يمثل سيادة الوطن و يستطيع الحفاظ عليها؛ هذا يتبع التشريعات و التعاليم الدينية، و ذاك يطيع القوانين و القواعد التي تضعها الدولة، بما أنها تقوم على ثالوث: الإقليم، الشعب، السلطة، حيث تشمل هذه الأخيرة القانون كإرادة سياسية، و العنف الضروري لتطبيق القانون في الداخل و الخارج، لأن الدولة هي الشخص القانوني الذي يمثل كيانا اجتماعيا و قانونيا، لتصير متعالية و مستقلة بذاتها عن الإرادة العامة، تحولت الدولة الوطنية إلى دولة كليانية تمارس الاستبداد باسم قيم الوطنية و القومية، فتُختزل في نظام إداري و قانوني، أي في منظمة إجبارية ذات أساس إقليمي، و من طبيعة سيادية و هقرية. ليست البيروقراطية سوى التجسيد الواقعي لتلك الطبيعة القهرية، فحتى مبدأ الفصل بين السلط ليس سوى منافسة بين الإدارات، لأن الإدارة في الدولة الحديثة هي الوسيلة للتنظيم و التحكم و الحكم والعنف، فهي لا تعتمد في قوتها الداخلية على قدرتها لتنظيم المجتمع فقط، بل على التوغل فيه ثقافيا كذلك، مما يضمن ولاءه إزاءها و يمكنها من تدمير كل الكيانات الداخلية، و منعها من اكتساب سلطة ذاتية مستقلة، لهذه الغاية قامت الدولة بهدم و إعادة بناء الوحدات الاجتماعية – الثقافية التقليدية، مكرسة بذلك إرادتها السيادية، ومضفية المشروعية على أجهزتها الإيديولوجية، كما أن اتخاذها القانون سلطة عليا لا يحولها ضرورة إلى دولة ديمقراطية، إذ يمكن للقوانين أن تكون جائرة و ظالمة، و تخدم مصلحة الفئات الحاكمة على حساب الفئات العريضة من الشعب، و لنا في الرايخ الثالث و إسرائيل و الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أكبر دليل على الظلم الذي يمارس باسم القانون، لقد أشار شيشرون إلى هذه المسألة بالتطرق لحكومة الطغاة في أثينا، حيث لا تتطابق القوانين مع العقل و الفضيلة الأخلاقية، بل تصبح وسيلة فعالة للظلم وانتفاء العدالة، " كان كلسن قد أكد بشدة، مثل كثير من النقاد، أن مفهوم الفصل غير دقيق..."[4]. لم يؤدي هذا المبدأ سوى إلى نشأة الإدارة ككيان مستقل، حيث يمارس موظفون سلطات واسعة، دون حاجة إلى السند الشعبي أو الشرعية الانتخابية، مما يولد كيانات مستقلة و جماعات ضغط، تستطيع من خلال القوانين التحكم في دفة السلطة، ذلك ما يفسر مجموعة من الاضطرابات و الثورات التي شهدتها الدول المعاصرة، في أقطار عالمية مختلفة،  بل إنها دليل كذلك على تعالي الدولة عن القانون نفسه، ففي مثل تلك الاضطرابات يُعلق العمل بالدستور و بالقوانين، تلك هي حالة الاستثناء أو الطوارئ التي تعبر عن تجاوز الدولة لكل قانون و تشريع. تفقد الدولة الوطنية إشعاعها بوصفها دولة دستورية، و تتحول إلى وسيلة للمراقبة و التحكم غير آبهة بالإرادة العامة، و يغدو الحفاظ على هياكلها الإدارية أولوية الأولويات، حيث لا تجد الدولة طريقا إلى ذلك إلا القوة، المتمثلة في الجيش الذي يتعهد بحماية المؤسسات، حتى و إن كان ذلك على حساب الإرادة الشعبية، من هنا يمكن التأكيد على الطابع المتعالي للدولة الوطنية الحديثة، التي أضحت منفصلة عن وعي الأفراد و إرادتهم، و اختُزلت في مبدأ وهمي يدعي الفصل بين السلط، و الحال أنه يكرس مبدأ تفتيت السلطة الذي يضعفها، لذلك حرصت منذ نشأتها على حفظ ذاتها و استمراريتها، رغم تحولها التدريجي إلى مجال للتنافس بين الأحزاب و القوى السياسية الفاعلة، لكنها المنافسة التي تكون تحت رعاية الإدارة و مراقبتها، و من ثمة يتقزم دور المواطن المنصهر في هذا الحزب أو ذاك أو في إحدى الهيئات أو التنظيمات، " من زاوية أخرى، لم تنبني علاقة الدولة الحديثة منذ نشأتها بمواطنيها على المشاعر، لكن على العقل و المصلحة."[5]؛ تغيب في هذه الدولة المقاربة الإنسانية، و تتقوى المقاربات الأمنية المخترقة للحياة الاجتماعية. عادة ما نتسرع في اعتبار الدولة الحديثة، في صيغتها القومية الأوروبية المنشأ، نموذجا للدولة الديمقراطية حيث العدالة و سيادة الحق، و الحال أنها تجربة تاريخية لا تخلو من تناقضات و عثرات، خاصة في حال اجتثاثها من تربتها لزراعتها في تربة أخرى.
   صحيح أن الدولة الحديثة قامت على القومية، لكنها صارت نحو فقدان قوميتها بفعل الهجرة، تماما مثلما فقدت حدودها الجغرافية و الاقتصادية و الثقافية، إذ لا يمكن إنكار ميلاد العولمة في كنف هذه الدولة، كما لا يمكن إغفال دورها في النزعة الاستعمارية التوسعية، التي طبعت فترة مهمة من التاريخ الحديث و المعاصر، و أثرت في البنيات الاجتماعية و الثقافية لعدد من الدول خارج أوروبا،أضف إلى ذلك، إشكال العبودية الجديدة التي تشكلت و تطورت ضمنها، خاصة بعد ارتكاس الرأسمالية من طابعها الصناعي، إلى الطباع المالي ألربوي الذي نشأت على منواله، " حين جرى تبني مفهوم الأمة، في القرنين التاسع عشر و العشرين، في سياقات شديدة الاختلاف وصولا إلى أشكال التعبئة الشعبية في أقاليم و بلدان، داخل أوروبا وخارجها... كان المفهوم ما يزال يجري تقديمه باستمرار بوصفه مفهوم تحديث رأسمالي..."[6]. تصادمت القومية إذن بالقيم الديمقراطية، لأنها تحولت من الأفق الوراثي إلى الأفق القومي العرقي، و تراجعت أدوارها إلى مجرد إعادة إنتاج الهوية، التي تشمل الأرض و السكان مشيئة بذلك السيادة، و مزيحة الصراعات الاجتماعية في مقابل تأسيسها التشكلة الاجتماعية – السياسية، التي أطلق عليها مسمى الأمة، فصارت السيادة المتسامية تلخيصا للتصور البرجوازي الهيمني، الذي حاول جعل هوية الشعب طبيعة و أصلية، إذ طُرِح مفهوم الشعب مع الدولة القومية، بوصفه الأساس الأول و المرجعي لمفهوم الأمة؛ " ليس التصور الحديث للشعب، في حقيقة الأمر، إلا أحد نتاجات الدولة القومية، و لا يحافظ على بقائه إلا في إطار سياقه الإيديولوجي المحدد"[7]. لا يمكن إغفال أن السبب في الكثير من حملات التطهير العرقي و الإبادات الجماعية، كانت باسم القومية و العرقية، التي تأسست على صرحها الدولة الوطنية الحديثة، فهذه الأخيرة تتقهقر إلى كيان يُجسد تمثيلية الشعب في جماعة عرق أو طبقة مهيمنة، تظل قلة لا تلتفت في اغلب الأحيان إلى الرأي العام. ينضاف إلى ما سبق، أزمة الهوية التي نتجت من جراء علاقة الدولة الوطنية بالعولمة، الأزمة التي تتجسد في تراجع الثقافات الوطنية و المحلية، و في سيادة لغة الدول القوية اقتصاديا و علميا و عسكريا، مثال ذلك، المخاوف التي انتابت النخب الفرنسية بعد ملاحظتها تقهقر الفرنكوفونية، و انتشار الأنجلوسكسونية ليس في العالم فحسب، بل داخل فرنسا نفسها كذلك. أظهرت تلك العلاقة حقيقة سيادة الدول، التي تتحدد كشخصية معنوية و كتشخيص قانوني لشعب معين، و هي فكرة خيالية لأن إرادة الدولة ليست شيئا آخر سوى إرادة الحاكم، صارت الدولة إذن، واقعة اجتماعية توجد في كل جماعة يكتنفها اختلاف سياسي، أصبحت أداة للحراسة حينا، و للانقاذ حينا آخر، خاصة و أنها بلغت درجة قصوى من التأزم خلال الفترة المعاصرة؛ تزايد الفوارق الطبقية،         و البطالة و التضخم و ارتفاع عجز الميزانيات و تصاعد العنف ...، لذلك أصبحت الدولة مجبرة على عدم التدخل في الخدمات الاجتماعية، من تعليم و صحة و سكن...، و اقتصرت على الوظائف السيادية كالدفاع الوطني، و الأمن ، و العدالة، و لم تهتم بالنشاط الاقتصادي أو التجاري، لكن مع الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 بدأت إعادة النظر في مهام الدولة، توجت في سبعينيات القرن العشرين بتبني سياسة الخوصصة، التي كرست الفوارق بين الشمال و الجنوب، مما اضطر الدولة الرأسمالية إلى بلورة توجه جديد يوفق بين الليبرالية و تدخل الدولة. تمخضت عن تطورات الدولة الوطنية أزمة هوية، بفعل التغلغل الحضاري للدول القوية، و لهيمنتها الثقافية و الإعلامية، الذي عمل على طمس موروث الدول الوطنية، أي على إخفاء العصبية الجماعية، دون التوفق في ذلك بشكل مكتمل، إذ طلت العصبية و العرقية وراء العديد من الصراعات  و النزاعات المسلحة، التي وجدت مبررها الوحيد في الحفاظ على العرق و القومية. في المقابل عادت أحلام الإمبراطوريات العريقة إلى الظهور في العالم المعاصر، بل ظهرت الميولات الإمبراطورية للدول الحديثة النشأة، كما يتجسد ذلك في النظام العالمي الجديد، الذي خول لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية فرض مخططاتها و توجهاتها،" ... الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بميزة أكثر أهمية جراء النزعة الإمبراطورية التي يتسم بها دستورها بالذات. فكما قال جفرسون يبقى دستور الولايات المتحدة الأفضل تفصيلا ليكون دستورا لإمبراطورية مترامية الأطراف"[8].
   لم تمنع أمثلة الدولة الوطنية من نقدها و الاعتراض عليها، إذ لا يمكن القفز على ظروف نشأتها و تطورها، التي ترتبط بشروط مخصوصة، تولدت تاريخيا بشكل داخلي في بعض الأقطار، و بكيفية خارجية في أخرى؛ فإذا كانت هذه الدولة في أوروبا نتيجة لتراكم تاريخي و اجتماعي ذاتي، فإنها في الدول التي تعرضت للاحتلال الأجنبي نتيجة لظرف خارجي طارئ، لم يتوافق كليا مع بنياتها الاجتماعية و مرجعياتها التاريخية، يبدو هذا التوتر في تجربة دول العالم المتخلف مع الدولة الوطنية الحديثة عامة، و دول العالم العربي الإسلامي خاصة، إذ في مجتمعاتها تعذر استنساخ التجربة الأوروبية، بل أدى هذا الاستنساخ إلى نتائج عكسية، فأصبحت الوطنية والقومية عنوانا عريضا للاستبداد السياسي و الفساد الإداري  المالي، كما أنها أصبحت سببا في الكثير من التناقضات الداخلية و الصراعات. في كنف هذه الدولة تحول الشعب إلى مفهوم زئبقي منفلت من كل تحديد، ويختزل الانتماء إليه في أسس قانونية تمكن الفرد من هذه الجنسية أو تلك دون اعتبار للعرق أو الدين أو اللغة...، إضافة إلى نزوع العالم المعاصر نحو محو الحدود الجغرافي، و ترسيخ فكرة المواطنة الكونية التي تعبر تعبيرا صريحا عن إرادة تجاوز نموذج الدولة الوطنية.



 وائل حلاق، الدولة المستحيلة الإسلام و السياسة و مأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث و الدراسة السياسية، ط1 ،2014.ص 61.[1]
 Martin Van Creveld , The Rise And Declin Of State, Cambridge University Press, firste published 1999,p 213 :[2]
 وائل حلاق، المرجع السابق، ص 71.[3]
 وائل حلاق، نفس المرجع، ص 92.[4]
 Martin Van Creveld , The Rise And Declin Of State, Cambridge University Press, firste published 1999,p 190.[5]
 مايكل هاردت و انطونيو نغري، الإمبراطورية، إمبراطورية العولمة الجديدة، تعريب فاضل جتكر، مراجعة رضوان السيد، مكتبة العبيكان،ط 1، 2002،ص 154.[6]
 نفس المرجع، ص 163.[7]
 مايكل هاردت و انطونيو نغري، نفس المرجع، ص 271.[8]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق