الفضاء العمومي في السياسية الشرعية
’’ الصراع ضد الدين هو بشكل غير مباشر، صراع ضد
هذا العالم حيث الدين عبق الوجود...
الدين هو زفرة
الكائن المفعم بؤسا
و هو روح عالَمٍ
بدون قلب، و كذلك روح عصر بلا روح.
كارل ماركس
ما
انفك الاشتباك بين السياسة و الدين أن ينفض، حتى نشبت حرب مستعرة، بين الأمم و
الشعوب والحضارات و الثقافات، ظل
الدين حاضرا فيها وإن اتخذت الحرب طبيعة سياسية و إيديولوجية، وليست تعنينا في الحقيقة
قضية كما هذا الاشتباك؛ فقد عاد الالتفات
إلى الدين بعد مجموع الأحداث التي برزت ضمنها سلطته وفق آليات ديموقراطية. إن صعود
الأحزاب الإسلامية في المغرب، ومصر، وتركيا، عبر انتخابات عامة دليل على
ارتباط الجماهير وجدانيا بالدين، و على استمرار هذا الأخير في التأثير على المجال
السياسي في البلاد الإسلامية عامة، لذلك نستدعي مفهوم الفضاء العام لفهم هذا
الترابط الثيو- سياسي، و هذه الاستمرارية التي تعلن عن نفسها بقوة، في السلوك
السياسي للمجتمع المتدين و المتمدن. فما هو الفضاء العام؟ و هل يمكن الحديث عن
فضاء عام في النظرية السياسية الإسلامية، خاصة في شقها الشرعي؟
تعريف الفضاء العمومي
ظهر
مفهوم الفضاء العام أو العمومي، حسب الفيلسوف الألماني يورغن هبرماس j .
Habermas نهاية القرن الثامن عشر، لكنه تشكل قُبيل ذلك في
المقاهي البريطانية و الصالونات الفرنسية، بل يصعد أصل المفهوم إلى الكلمة Republic
التي تنطوي على معنى المشترك و العام، وهو مشترك
سياسي ضرورة، بما أنه ضمن مدينة دولة تتحقق فيها المواطنة. غير أن هذه الأخيرة محدودة،
إذ اقتصرت على الرجال الأحرار، مُقصية بالتالي الأغلبية الساحقة من المجتمع، لذلك
لم تكن الديموقراطية النظام السياسي المفضل عند الكثير من الفلاسفة و المفكرين،
إلا أن فكرة الخضوع للقانون و لسلطة التعاقد ظلت سارية المفعول في الفكر و
الاجتماع الغربيين، متخذة مسارات حديثة اتسعت معها دائرة الفئة التي لها حق
المشاركة السياسية. من البدهي أن تكون البرجوازية حسب هابرماس مُطورة للفضاء
العمومي، و من الطبيعي أن ينشأ و يترعرع المفهوم ضمن المجتمع المدني، ويشتد عوده
في كنف المنظور الرأسمالي الليبرالي، صار المفهوم كناية عن المجال السياسي الذي تُمارس
فيه السلطة وفق قواعد تعاقدية و محددات قانونية، تنأى بنفسها عن أي أصل عدا الأصل
الوضعي، معلنة بذلك ميلاد الأنسنة المقدسة، التي أنهت السرديات التقليدية و الآفاق
الأخلاقية القديمة؛ الأنسنة التي تجسدت في القطيعة مع الموروث الإقطاعي المسيحي، و
الانتقال إلى الدولة الحديثة حيث السيادة للشعب ، و هو الانتقال الذي أخرج إلى
واضحة النهار النقائص التي تعتور السياسة و الاجتماع، فصارت السلطة، و الحقيقة، و الثروة موضوع نقاش عمومي، و انبجست
سلطة فوق السلط مثلها الرأي العام، الذي لا يمكن اعتباره شيئا آخر سوى الروح
الموضوعي لمفهوم الفضاء العمومي المجرد.
الفضاء العمومي و الجمهور
قد
يكون من باب التدقيق الوقوف على مفهوم مساوق لمفهومنا المركزي، واقصد مفهوم
الجمهور الذي يفرض نفسه بالقوة حين نتناول الفضاء العمومي. لكن مفهوم الجمهور ليس
واحدا و لا مطلقا، إذ يبين تتبعه تاريخيا مجموع التحولات الدلالية التي طرأت عليه،
منذ اليونان إلى حدود الأزمنة الحديثة، مرورا بعصر النهضة؛ نجد هذا الترابط بين
الجمهور والفضاء العمومي فيما أورده هابرماس في تعريفه حين قال: " يمكن أن يُفهم الفضاء العمومي
البرجوازي، أولا وقبل كل شيء، باعتباره
مجالا لتجمّع عدد من الأفراد، ليشكلوا جمهورا يطالب لاحقا بإشراكه في هذا المجال
المنظم من طرف الدولة. لكنه يطالب به مباشرة ضد السلطة العمومية ذاتها، مما يُمكّنه
من مناقشتها حول القواعد العامة التي تتحكم في العلاقات الخاصة أساسا. لكنها
عمومية ترتبط بفضاء تبادل السلع والعمل الاجتماعي."[2]. يتحدد الجمهور إذن كمجموع المواطنين الذين لا
يمكن للفضاء العمومي أن يكون بدونهم، لقد ساهم انتشار القراءة بين الاوروبيين في
تشكل هذا المجال السياسي، أو بالأحرى في تسريع وتيرة تنامي الوعي الجمعي الذي وضع
أوربا على أعتاب التفوق الحضاري المدعوم بالنضج السياسي، و التقدم العلمي، والازدهار الاقتصادي، والقوة العسكرية. فبأي
معنى يمكن الحديث عن فضاء عمومي في النظام الإسلامي؟ ذاك النظام الذي صيغ مع أمثال
الماوردي، وتقي الدين بن تيمية، وغيرهما.
ليست
بدعة محاولة التبييئ التي شهدها فكرنا العربي الإسلامي؛ فمنذ الإصلاحيين الأُول
ظهرت القدرة على إيجاد مقابلات للمفاهيم الغربية في الفكر الإسلامي، و ما
الديموقراطية إلا الإسم الغربي لمبدأ الشورى الإسلامي، على هذا المنوال نسج الكثير
من أعلام النهضة العربية؛ " هكذا ألفينا النهضويين الإصلاحيين يقيمون علاقة
وصل - أحيانا- الانطباق بين الشورى و الديموقراطية، بين الإجماع - كآلية فقهية - و
الرأي العام، بين المصالح - في فقه المقاصد الشرعية – ( كما سماها الطهطاوي)، أو المصلحة العامة و المنافع العمومية
، بين البيعة والعقد الاجتماعي، بين أهل الحل والعقد و نواب الأمة في البرلمان، بين الحسبة والرقابة التشريعية... ألخ."[3]
، مادام التفكير خارج الديني أو بتجاهله أو مجاوزته في العالم الإسلامي طرحا طوباويا،
بما أنه لا يستمد موقفه من واقعه الفعلي، بل من واقع موازٍ و متغلب ينحَل واقعية غلبته من قوته
المادية و ما نجم عنها من أشكال القوة الأخرى. ألن ندور في حلقة
مفرغة و نحن نحاول تبيئ المفاهيم؟ ألن يكون هذا التبيئ مجرد اجتثات للمفاهيم من سياقتها
وإجهازا على معاني مبنية لصالح أخرى معطاة؟
وُجدت
الدولة الحديثة في العالم العربي الإسلامي، في ظروف تاريخية و سياسية، تختلف عن
تلك التي تشكلت بفضلها في أوروبا؛ فإذا كانت هذه الدولة وليدة اتفاقية ويستفاليا Westphalie 1648
بالنسبة لأوروبا، فإنها جاءت نتيجة لاتفاقية ساكيس – بيكو Sykes – Picot 1916، التي
خرجت من رحمها الدولة الحديثة في العالم العربي الإسلامي، من هنا تكون هذه الدولة
تنيجة لعوامل ذاتية إرادية داخلية في الأولى، و خارجية إكراهية في الثانية، كما أن
هذه الدولة لا تتحدد إلا كدولة وطنية، أو قومية، أو قطرية؛ وهي في الحقيقة مسميات
مختلفة لمسمى واحد. القطرية، التي لا توجد في التراث السياسي الإسلامي؛ إذ قامت
الدولة منذ بدايتها على فكرة الكونية، التي تتجاوز كل عرق ولغة و لون و قُطر. السياق الذي تبلور ضمنه الفضاء العمومي إذن
مختلف جذريا عن السياق السياسي الإسلامي، لكننا نجد بسهولة و يسر مجموعة من
المفاهيم و التصورات المتشابهة، حين نفكر في دلالات الفضاء العمومي بوصفه مجالا
مشتركا لممارسة السياسة و تدبير السلطة. أول تلك المفاهيم ، مفهوم الجمهور الذي
سلفت الإشارة إليه في سياقه الغربي، و رغم التشابه الظاهري ضمن السياقين
المتباينين، فإن الاختلافات تطال الدلالات التفصيلية، وهي مع ذلك تشترك في معنى
الأغلبية مقابل الأقلية، وهو المعنى المستمد من التعريف الفقهي، حيث تشير عبارة
جمهور الفقهاء إلى الأغلبية التي يتحقق بفضلها الإجماع، هذا الأخير هو المحدد
الأساسي للعام والمشترك، أي ذاك الذي يخضع له الأفراد و يستبطنونه ليصبح جزء من
ذواتهم و كينونتهم؛ فلا يتصرفون إلا ضمن الحلال والحرام الذي ينهل شرعيته من فعل
الإجماع ذاته. ارتباط مفهوم الجمهور في الثقافة الإسلامية بأشخاص أربعة؛ أصحاب
المذاهب إذا اتفقوا في مسألة شرعية واختلف واحد منهم أطلق عليهم مصطلح: ( جمهور).
" و كذلك كان قول الجمهور أحد الاعتبارات التي اعتمد عليها الكثير من الفقهاء المجتهدين و مرجحي
المذاهب الفقهية في اعتماد قول أو ترجيح رواية، و من هذا القبيل قول الشافعي في
مسألة توريث الجد مع الإخوة..."[4]
. يدل المفهوم كذلك في السياق الكلامي على اتفاق أكبر عدد من أفراد فرقة ما على
قضية ما؛ " و أما جمهور المعتزلة فحكموا بأنه إنما يحسن من الله تعالى إما
بطريق العتاب بجريمة سابقة، أو بالتزام التعويض..."[5]
؛ ضمن هذا السياق يتطابق لفظ الجمهور مع لفظ الأصحاب، وهو تطابق جلي عند الشهرستاني
في إطار تعريفه للفرق الكلامية، يقول مثلا: " الواصلية أصحاب واصل بن عطاء
الغزال..."[6] ، هنا
يبدو الجمهور بمعنى أتباع، أو مريدي طائفة أو فرقة، و في معرض حديثة عن الحارثية
يقول الشهرستاني : " و قد خالفوا الأباضية في القدر...وقد أكفرهم سائر
الأباضية في قولهم في باب القدر بمثل قول المعتزلة، لأن جمهورهم على قول أهل
السنة..."[7] . لفظ
الجمهور إذن في الفكر الإسلامي، هو التعبير الوحيد عن الإجماع الذي ينعكس
في التشريع و التنظيم الأخلاقي والسياسي،
محددا بذلك السلوك الفردي والجماعي،
كما يضم في الآن ذاته التنظيم السياسي، حيث يتطور الإجماع إلى مفهوم آخر هو البيعة.
الفضاء
العمومي الإمكان و الإستحالة
لعلنا
نجد نموذجا لتدبير الشأن العام في الصدر الأول من الإسلام في سقيفة بني ساعدة، حيث
انقسم الرأي وتحقق الاختيار في الآن ذاته، و مهما تكن تفاصيل هذه النازلة
التاريخية، فإن ما يهمنا منها هو اهتمام الجيل الأول من المسلمين بالشأن العام، و
المسارعة إلى الحفاظ على بناء السلطة وفق النص الديني، بل لم يهتم هذا الجيل
بطبيعة النظام السياسي؛ فكما ورد عن علي بن أبي طالب حين عرض لشعار الخوارج ( لا
حكم إلا لله)، حيث أكد أن قيام الدولة غاية في ذاته، وليست لها
غاية خارجية، باستثناء تثبيت أركان دعوة التوحيد؛ "فسموا المُحَكّمَة بذلك، و لما سمع
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هذه الكلمة، قال: كلمة عدل يراد بها جور، إنما
يقولون لا إمارة، و لا بد من إمارة برة أو فاجرة"[8]
. لم تكن للدولة إذن في بدايتها غاية خارج ذاتها، و كذلك ظلت طيلة تاريخ الحكم
الإسلامي، تسعى إلى الحفاظ على ذاتها بما تحمل من مبادئ ليس لتدبير الشأن العام
فقط، بل لتدبير الشأن الوجودي للإنسان؛ هذا ما يوضحه مفهوم البيعة الذي يمكن الأخذ
به مقياسا، و محددا للفضاء العمومي كما تشكل في تاريخ الدولة الإسلامية؛ فهي ليست
مجرد اختيار يعبر عن حالة الرضا التي تحققت بين الأطراف، بل هي تسليم و تعهد
للحاكم، مقابل تعهدات هذا الأخير المعلومة ضرورة وشرعا. البيعة لغة هي: "
الصفقة على أيجاب البيع و المبايعة و الطاعة... وقد تبايعوا على الأمر: كقولك
أصفقوا عليه، وبايعه مبايعة: عاهده."[9]
. إن الأصل اللغوي للمفهوم يحيل إلى البيع، إي تبادل عيني للمال مقابل السلع، هذا
البعد التبادلي المادي هو عينه المبطن في مفهوم البيعة، إذ يحصل تبادل الثقة بين
أطراف، دون غش أو غبن، لأنه قائم على مجموع قواعد، هي قواعد السوق في البيع، ومبادئ الولاية في البيعة، هي ذاتها مبادئ العدالة. أما في اصطلاح الفقهاء، فالبيعة
هي المعاهدة والمعاقدة و التولية، و بذل العهد على الطاعة و النصرة. لا يكتمل هذا المفهوم إلا
بمساوقته لمفهوم الأمانة، أي المسؤولية التي يتحملها الحاكم، و تتخذ مسمى الولاية؛ و ما الولاية إلا
رعاية الراعي للرعية بما يصلح لكليهما، وهذا محدد شرعا و معلوم عقلا، و ضروري تاريخيا، "
و هذا ظاهر الاعتبار، فإن الخلق عباد الله، و الولاة نواب الله على عباده، و هم
وكلاء العباد على أنفسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية و الوكالة."[10]
بهذا المعني يبرز مجال لممارسة السلطة بمعناه الأنطلوجي، فمبنى السياسة في الإسلام
هو الوضع الوجودي، الذي يسطره العقد المزدوج في البيعة؛ فهو تعهد بشري و إلهي في
الآن ذاته؛ أولا تعهد الحاكم برعاية شؤون الرعية، و تعهد هذه الأخيرة بالطاعة، و
ثانيا تعهد الطرفين باتباع الشرع الإلهي، الذي يشكل الرابط الوحيدة بينهما؛ فلا
تجب طاعة أولياء الأمور إلا في المعروف، مثلما يجب نهيهم عن المنكر. ترتبط السياسة
إذن في سياقها الشرعي بالوجود أكثر من ارتباطها بالشأن العام، وترتبط بالمعتقد أكثر من اتصالها
بالرأي العام، و تكون فيها السلطة عَرْضا و ليست طلبا، أي أن الناس يولون الأصلح
لهم في دينهم و دنياهم ويقترحونه، و لا يطلبها بنفسه أو يسعى إليها بوسائل مختلفة،
بما أن الأمانة حمل ثقيل يتورع العاقل من تحملها على كاهله؛ فطلب الولاية سبب
منعها في السياسة الشرعية، كما أكدت ذلك مجموعة من الأحاديث النبوية.
لا
تعني الدولة الدينية اضطهاد الحريات الدينية ضرورة، بل قد تستوعب هذه الدولة
ديانات ومعتقدات مختلفة رغم
مرجعياتها الدينية، إذ ظلت غاية هذه الدولة تحقيق المشترك الكوني، دائما في إطار
ديني وشرعي، أي مجموع الأحكام الشرعية المنظمة لوجود الأقليات الدينية داخل
الدولة، ويتمظهر ذلك في
نظام الجزية، رغم أنه لا يشمل كل الطوائف و المعتقدات. هنا نجد صعوبة في التبييء
إذ لا تشمل الحياة العامة في الدولة الدينية سوى أصحاب الديانات الأخرى المختلفة
المعترف بها؛ فالمختلف أصناف في الفقه الأسلامي؛ يعتبر كل من اليهود، والنصارى، والصابئة، والمجوس، والذين أشركوا،
و الدهرية، من غير المسلمين. لكن اصطلاح أهل الذمة لا يشمل كل هؤلاء؛ في ذلك اختلف
الفقهاء، فبينما ذهب فقهاء الحنفية إلى اعتبار كل صاحب كتاب سماوي، من أهل الذمة،
حصر فقهاء الشافعية و الحنابلة أهل الكتاب في اليهود و النصارى فقط. " غير
المسلمين من أهل الكتاب: وللفقهاء في تعريفهم رأيان: الأول رأي فقهاء الحنفية، وعندهم الكتابي كل من اعتقد دينا سماويا، و له كتاب منزل كالتوراة و الإنجيل و صحف
إبراهيم و شيت، وزُبر داوود... الثاني: رأي فقهاء الشافعية والحنابلة: أهل الكتاب اليهود و النصارى دون
غيرهم..."[11] .
تستوعب الدولة في الإسلام غير المسلمين، إلا أنها لا تسمح لهؤلاء بالمشاركة في
تدبير الشأن السياسي. لكنها تخصص لهم في المقابل جملة من التشريعات، تكفل حقوقهم و
حرياتهم، و تيسر معاشهم داخل مجتمع لا يدينون بمعتقده، فهل يعني ذلك استحالة وجود
فضاء عمومي في الدول الإسلامية؟
إن فضاء
تداول السلطة و ممارستها في الدولة الإسلامية الأولى واقع تاريخي لا يمكن إنكاره،
لكنه لم يتخذ طابعا سياسيا، بقدر ما تحدد كمجال أنطولوجي ، يرتبط بالوجود و
بالكيان الفردي والجماعي، يسعى إلى تحقيق النجاة الأرضية و السماوية في الآن ذاته؛
إنه فضاء لا يأبه بالحالات المفردة، قدر اهتمامه بالبعد الوجودي، لأن غايته ليست
سوى التوحيد و الإعمار، بما أن الأرضية النظرية التي ينبني عليها فضاء تداول
وممارسة السلطة في الإسلام، هي بالتحديد فكرة الأستخلاف في الأرض، من أجل النجاة
في السماء. نلفي في تاريخ الدولة الإسلامية موقفين متباينين من غير المسلمين، خاصة
اللادينيين و الملاحدة؛ الأول الاضطهاد و القتل، و الثاني التجاهل و اللامبالاة،
" فاندفع الزنادقة يعلنون أرآءهم الهدامة بكل شجاعة وصراحة، على الرغم مما
كان يتوعدهم به السلطان -أعني الخليفة- من
عذاب، و ما لقيه أكثرهم من اضطهاد. و فضل أغلبهم الاستشهاد فقدموا أرواحهم فداء
لتلك الحرية الفكرية... كما فعل ابن المقفع وصالح بن عبد القدوس و مئات غيرهم...
و يلوح أخيرا أن الدولة آثرت أخيرا حرمان هؤلاء من فخر الشهادة فتركتهم أخيرا في
النصف الثاني من القرن الثالث، و طوال القرن الرابع يفعلون ما يشاؤون."[12]
، يظل هذا
الحكم نسبيا مُعبرا عن مرحلة بعينها، إذ
تتغير علاقة الدولة الدينية بالطوائف الدينية من فترة إلى أخرى ، فمثلما حدث إبان سقوط
الحكم الأموي و صعود الحكم العباسي، حين جاهر الشعراء و الأدباء بإلحادهم و و
مجونهم فسخروا من الدين، و من القيم الاجتماعية. لكن تبقى لحظات استثنائية في
تاريخ الإسلامي، إذ لم تتساهل الدولة مع المظاهر اللادينية، بل حتى مع الاختلاف في
فهم و تفسير النصوص، فقد شكل الدين في هذه الدولة المعيار الذي تتحدد وفقه كل
مظاهر الحياة، من الفكري والمعرفي إلى الاجتماعي و السياسي والاقتصادي، لذلك كان
من بديهيات الدولة الدينية حضور السلطة في المجال العام، إذ تخضع كل الأنشطة داخل
المجتمع إلى رقابة الدولة.
يتسم الفضاء العمومي في الدولة الدينية بخاصية التطابق؛ تتطابق سلوكات
الأفراد، و مظهرهم، وتفكيرهم لمبادئ الشريعة،و بالتالي
ينسحب الاختلاف و ينزوي إلى المجالات الخاصة؛ يتشابه الأفراد على مستوى المظهر، إذ
يطابق الكل نمطا سلوكيا و هيئة خارجية حسب الجنس، و يذعن الجميع لسلطة الخطاب، حيث
تتحول اللغة إلى سلطة ما ورائية تستبطن المقدس أول ما تستبطن. لا يقتصر التطابق
على المظهر والخطاب فقط، بل يطال العقل و طريقة التفكير التي تصبح محرمة إذا كانت
خارج المألوف و الموروث، لعل ذلك ما دفع الكثير من المفكرين إلى تحليل و تأمل
العقل العربي الإسلامي. تفضي خاصية التطابق إلى الإقرار بمجال سياسي مختلف عن الفضاء
العمومي، إذ تنتفي إمكانية المساواة بين الجنسين؛ بما أن المرأة في السياسة
الشرعية غير معنية بالسلطة. تستوعب الدولة الدينية التنوع المُسيّج إذن، أي التنوع
في حدود شريعتها، مادام لكل دولة شريعتها؛ ليس بمعنى الاختلاف العام بين الديانات
و المعتقدات، بل داخل الدين الواحد كما هو حال الدولة الدينية في الإسلام عبر
تاريخها، إذ تقلبت بين التسنن، و التشيع؛ فُرضت العقائد على الناس بقوة السلطة
التي تمتلكها الدولة، كما تم ترسيم الفهم الذي تختاره الدولة للنصوص الدينية. أليس
الفرق بين الصالونات و المقاهي الأوروبية التي كانت تناقش أمورا سياسية و دينية، و
مهتجسة بتغيير الوضع، و بين مجالس الخلفاء و الملوك المفعمة بالإمتاع و المؤانسة،
هو ذاته الفرق بين العقل العربي الإسلامي، والعقل الغربي العلماني؟
المصادر
و المراجع المعتمدة:
·
عبد الرحمن بدوي،
من تاريخ الإلحاد في تاريخ الإسلام، سينا للنشر، الطبعة الثانية 1993.
·
عبد الإله بلقزيز،
نقد التراث، العرب و الحداثة 3، مركز الدراسات
الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 2014.
·
أحمد بن عبد الحليم
بن عبد السلام ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية، تحقيق: علي محمد
العمران، دار علم الفوائد.
·
محمد الحسيني الزبيدي، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، الجزء
الثاني، دار الكتب العلمية، 2016.
·
محمد هاني ساعي،
موسوعة مسائل الجمهور في الفقه الإسلامي، ترجمة: عبد القادر محمود البكار، دار السلام
للطباعة و النشر، 2007.
·
أبو الفتح الشهرستاني،
الملل و النحل، تحقيق: أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية، 1992.
·
صابر طعيمة، الإسلام
و الآخر، دراسة عن وضعية غير المسلمين في مجتمعات المسلمين، مكتبة الرشد، 2007.
·
أبو الفصل جمال
الدين محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثامن، دار صادر، بيروت.
·
Jürgen Habermas, The Structural Transformation of the Public Sphere, An
Inquiry into a Category of Bourgeois Society translated by Thomas Burger,
Paperback edition, 1991.
Karl Marx, Contribution à La critique de La
Philosophie du Droit de Hegel, traduit par: Jules Molitor, Edition
Allia, 1998.
[1] Karl Marx, Contribution à La critique de La Philosophie du Droit de
Hegel, traduit par : Jules Molitor, Edition Allia, 1998, p 1.
[2] Jürgen Habermas, The Structural
Transformation of the Public Sphere, An Inquiry into a Category of Bourgeois
Society translated by Thomas Burger, Paperback edition, 1991, p 27. .
[3] عبد الإله بلقزيز، نقد التراث، العرب و الحداثة
3، مركز الدراسات الوحدة العربية، الطبعة
الأولى، 2014، ص 26.
[4] محمد هاني ساعي، موسوعة مسائل الجمهور في الفقه
الإسلامي، ترجمة: عبد القادر محمود البكار، دار السلام للطباعة و النشر، 2007، ص
12.
[5] محمد
الحسيني الزبيدي، إتحاف السادة المتقين
بشرح إحياء علوم الدين، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، 2016، ص 292.
[10] أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية،
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية، تحقيق: علي محمد العمران، دار علم
الفوائد، ص 15.
[11] صابر
طعيمة، الإسلام و الآخر، دراسة عن وضعية غير المسلمين في مجتمعات المسلمين، مكتبة
الرشد، 2007، ص 487- 488.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق