مفهوم الشعب الأصول والتحولات
يعتبر مفهوم الشعب من المفاهيم المحورية في الفكر
السياسي منذ اليونان، ذلك أنه يرتبط بمفاهيم أخرى ارتباطات جوهرية لا يستقيم
فهم النظريات المختلفة دون إدراك تمفصلاتها ، فليس الاهتمام بالمفاهيم سوى حاجة
معرفية تشكل المدخل الأساسي لكل فكر فكر، ومن ثمة يكون الوقوف عليها شرطا أساسا.
لن يكون هذا المطلب متاحا دون عودة إلى الأصول وتتبع المسارات التي نحت من خلالها
المفهوم ، لأن الإحاطة بالمفهوم في الواقع إحاطة بالمقولات العقلية الموجهة
للتصورات والمواقف. فليست الدراسة الجينيالوجية و الأركيولوجية للمفهوم ضربا من
الترف الفكري، بقدر ما هي ضرورة إبستمولوجية ملحة تساهم في تشكيل صورة كلية لهذا المفهوم
أو ذاك، كما تفضي ضرورة إلى إزالة الغموض الذي قد يكتنفه، بل من شأنه أن يكشف لنا عن مجموع التحولات التي طرأت
ليس فقط على المفهوم ، بل على الفكر الإنساني عامة . إن تتبع المفاهيم سيؤدي لا
محالة الى تأصيله أولا وضبطه ثانيا بما يسهل على الباحث والقارئ فهم النظريات
والمواقف على اختلافها وتنوعاتها التصورية والمذهبية. سنحاول في هذه الفصل تتبع مفهوم
الشعب في اختلافه الدلالي، إضافة إلى تحولاته التصورية كما تبلورت لدى الفلاسفة
منذ اليونان إلى عصرنا الراهن. فما هي الدلالات التي يُحمل عليها لفظ
"شعب"؟ وكيف تطور بوصفه مفهوما داخل الفكر السياسي؟ وهل نجد له حضورا في
الفكر السياسي الإسلامي؟
إيثيمولوجيا المفهوم
في لسان العرب
لابن منظور، الشعب هو الجمع والتفريق، والإصلاح والفساد، وفي حديث ابن عمر: "
شعب صغير من شعب كبير" ، أي إصلاح قليل من فساد كثير. وأنشد الشاعر :
إذا رأيت المرء يشعب أمره شعب العصا ويلج في العصيان
وقيل معناه أن يفرق أمره. قال الأصمعي شعب الرجل أمره
فرقه وشتته، والشعب على معنيين: يكون إصلاحا ويكون تفريقا، وشعب الصدع في الإناء
هو إصلاحه. وفي الحديث: ما هذه الفتيا التي شعبت بها الناس، أي فرقتهم، والمخاطب
هو ابن عباس لتحليله المتعة. والمشعاب المثقاب ، وتشعبت أغصان الشجرة تفرقت
وانتشرت، وشعب بمعنى صرف ومنع، والشعب ما اُنفرج بين جبلين ، والشعبة صدع في الجبل
تأوي إليه الطير . والشعبة الفرقة والطائفة ، كقولهم أشعب لي شعبة من المال. وفي الحديث:
الحياء شعبة من الإيمان، أي قطعة منه. و في حديث اُبن مسعود: الشباب شعبة من الجنون،
لأن الجنون يزيل العقل وكذلك الشباب لما فيه من ميل إلى الشهوات. وقوله تعالى:"
إلى ظل ذي ثلاث شعب"، أي ثلاث فرق. والشعب القبيلة العظيمة، وقيل الحي العظيم
يتشعب من القبيلة، وقيل هو القبيلة نفسها، والشعب أبو القبائل يجمعها ويضمها، وفي
التنزيل:" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"، قال اُبن عباس في ذلك:
الشعوب الجماع ، والقبائل البطون، والشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم. وكل جيل
شعب، وقيل: الشعب القبيلة أو هو أكبر منها ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم
الفخذ ، وشعوب أو الشعوب هي المنية لأنها تفرق ، و شاعبت نفس فلان الحياة أي فارقتها، وأشعب
الرجل إذا مات، والمشعب الطريق. وفي الحديث إذا قعد الرجل من المرأة مابين شعبها
الأربع وجب عليه الغسل ، شعبها الأربع يداها ورجلاها ، وقيل رجلاها وشفرا فرجها،
فكنى بذلك عن تغييبه الحشفة في فرجها. ويقال: شعب اللجام الفرس إذا كفه، وشعبان اسم
شهر سمي كذلك لتشعبهم فيه، أي تفرقهم في طلب المياه وقيل في الغارات.
يضيف الفيروز
أبادي في القاموس المحيط ،الشعب بالكسر الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن الأرض،
أو ما اُنفرج بين الجبلين، وسمة للإبل وهو مشعوب، وبعد مابين المنكبين والقرنيين ،
والشعبة مابين القرنين والغصنين والطائفة من الشيء ، وطرف الغصن وما صغر من التلعة
وما عظم من السواقي والأودية. وشعب البعير اهتضم الشجر من أعلاه. والشعوبي محتقر
أمر العرب . وشعب أي طمع في قولهم: لا تشعب فتتعب. وفي المعجم الوسيط توضيح أصل
هذا المعنى، فأشعب مولى عثمان اُبن عفان ضرب به المثل في الطمع، حتى قيل أطمع من
أشعب. وفي التعريفات للجرجاني في مادة الشين مع العين ترد لفطة الشعيبية وهم أصحاب
شعيب اُبن أحمد وهم كالميمونية إلا في القدر. ويضاف إلى ما سلف من معاني، معنى
الشعب كجماعة كبيرة ترجع إلى أب واحد وهو أوسع من القبيلة.والجماعة من الناس تخضع
لنظام اُجتماعي واحد والجماعة تتكلم لسانا واحدا. ونجد في المعاجم الفلسفية كما
عند جميل صليبا دلالات اصطلاحية دخيلة على اللغة العربية، والتي تحمل في طياتها
البعد السياسي، حيث أنها ترجمات لدلالات المفهوم كما وردت في الفكر الغربي.
يصعد اللفظ
الفرنسي peuple والإنجليزي people إلى الأصل اللاتيني populus المشتق من الجذرpla ويحيل إلى معنى الجمهور، ويعني
اللفظ في الأولى عددا كبيرا من الناس يعيشون اُعتياديا على نفس الأرض ويتقاسمون
نفس العادات ، وأيضا الأكثرية
multitude داخل دولة مكونة من عدة
أقاليم وتحكمهم قوانين وعادات خاصة ، كذلك يشير إلى ساكنة بلد تشكل المجموع أو
الكل المتماسك الخاضع لنفس الحكومة ، وقد يرتبط بمجموع الناس اللذين لا يقطنون نفس
البلد، لكن لهم نفس الأصل والدين ، أو ساكنة نفس المدينة أو الضاحية Bourg أو القرية. يفيد اللفظ
علاوة على ذلك ، الفئة الأقل تثقيفا وغنا من سكان نفس المدينة أو البلد. من
مرادفات اللفظ الفرنسي nation ,peuplad, plebe, populace,
vulgaire, commun ، وكلها تحيل على العمومية في مقابل الخصوصية والتميز على نحو: aristocratie,élite, noblesse . أما
في اللسان الإنجليزي يشير اللفظ إلى مجموع الناس اللذين يوجه لهم الخطاب، وإلى
الرجال و النساء والأطفال ، أو الرجال والنساء المنتمين إلى نوع خاص من العمل ، إضافة
إلى أكبر عدد من الناس العاديين الذين لا يمتلكون موقع سلطة داخل المجتمع. أخيرا
يحمل اللفظ معنى الرجال والنساء والأطفال اللذين يعيشون في بلد مخصوص، أو الذين
يتقاسمون نفس الثقافة أو اللغة.
تكشف الدلالات العربية عن معاني ترتبط
بالعناصر طبيعية تحيل إلى ما هو تضاريسي، أو إلى خصائص اجتماعية في تعالق اللفظ مع
مصطلح القبيلة والبطن والفخذ، ونفسية كما في طبع الطمع، وجنسية كناية على الجماع
وما يستوجب من طهارة. الخيط الناظم بين هذه الدلالات إذن، هو معنى التفرق والتشتت
والشقاق...، فلا تحيل إلى المعاني السياسية والقانونية كما تمت صياغتها في الألسن الأجنبية، في هذه الأخيرة نقف على معنى الجماعة
المرتبطة بفضل خاصية مشتركة، قد تكون
دينية كما هي في عبارة "شعب الله المختار" أو في جماعة المؤمنين أو المخلصين التي راجت في
الفكر القروسطي ، أو لغوية ، أو عرقية ، أو ثقافية توحد الأفراد بواسطة عادات
وأعراف معينة، أو قانونية سياسية ترتبط بالخضوع لنفس المؤسسات والقوانين ، أو
جغرافية مقترنة بالحدود، أو تاريخية تحيل إلى المصير المشترك لجماعة ما . يتعلق
الأمر إذن بمجموع الأفراد الذين يجهلون بعضهم البعض ، لكنهم مرتبطون بوشائج متباينة
الطبيعة ؛ فالمجتمع هنا كيان لامادي يجسد الوحدة بين هؤلاء رغم عدم تعارفهم . إلا
أن الدلالات الأجنبية تشير إلى المعنى السياسي حين توظف مفهوم المواطن في تعريفها
للشعب ، وفي هذا التوظيف تستحضر التفاوتات الطبقية داخل المجتمع لتجعل من الشعب
مرادفا للفئة المحكومة في مقابل الفئة الحاكمة حينا، ولفئة العوام في مقابل النخبة
حينا آخر.
مفهوم الشعب عند اليونان
ميز اليونان بين مفهوم
الناموس nomos الذي يشر إلى مجموع
القواعد القانونية والسياسية للمدينة، والفيزياءphysis الذي يعني القانون المتحكم في الطبيعة ، فالأول
هو مجموع القوانين التي وضعها الإنسان ، لقد تناول أفلاطون هذا الفرق في محاورة
بروتاغوراس حيث يقول : " يميل الشبيه إلى شبيهه بالطبيعة. لكن القانون الذي
يستبد الإنسان يتعارض بإكراهاته مع الطبيعة". فبالنسبة لأفلاطون عوض أن يكون
الناموس تعبيرا عن الإرادة الشعبية هو تعبير عن إرادة الحكومة، ومن ثمة يتعارض
القانون الإنساني باُعتباره رعاية لمصلحة فئة مع القانون الطبيعي الذي يدفع كل فرد
إلى الدفاع عن مصلحته. غير أن اليونان جعلوا من هذا القانون الطبيعي أساسا للقانون
السياسي، تلك خاصية طبعت السياسة الأثينية ، لذلك كان تناول اليونان للظاهرة
السياسة تناولا انطولوجيا باحثين عن أسس القانون المدني في القانون الطبيعي. لقد
وضع الناموس بالموازاة مع الديموس demos الكيان الذي يغير وضعه شيئا فشيئا ، هذا اللفظ هو ما يشير عند
اليونان إلى الشعب ، وهو جماعة الرجال الأحرار ، الفاعلين في المجال السياسي، اللذين
يجتمعون في الأغوار ، وفي حالات نادرة يحيل اللفظ على الشيء العام chose publique ، الديموس ليس مجرد تجمع وتوحد الأفراد ، إنه
تجسيد للفرق بين الأكثرية المنظمة و ما نسميه شعبا ، لذلك نجد تقاربا بين اللفظ
الروماني واليوناني في المعنى ، هذا ما يتضح مع التعرف الأفلاطوني لمسمى الشعب؛
انه جماعة سياسية في كليتها تنتمي إلى المدينة ، لأن الشعب يدعي التحرر من القانون
السياسي ، لذلك فإن مهمة الفيلسوف هي التشريع باعتباره القادر على معرفة الحقيقة
والجمال والخير ، وإلا سيترك الشعب بين يدي الديماغوجيين اللذين يهيجون الأفراد
للقيام بالثورة التي ترسي نظام الطغيان ،في هذه الحالة يقول أفلاطون :" الغلو
موضعه- الشعب- والاستعباد مصيره" ، ومن ثمة لابد للفيلسوف أن يختص بمهمة
التشريع ، بذلك تكون السلطة السياسية مطابقة للعقل ، في مقابل سيادة العوام
والأكثرية ،هذا التمييز بين الحكيم والجمهور هو ما يميز التصور الأفلاطوني
للسياسة. في المقابل يعتبر أرسطو أن الهيمنة الشعبية أمر عادي مدافعا عن نمط حكم
تعود فيه السلطة للطبقة الوسطى ، حيث لا يرتبط عنده السؤال حول الحكم بالفئة التي تباشر هذا الفعل
،لكن بالبواعث التي تحرك الفئة الحاكمة ، إذ يميز بين الحكم بواسطة المصلحة ،
والحكم بواسطة الخير المشترك ؛ في الحالة الأولى نتحدث عن النظام الشعبي الذي
يسميه أرسطو ديمقراطية ، في حين يطلق عليه الجنرال والمنظر السياسي اليوناني
بوليبيوس مسمى حكم الدهماء ochlocratie ، أما في
الحالة الثانية فإننا نتحدث عن السيادة الشعبية . لا يتعلق الأمر إذن بنفس الشعب ،
هنا يبرز الفرق بين الديمقراطية كنظام شعبي حيث يكون الحكم للأغلبية التي تراعي
مصلحتها ، والجمهورية كسيادة شعبية تحكمها القوانين التي صادق عليها الشعب ساعية
إلى تحقيق الخير المشترك ؛ ليس ضروريا أن تكون الجمهورية ديمقراطية ، فقد تكون
ملكية أو أبوية . عند شيشرون يتحدد الشعب
بوصفه تجمعا للأكثرية وفق اتفاق قانوني والمصلحة العامة ، ولا يسمي كل تجمع
كيفما كان شعبا ، بذلك يميز بين حكومة هذا الأخير وحكومة أكبر عدد ، هنا يظهر تأثر
التنظيم السياسي الروماني بالتعريف اليوناني لدور المواطن . نجد عند شيشرون
التمييز الأرسطي بين الحكم انطلاقا من المصلحة ، والحكم انطلاقا من الخير المشترك
، إلا أن أصالته تعود إلى تفكيره في هذه الإشكاليات انطلاقا من مفهوم الحق . لكن
رغم علاقة اللفظ الروماني populus بالمصطلح اليوناني demos، فقد شهدت التصورات الرومانية تحولا حاسما، تجلت في الانتقال من
المفهوم الضيق للشعب والمقترن بالمدينة إلى مفهوم أكثر اتساعا ارتبط بالحملات
التوسعية الرومانية، ومن ثمة أصبح الحديث عن المجتمع عوض الجماعة. لقد اُنكشف
مفهوم الشعب في التعريف الروماني كمجموعة من الأفراد اللذين يتمتعون بحقوق سياسية،
بمعنى أن الفرد في جوهره مواطن، وأن الشعب ليس مجرد جمهور، لكنه مجتمع مدني يعتبر
أفراده فاعلين سياسيين وليسوا مجرد متفرجين على المشهد السياسي. لا مناص من
الإشارة إلى مصطلح العوام plèbe الذي يشير إلى تلك الفئة من الشعب المعارضة للنظام السياسي والتي
مهدت لظهور مفهوم الشعب في صيغته الرومانية كشريك في الحياة السياسية ؛ فنضالات
فئة العوام هي التي كانت وراء حضور الشعب فيما هو سياسي ، رغم أن هذه الفئة تمثل
الطبقات الدنيا من المجتمع فإنها حوت بعض الأفراد الأغنياء ، لتمثل بذلك أول حزب
معارض في الممارسة السياسية . إن ما يميز التصور الروماني لمفهوم الشعب عن التصور
اليوناني ، إقامة النظام السياسي على الرابطة القانونية ، وليس على الرابطة
الدموية كما كان الأمر عند اليونان ، لقد ظهر لدى الرومان مفهوم الأمة ، الذي جسد
أول مؤسسة صورية أو معنوية في التاريخ الإنساني .
مفهوم الشعب في الفكر
السياسي العربي
لا نجد فيما أخذ العرب من الفكر السياسي عن
اليونان ذكرا لمفهوم الشعب ، بل استخدموا لفظ "أهل" للدلالة على سكان
المدينة ، وذلك هو الحال في كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة " للفارابي
، وكذلك " مختصر الضروري في كتاب السياسة لأفلاطون" لمؤلفه ابن رشد ،
والأهل لغة هم العشيرة وذوي القربى ، وأيضا سكان البلد على نحو: أهل مكة أدرى
بشعابها ، وأهل الاختصاص أصحابه ، كأن نقول : أهل القرآن وأهل العلم ... ؛ في معرض
حديثه عن أنواع المدن يقول الفارابي في الكتاب الآنف الذكر:"...و مدينة
الكرامة هي التي قصد أهلها على أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين
مشهورين بين الأمم." ،[1]
ونقرأ لابن رشد:"... وهي سبيل الإكراه والعقاب بالضرب . وبين أن هذا الطريق
لا يستعمل مع أهل المدينة الفاضلة "[2].
في المقابل يحضر في الكتابات السياسية العربية مفهوم الرعية بدلا من الشعب ، يقول
ابن سينا في كتاب " السياسة " مثلا : " وحسن إتقان السياسة و إحكام
التدبير : الملوك الذين جعل الله تعالى ذكره بأيديهم ، وملكهم تدبير البلاد
واسترعاهم أمر البرية ، وفوض إليهم سياسة الرعية ."[3]
، وكذلك استخدم ابو حامد الغزالي لفظ الرعية للدلالة على المحكومين، يقول في كتابه
"التبر المسبوك في نصيحة الملوك":" اعلم أيها السلطان أن كل ما كان
في قلب الإنسان من معرفة واعتقاد فذلك أصل الإيمان...والأعمال التي هي فروع
الإيمان... قسمان: أحدها بينك وبين الله تعالى...والأخرى بينك وبين الخلق، وهي العدل
في الرعية والكف عن الظلم."[4] ونقرأ
في كتاب "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" لمؤلفه ابن تيمية
الآتي: "وبعد؛ فهذه رسالة تتضمن جوامع من السياسة الإلهية و الإيالة النبوية،
لا يستغني عنها الراعي والرعية اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور..."[5].بل
حتى الذين انتقدوا الأنظمة السياسية الحاكمة في عصرهم، لم يوظفوا المفهوم، وعلى
سبيل المثال لا الحصر كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد
الرحمن الكواكبي، الذي انبرى لحكم الأتراك، يستخدم ألفاظ الأمة والقوم والرعية،
يقول في معرض حديثه عن السياسة في الغرب:" لا يعهد في تاريخ الحكومات المدنية استمرار حكومة
مسؤولة مدة أكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف، وما شذ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة
في إنجلترا، والسبب يقظة الإنجليز الذين لا يسكرهم انتصار، ولا يخملهم انكسار، فلا
يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم، حتى إن الوزارة هي التي تنتخب للملك خدمه وحشمه فضلا
عن الزوجة والصهر، وملوك الإنجليز الذين فقدوا منذ قرون كل شيء ما عدا التاج، لو
تسنى الآن لأحدهم الاستبداد لغنمه حالا، ولكن هيهات أن يظفر بغرة من قومه يستلم
فيها زمام الجيش"[6]،
والملاحظ في هذا القول أن الكواكبي يستخدم لفظ قوم عوض شعب ولا نجد في فصول كتابه
استخداما لهذا المفهوم مطلقا، حتى أنه يميز بين القوم والأمة في قوله :" إن الحالة البدوية بعيدة بالجملة عن الوقوع
تحت نير الاستبداد وهو أن نشأة البدوي نشأة استقلالية بحيث كل فرد يمكنه أن يعتمد
في معيشته على نفسه فقط خلافا لقاعدة الإنسان المدني الطبع، تلك القاعدة التي
أصبحت سخرية عند علماء الاجتماع المتأخرين، القائلين بأن الإنسان من الحيوانات
التي تعيش أسرابا في كهوف ومسارح مخصوصة، وأما الآن فقد صار من الحيوان الذي متى
انتهت حضانته عليه أن يعيش مستقلا بذاته، غير متعلق بأقاربه وقومه كل الارتباط،
ولا مرتبطا ببيته وبلده كل التعلق، كما هي معيشة أكثر الإنكليز والأمريكان الذين
يفتكر الفرد منهم أن تعلقه بقومه وحكومته ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة
اختيارية، خلافا للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين"[7].وعلى
غير عادة الكتاب العرب نجد في كتاب "الخلافة والملك" لأبي الأعلى
المودودي استخداما لمسمى الشعب، الذي يتخذ دلالة دينية حيث يقوله :"فكل فرد
في جماعة المؤمنين شريك في الخلافة...وليس لواحد من البشر أو لطبقة من الطبقات أي
حق في سلب المؤمنين سلطاتهم في الخلافة وتركيزها في يده، كذلك ما من شخص أو طبقة
يستطيع أن يدعي أن خلافة الله تخصه هو دون سائر المؤمنين وهذا ما يميز الخلافة الإسلامية
عن المملكة وحكومة الطبقة أو حكومة رجال الدين، ويتجه بها إلى الوجهة الديمقراطية
غير أن هناك فرقا جوهريا بينها وبين الديمقراطية الغربية هو أن فكرة الديمقراطية
الغربية تقوم على مبادئ الحاكمية الشعبية أما في خلافة الإسلام الديمقراطية فالشعب
يسلم بحاكمية الله ويجعل سلطاته محدودة بحدود قانون الله برضاه ورغبته."[8]
،وحين يتحدث المودودي عن خصائص الدولة الإسلامية يقول: "إن هذه الدولة تتأسس
بعهد واع من شعب حر على أن يحني رأسه برضى منه لرب العالمين."[9]
، يرد مفهوم الشعب إذن بحمولة دينية مطابقة لمصطلح جماعة المخلصين أو المؤمنين
التي راجت خلال القرون الوسطى بأوروبا، كما سنبين لاحقا. والجدير بالذكر أن الإنتاج
السياسي العربي لم يوظف مفهوم الشعب ، سواء في الآداب السلطانية أو في فقه السياسة
الشرعية ، أو في علم الكلام السياسي ، أو في الفلسفة السياسة . بل نجد مصطلحات من
قبيل الأمة والرعية والأهل والقوم والسوقة والمسوس والعوام ، وما إلى ذلك من
ألفاظ.
مفهوم الشعب في الفكر السياسي
القروسطي
نجد نفس المصطلح يتردد خلال العصر الوسيط في
الكتابات السياسية بأوروبا ، حيث اتخذ مفهوم الشعب دلالة الرعايا ؛ فالناس سواسية
أمام الله ولكنهم خلقوا كرعايا ، فليست الدولة عند الراهب أغسطينوس سوى الهيأة
التي تحافظ على النظام الإلهي في مملكة الإنسان ، فعلى الدولة أن تكون في خدمة
مصالح الكنيسة إذ بتفنيد الدين الوثني الذي ساد روما قديما، تقام العقائد المسيحية
بوصفها الوسيلة لتخليص الناس من شرورهم، ذلك أن القانون غير كاف لتأسيس مدينة
تسودها العدالة . يغيب مفهوم الشعب في الفكر السياسي القروسطي،فعندما يرد اللفظ
إنما يحيل إلى التجمعات البشرية على أسس جغرافية ودينية، ليكون مرادفا للأمة.
يتساءل أغسطينوس في كتابه "مدينة الله":" ولماذا نتيه وسط شعوب
كثيرة تحاربوا وما حافظوا على المنهزمين الذين التجؤوا إلى هياكل آلهتهم؟"[10]
،هذا في إطار تفنيده لادعاءات الوثنيين بأن المسيحية كانت سببا في الشرور التي
شهدتها روما، كما ترد ألفاظ السكان والجماهير مفرغة من أية حمولة سياسية. بل يقترن
مسمى الشعب عنده بفعل الرعاية الذي تقوم به الكنيسة؛ يقول:" لأن أولئك
المراقبين ورعاة الشعوب لم يقاموا في الكنيسة إلا لكي يتعاملوا مع الخطيئة بشدة لا
تلين..."[11] ،
لم تعد سعادة المدينة رهينة بالفضيلة كما فهمها وعاشها اليونان، والرومان خاصة،
لكنها صارت مرتبطة بالإيمان الديني مادامت سعادة المدينة موقوفة على اتحاد أفراد سعداء،
لأن سبب انهيار روما هو الفساد الديني الذي كرس فسادا أخلاقيا وسياسيا؛ حيث استسلم
الشعب للشهوات فكف عن المطالبة بالعدالة، يقول في هذا السياق:" وتصفق الشعوب
لا لمن يخدم مصالحهم. بل لمن يلبون ملذاتهم"[12].
لكن حين يعرض أغسطينوس تعريف شيبيون للجمهورية يحيل إلى تلك المعاني السياسية
للمفهوم كما تداولها الرومان موضحا ذلك بقوله: "أخذ شيبيون الكلام مرة أخرى
ليذكر ويوصي بالتعريف الموجز الذي أعطاه عن الجمهورية، وهي أمر يخص الشعب. على أن
الشعب ليس أمرا طارئا أو وليد الصدفة بل جماعة تقوم على احترام الحق والمصلحة
المشتركة...ولا قيام لها-الجمهورية-إلا بقدر ما تدار بالصلاح والحكمة، إما بواسطة
ملك أو بعض المواطنين ذوي ثقة أو بواسطة الشعب كله"[13].
لقد حاول أن يبين عجز آلهة الرومان عن نصرة الشعب، فلكي ينتصر هذا الأخير عليه أن
يدين لله الواحد الذي يخلصه من كل الشرور ويستحق نعمته. لكنه في مقاطع أخرى من
الكتاب يتحدث عن الشعب العبراني الذي يتحدد أساسا بهوية دينية وبمرجعية عقدية، فالمحدد
الديني هو الفيصل بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ، وبين الصدق والكذب، لذلك
بعيب أغسطينوس على الفلاسفة معتقدهم التعددي، ولا يقبل التعاليم الأفلاطونية، إلا
لأنها قريبة من التعاليم المسيحية، ولأن الوساطة بين الأرض والسماء ضرورية، فإن
تسيير الشأن العام في حاجة كذلك لهذه الوساطة؛ في الحالة الأولى المسيح هو الذي
يمثلها، وفي الثانية تكون الكنيسة بوصها الحارس الأمين لتعاليم المسيح، مادام
الشعب مؤمنا، فإن الله يرافق شعبه وعندما يخطئ يعاقبه، يتأكد هذا المعنى في قول أغسطينوس:"
بعد موت يوشع كان لشغب الله قضاة؛ وعرفت تلك الحقبة الزمنية أوقات ذل وبؤس، وأوقات
عز وازدهار، بسبب ما ارتكب إسرائيل من خطايا أو ما غمره الله به من رحمات..."[14]
؛ على الرغم من أن مسمى شعب الله يخص الإسرائيليين، فإن هذا الراهب يعتبر كل إنسان
يتبع التعاليم الإلهية فرد من شعب، فبينما جسد اليهود المدينة السماوية في مكان
محدود وأرض مخصوصة، جعلتها المسيحية مجردة تتسع لكل من يعيش برضى الله، وليست في
حاجة إلى حصن أو هيكل، بما أنها توجد في اللامكان، من هنا يرتبط مصير المدينة
الأرضية والسماوية، بما أن تحقق الخير في الأولى يؤدي إلى خدمة الأخيرة، التي
تتحدد أساسا بوصفها مدينة الله؛ ترابط القانون والنظام الأرضي بالشرائع السماوية
ضروري إذن للحفاظ على مصالح البشرية . لعب
معيار الإيمان إذن، دورا حاسما في حياة المدينة نظرا لسيادة التصور الثيولوجي للفعل
السياسي المؤسس على نظرية التفويض الإلهي ، ومن ثمة حاول المنظرون للسياسة الدفاع
عن الأنظمة الثيوقراطية ؛ فالناس ينتقلون من وضع مقلق يكون فيه مصيرهم بين أيديهم
إلى نظام متعالي يتحكم فيه الله ، والمصلحة العامة والفردية من رعاية الله سبحانه
، والكنيسة هي التي تمثله والحاكم ظل لله في الأرض وعرشه في الواقع عرش إلهي ،
وعليه يكون مفهوم الشعب محدد كجماعة من المخلصين أو المؤمنين people des fidèles ، لأن الوازع الديني هو الذي يحول العامة إلى
شعب ، ليزاوج الأفراد بين الصفة السياسية والدينية ، وبهذه الطريقة يتحقق خلاص
أرواحهم ، ومن ثمة يكون الحاكم ممثلا للسيادة السياسية وللسلطة الدينية في الآن
ذاته .
مفهوم الشعب في الفكر السياسي
الحديث
لقد ظلت الدلالة الرومانية حاضرة في القاموس
السياسي الحديث ، وذلك ما نجده لدى المفكر الإيطالي ماكيافيلي الذي حاول تحديد
مكونات الجسم السياسي ، من أجل تحديد الطرق الممكنة لخلق التحالفات والصداقات بين
المكونات المختلفة للحفاظ على اُستقرار الدولة ؛ في كتابي " الأمير " و
"المطارحات" يبرز الفرق بين فئة الأعيان وفئة الشعب ، ومن ثمة الفرق بين
مزاجين أو طابعين ؛ فللشعب رغبة للانعتاق من تحكم الأعيان ومن سحقهم إياه ، بينما
يرغب الأعيان في التحكم والسيطرة، وبالتالي لا تظهر الاُختلافات المفهومية بين
كلمة شعب وكلمة عوام peuple et plèbe ، لأن مزاج هؤلاء يتعارض مع مزاج الأعيان
والنبلاء داخل الدولة . غير أن ماكيافيلي يضيف تأثير مزاج فئة ثالثة في كتابه
" تاريخ فلورنسا" وهو جشع وقسوة الجند ، إلا أنه يوضح ما للشعب من تأثير
أكثر من هذه الفئة الأخيرة ، ولذلك على الأمير الحفاظ على صداقة الشعب أو الفوز
بها ، ثم يعود ماكيافيلي للتمييز بين الشعب والعوام مستوحيا ذلك من التجربة
السويسرية ، مبتعدا في الآن ذاته عن التعريف الروماني ، حيث تعبر لفظة العوام عن
الفئة الاُجتماعية التي تقوم بمختلف الأعمال والحرف مشكلة بذلك العصب الحيوي لاقتصاد
الدولة ؛ فمصطلح العوام يشير إلى الفئة التي تعيش من عمل سواعدها ، وعليه يظهر
تقسيم جديد للجسم السياسي ، حيث التميز بين الأعيان والشعب من جهة ، وبين هذا
الأخير والعوام ، من جهة أخرى ، أي أن دور هذه الأخيرة محصور فيما هو اُقتصادي ولا
تأثر كفاعل سياسي ، أو كمشارك في العملية السياسية. لكن ماكيافيلي يعود لإبراز
تأثيرهم في هذه الأخيرة بالإحالة إلى الأحداث الغوغائية سنة 1378 بفلورنسا حيث
حملوا السلاح واكتسبوا صفة الذوات السياسية ، فخارج هذه الظروف لا وزن لفئة العوام
، لأنهم لا يؤدون الضرائب ولا يشاركون في الفنون ، وليست لهم مصالح قارة وثابتة ،
باستثناء هذه الأحداث حيث اعتبرت
فئة النساجين ciompio فاعلا سياسيا داخل المدينة ، لم تشكل فئة العوام أي تأثير اجتماعي
. بل استعمل المفهوم في الخطابات السياسية للقرنين الخامس العشر والسادس العشر استعمالا
سلبيا في النقاشات السياسية ، وذلك ما نجد له أثرا في كتابات ماكيافيلي الذي وظف
اللفظ للدلالة على الفئات الغوغائية الغاضبة المسعورة ، وليس على فئة اجتماعية لها
دور سياسي ، حيث يرد اللفظ بحمولة قدحيه حين يتعرض ماكيافيلي لأعدائه ، خلافا
لمفهوم الشعب الذي يتحدد كفاعل ومشارك في الحياة السياسية. أما عند هوبس فالشعب هو
الأكثرية التي تتحول سلطتها إلى الحاكم ، الذي يصبح ضامن وحدة هذه الأكثرية ، وذلك
بعد تنازل أفراد هذه الأكثرية عن حريتهم المطلقة ، التي كانت تخول لهم التصرف وفق
رغباتهم وقدراتهم ، فليس الشعب سوى الأفراد الذين تتكون منهم الأكثرية ، والذين
يسعون إلى الحفاظ على مصالحهم الخاصة ، بالانتقال من حالة الطبيعة العنيفة إلى
حالة المجتمع المنظم. الشعب إذن هو الجسم السياسي الذي ينتقل من المصلحة الخاصة
إلى السيادة السياسية التي توحد إرادة الأكثرية، ومن هذا التوحيد يتكون الشعب.
وعند هوبس يُحمل هذا الأخير على معنيين : 1 – الساكنة بوصفها مجموع الناس المحددين
بالمكان ويعيشون فيه بشكل مشترك . 2- الشخصية المدنية التي تعبر عن إرادة كل فرد،
أي رجل واحد مثل المستشار يجسد الإرادة العامة. لمفهوم الشعب دلالة جغرافي وأخرى
سياسية حسب تصور هوبس، غير أن هذا الأخير يتحدث عن شعب الرعايا، الذي لا يخضع
للسلطة الإلهية ولكن لسلطة الملك ، حيث رفض التصور الثيولوجي للمسألة السياسية .
خلافا لهذا التصور يتخذ مفهوم الشعب عند جون لوك دلالة الفاعل والمنفعل مع الاختيارات
السياسية داخل الجمهورية، فالشعب جماعة من المواطنين مرتبطة بالقوانين، وتساهم في
تحقيق غاية التنظيم السياسي. والأكثرية عنده لا تعني الشعب الذي لا يندمج في ممارسة
السيادة، أي أن المشاركة السياسية لا تحول الأكثرية ضرورة إلى شعب، وبالتالي
يتعالق مفهوم الشعب بمفهوم السيادة لدى لوك. أما عند روسو ارتبط هذا الأخير بفعل
الشرعية، من خلال مقاربة المفهوم تعاقديا، ومن ثمة يكون الشعب هو المسطر للقانون؛
ويتحدث روسو عن إرادة الشعب كإرادة عامة ضد النخب. ولكن لابد أن يتصف الشعب بجملة
من الخصال تجعله مؤهلا لتحمل القوانين، يقول روسو في "العقد الاجتماعي:
"مثله مثل المهندس الذي يفحص الأرض قبل تشييد معمار، إن كانت تتحمل ثقله، لا
يسن الحكيم المؤسس قوانين صالحة في ذاتها، وإنما يفحص الشعب الذي ستوجه إليه أن
كان مؤهلا ليكابدها."[15]؛
فإصلاح الشعب شرط أساسي لبناء الدولة، وتلعب الحرية الدور الأساس في هذا البناء،
يقول روسو:" أيتها الشعوب الحرة تذكري المبدأ القائل" بإمكاننا اكتساب
الحرية، ولكن لا يمكن استردادها أبدا."[16]،
إذ يحب أن يكون الشعب ناضجا ومنضبطا، ولا يتأتى ذلك إلا بالخروج من الهمجية إلى
المدنية، وفي تصور هذا الفيلسوف هناك شعوب غير مؤهلة للتحضر لما فيها من ميل إلى
الحرب والعدوان، وذلك هو حال الشعب الروسي الذي لم يستسغ القوانين وحالة التمدن
التي أرادها له الإمبراطور بطرس الأكبر المتوفى سنة 1725، لأن رعايا هدا الأخير
تعودوا على الحرب؛ وقد وجدت روسيا نفسها مستعبدة من طرف التتار، بعد أن حاولت استعباد
أوروبا، فقوة الدولة ليست في اتساعها الجغرافي، بل في شعبها الذي يدفع النفقات
ويساهم في إدارة الشؤون، والدولة الصغيرة أفضل بكثير من الدولة مترامية الأطراف،
التي تصعب إدارتها وتثقل كاهل الشعب بالضرائب وتنهكه، وأيضا لا تتلاءم نفس
القوانين مع كل الأقاليم المختلفة. يضع روسو علاقة اطراديه بين مساحة الأرض وعدد
أفراد الشعب، لأن الأولى هي التي تكفل الحاجيات الأساسية للأخير، يقول في هذا
السياق:" إن البشر هم الذين يصنعون الدولة، وإن الأرض هي التي تطعم
البشر."[17]؛
فإذا كانت الأرض أكثر اتساعا، أثقل الدفاع عنها كاهل الشعب، أما إذا كان عدد
الأفراد يفوق ما تقدمه الأرض من حاجيات، فإن الدولة تصبح خاضعة لإرادة جيرانها،
والشعوب التي تعتمد بحكم موقعها على التجارة أو الحرب، شعوب ضعيفة لأنها تكون
تابعة لجيرانها أو للأحداث، ووجودها في الغالب وجود مرتبك وقصير الأمد، وليست
المعطيات الجغرافية أو الطبيعية هي التي تحدد قوة الدولة، بل إن قوتها في انتظام
شعبها ووعيه وانخراطه في بنائها، يؤكد روسو على دلك بقوله:" أن يحتشد الناس
وأن يتراصوا، ولو فوق صخور رمال عقيمة أو تكاد، حيث يستعاض بصيد السمك عن إنتاجات
الأرض إلى حد كبير، وأنه ينبغي على الناس ان يتجمعوا متعاضدين لصد هجمات
القراصنة..."[18]؛
علاوة على ذلك لابد في إنشاء الشعب وتكونه من توفر شرطين أساسين وهما: الرخاء
والسلام، لأن بعض الحكومات تستغل أوقات الاضطراب والفتنة وتسن قوانين هدامة لا
يتبناها الشعب أبدا، ولذلك كانت اللحظات التأسيسية حاسمة، حيث يتميز فيها المشرع
عن الطاغية، ولذلك يكون الشعب المؤهل لتحمل القوانين، لا بالغني ولا بالفقير، بل
تحقق اكتفاءه الذاتي دون استعانة بالجيران، وبذلك يحصل حريته ويحافظ عليها. الشعب
إذن كيان قائم بذاته فاعل غير منفعل في بناء الدولة وتأسيسها قوية متماسكة، ويجد
روسو في شعب كورسيكا نموذجا ومثلا يُحتذى به، يقول في إعجاب بهذا الشعب:" ألا
إنه لا يزال في أوروبا بلد واحد صالح للتشريع: ألا وهو جزيرة كورسيكا، إن ما لهدا
الشعب الأبي من شجاعة وثبات استطاع بهما أن يسترد حريته ويدافع عنها... وإن لفي
نفي تخمينا بأن هذه الجزيرة الصغيرة ستبعث الدهشة في أوروبا في يوم من الأيام."[19]
مفهوم الشعب في الفكر السياسي
المعاصر
في معرض نقده للفلسفات الحدسية والرومانسية
بألمانيا، يبين فريدريك هيجل أن استخدام لفظ شعب أفرغ من معناه الحقيقي، حيث
يستعمل لإخفاء النزعة الأنانية لهذا الاتجاه،؛
ذلك أن سطحية تفكير هؤلاء تنجلي من خلال خطبهم التي تعمل على إقامة الفكر الفلسفي
لا على الفكرة الشاملة، وإنما على الإدراك الحسي المباشر ولعبة الخيال العرضي،
الذي يذيب الثراء الداخلي للحياة الخلقية، أي للدولة، في عرضية الآراء والصدفة و
الأهواء. ويعتبر هيجل أن زعيم هذا الحشد من السطحية هو يعقوب فردريك فريز، الذي
اقترح ضرورة قيام الوظائف العامة داخل الدولة على الشعب، وهو بذلك يعتنق مذهب جاكوبيJacobi ، الذي
يعتبر أن الأحكام المباشرة مستمدة من العقل ومن التصورات المعتمة التي لا يمكن
التعبير عنها، ومن ثمة يعتبر فريز المقولات العقلية كما صاغها كانط مجرد وقائع
للشعور. في مقابل ذلك، لا يرد مفهوم الشعب في كتابات هيجل السياسية إلا عرضيا، أي
أنه لا يستعمله كمفهوم سياسي يدخل في نسيج بناء الدولة، بل يستعيض هيجل عنه بمفهوم
أكثر تجريدا وتعبيرا عن الأفراد الذين يشعرون بأنفسهم أشخاصا أمام القانون، وهو
مفهوم المجتمع المدني؛ حيث يكون كل شخص غاية في ذاته، يعامل الآخرين على أنهم
وسائل لغاياته الخاصة، ومن ثمة ينشأ اعتماد كل شخص على الآخر بشكل مطلق، وهذا
الوضع الذي يعتمد فيه الأشخاص المستقلين على بعضهم البعض، هو جوهر ما يسميه هيجل
بالمجتمع المدني؛ لذلك يتناول هيجل التحليل الفلسفي أو العقلي لمؤسسات المجتمع
بالوقوف على مفاهيم الأسرة والمجتمع المدني والدولة، كما يحرص على التمييز بين هذا الأخير والدولة
فيقول:" إذا تم الخلط بين الدولة والمجتمع المدني، وإذا حُصرت مهمتها في
الحفاظ على الملكية والحرية الشخصيين، فستكون المصلحة الفردية حينئذ الغاية
النهائية التي اجتمع لأجلها الأفراد، وسيكون الانتماء إلى الدولة اختياريا...أما
الفرد في ذاته فليس له من الموضوعية ولا من الحقيقة ولا من الأخلاق إلا بقدر ما هو
عضو في الدولة."[20]
، أما المجتمع المدني فيتأسس على الفرد العيني ومجموع العلاقات التي تربطه
بالأغيار، من أجل إشباع حاجياته وتحقيق مصالحه. رغم استعمال هيجل للفظ شعب، فإنه
لا يرد بحمولته السياسية، وإنما بسياقاته العامة والمتداولة، وذلك ما نجده في
تصوره للزمن التاريخي بوصفه زمنا خطيا يحقق التقدم خارج إرادة الأفراد والشعوب، فهذه
الأخيرة تحررت خلال مراحل ثلاث: المرحلة الشرقية، التي عرفت حرية فرد واحد هو
الإمبراطور، والمرحلة اليونانية الرومانية، التي عرفت حرية فئة وهي الأرستقراطية،
وأخيرا المرحلة البروسية، حيث أصبح الجميع حرا، والتي تمثل نهاية التاريخ؛ إن استعمال
لفظ الشعب هنا لا يتخذ دلالة سياسية بقدر ما يحيل إلى دلالة أنطولوجية، بوصفه
كيانا تاريخيا.
في تعارض مع الفلسفة الهيجيلية، حاول كارل
ماركس تقديم تصور مختلف للفعل السياسي، يتخذ ضمنه مفهوم الشعب دلالة معقدة، حيث
استعمل مفهوم "البروليتارية" للانعتاق من الاستعمال التقليدي للأول، حيث
حاول التعبير عن الوحدة والانسجام الذي يسم علاقة الأفراد داخل المجتمع في أفق نفي
الصراع الطبقي؛ وفق هذا التصور يصبح مفهوم الشعب وهما بما اتخذه من استعمال أداتي
ضمن المجال السياسي. رغم تخلصه من كل تصور عضوي للشعب، فإنه يستخدم اللفظ في
مناسبات عدة، خاصة عند التفكير في النضالات القومية في زمانه، التي كانت تهدف إلى الاستقلال
عن القوى الاستعمارية، كما وظفه لتحديد الخصوصيات الوطنية والقومية المميزة
لعلاقات القوى الاجتماعية والسياسية المتفردة، التي ينبغي تحليلها دوما ضمن سياقها
الوطني القومي. وأخيرا يرد اللفظ لتحديد بعض أنماط التحالف الطبقي ضمن إطار
سوسيوسياسي أكثر اتساعا. لم ينفصل اللفظ في هذا الاستعمال الثلاثي عند ماركس عن
الانقسام الاجتماعي؛ بما أنه حامل لموروث الثورة الفرنسية، وللأعمال السياسية التي
أطرتها بداية من روسو وصولا إلى بافو وبيوناروتي؛ حسب هذا التقليد يحيل لفظ إلى
الفئات الاجتماعية المناقضة للأرستقراطية.
لابد من الإشارة إلى أن كلمة prolétaire عند الرومان من الجذر اللاتيني proles وتعني الذرية أو السلالة، لتحيل على أدنى طبقات المواطنين المجردة
من الملكية، ولا تعتبر نافعة إلا بالنظر إلى نسلها وذريتها، لذلك كانت معفاة من
الضرائب. من هنا لا تكون البروليتارية هي الشعب، إنما وظيفة ودور محدد للشعب ووضع
اجتماعي معين؛ فإما أن تتحدد بالعوز والفقر، أو بوصفها مستغلة خاضعة عند تحليلها
ضمن نمط إنتاج رأسمالي، لتكون وظيفة اجتماعية نشيطة، وليست مجرد مكون اقتصادي
مُستلب، هذا المعنى الأخير هو الأقرب إلى الاستعمال الماركسي. لا شك أن مصطلح
بروليتارية قد عرف تجددا في خضم النقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للعالم
الصناعي خلال القرن التاسع عشر؛ في هذا السياق ظهر المصطلح سنة 1832 للدلالة على
مجموع العمال الفقراء، الذين اعتبر بؤسهم نتيجة مباشرة لأنانية الطبقة الحاكمة
ويعتبر أنطوان فيدال Antoine Vidal أول
من دافع على هذه الأطروحة في فرنسا، ليتحول بعد ذلك إلى الفكر الألماني سنة 1842 مع
عالم الاقتصاد لورنز فون شتاين Lorenz Von Stein الذي كان معاديا للاشتراكية،
ثم استعاره الهيجيلي الشاب موزيس هيس Moses Hess الذي كان أقرب في تفكيره إلى
إنجلز وماركس، فظهر المصطلح بقلم هذا الأخير انطلاقا من سنة 1843 حيث اتخذ دلالة
جديدة وأهمية نظرية مركزية؛ بنقد التصور الهيجيلي للدولة وإبراز التحرر العام
للمجتمعات الحديثة، يقول ماركس:" لأن البروليتارية هي الطبقة التي تعاني
الظلم، فإنها لا تستطيع سوى استهداف استعادة كلية للإنسان"1 . لكن المصطلح
سيتخذ معاني جديدة ما بين سنة 1845 و 1848 ، حيث أكد ماركس و إنجلز على أن محرك
التاريخ هو الصراع الطبقي، ويحددان التعارض القائم في المجتمعات الحديثة بين
البورجوازية و البروليتارية؛ هذه الأخيرة هي الطبقة المنتجة للثروة دون امتلاكها
لوسائل الإنتاج، والمطالبة في الآن ذاته بالتغيير الجذري للنظام الرأسمالي. ينجلي
هذا الدور التاريخي البروليتارية في كتاب "الإيديولوجية الألمانية"،
الذي يعلن فيه الفيلسوفين ما يلي:" بينما تتحول الطبقات غير المالكة السابقة
وقسم من الطبقة المالكة حتى ذلك الحين إلى طبقة جديدة هي البروليتارية... فإن مختلف
الأفراد لا يشكلون طبقة إلا بقدر ما يتوجب عليهم خوض معركة مشتركة ضد طبقة
أخرى..."[21] . أما
في كتاب " رأس المال" فقد أصبحت البروليتارية الطبقة الغنية المالكة
الحقيقية للثروات، من خلال وحدتها وهويتها الاجتماعية التي تدفعها إلى نقض الملكية
الخاصة لوسائل الإنتاج في أفق إحلال نظام اشتراكي، من ثمة تكون مفهوما اجتماعيا، يمثل
في نفس الوقت بعدا سياسيا واقتصاديا وفلسفيا تأسيسيا، ينبجس بفضله الوعي الثوري.
غير أن هذا التحديد لا يؤدي عند ماركس إلى استبدال مفهوم الشعب بالبروليتارية، بل
يربط بينهما ربطا جدليا، من خلال التعالق بين مفهوم الشعب والثورة من جهة، والثورة
المضادة من جهة أخرى، التي أفرزتها الثقافة السياسية للشعوب، أبرزها الثورات التي أطاحت
بالأنظمة الإقطاعية في أوروبا، ولذلك سيستخدم ماركس البروليتارية للدلالة على نمط
ثوري جديد. يقول في هذا السياق:" لقد تشاركنا إصلاحات الشعوب الحديثة دون
تقاسم ثوراتها. لقد عرفنا الإصلاحات أولا، لأن شعوبا أخرى تجرأت على القيام
بالثورة، وثانيا لأن شعوبا أخرى عانت من الثورة المضادة" . ويضيف:" كذلك
بالنسبة للشعوب الحديثة، لا يمكن للوضع الراهن لألمانيا أن يكون دون فائدة، لأن
هذا الوضع هو إكمال للنظام القديم، وهذا الأخير هو العيب الخفي للدولة
الحديثة"[22] ؛ تؤدي
الحركة التحررية لشعب ما إلى استنهاض همم الشعوب الأخرى، فليس التضامن مع الشعوب
المضطهدة مجرد محبة للإنسان philanthropie ، وإنما هو من طبيعة سياسية أساسا
أكثر من كونها أخلاقية. إن الدور الذي لعبه الشعب في القيام بالثورات ضد الأنظمة
الإقطاعية لم يكتمل، مما يخول للثورة أن تكون جذرية، في المقابل تمثل البروليتارية
هذه الجذرية الاجتماعية والسياسية في الآن ذاته، فليست مجرد جزء من الشعب أو ممثلا
له، بل إنها تمثل الإنسانية قاطبة، بما تقف ضد المعاناة والاستغلال وتتغيا التحرر
من الوضع القائم والقاتم ، وعليه تتجاوز الثورة مع البروليتارية الحدود الوطنية
والقومية لتتخذ طابعا كونيا شموليا. تحدث الثورات إذن لدى الشعوب بشكل عفوي
وتلقائي، بينما ترتبط مع البروليتارية بالوعي الطبقي.
في إطار قلب
القيم السائدة ونقد التقليد الفلسفي الأوروبي، قدم الفيلسوف الألماني فريدريك نتشه
تصورا مغايرا لمفهوم الشعب؛ فهذا الأخير مجرد قطيع يسعى أفراده إلى التطابق على
مستوى الفكر والفعل والقيم، لأن إرادة ترسيخ أخلاق بعينها مجرد طغيان؛
فليست الأخلاق السائدة سوى وسيلة لتحويل الإنسان إلى كائن أقل خطورة، أو لاستغلاله
ومن ثمة الحفاظ على العبودية بأشكال جديدة، حيث تصبح الأخلاق وسيلة للاعتراض على
الأفراد والشعوب وإخضاعهم لسيطرة الفئة السائدة، بل تؤدي القيم كما رسخها التقليد
الفلسفي في أوروبا إلى الحفاظ على غريزة القطيع، يقول نتشه في هذا السياق:"
إننا نعترض على فرد وشعب عندما يلحقان بنا الأذى. لكن باعتبار وجهة نظرهما، يكونان
في حاجة إلينا ما دمنا ضمن أولئك الذين يحصلان من خلالهم على منفعة ما"[23]،
فمن عوامل الانحلال الخارجي سيطرة الدهماء ونفوذهم المتزايد، ما منح السيادة للروح
الشعبية التي تخضع كل شيء لإرادتها، وتنزل بالعظماء إلى مستوها المتسم بالسطحية في
التفكير، وعدم المبالاة بالأسس الروحية والقيم العليا للحضارة، هنا يكمن الخطر
الكبير لهذه الروح الشعبية. يصف نتشه الجمهور والعامة والحشود بالطبقة المنحطة
التي تنفخ في حاجاتها الوضيعة محولة إياها إلى قيم سامية كونية؛ ليس الشعب إذن سوى
الكناية على الخضوع والخنوع والتبعية المطلقة، التي تتجسد في أخلاق العبيد وفي
الأوهام السائدة، ومع ذلك يشكل هذا الوضع ضرورة أنطولوجية لتحول الإنسانية مجرى
تاريخها:" والانحلال ضرورة لابد منها، وحال لازم لكل عصر وكل شعب"[24].؛
وليست محاربة الانحلال هي الهدف، بل العدوى التي تنتقل إلى باقي أجزاء الكائن
العضوي السليمة هي الجديرة بالصد والرد. إن الشعب هو المجال الخصب الذي تترسخ فيه
غريزة القطيع، حيث طاعة الفرد العمياء للحشد دونما تفكير؛ وما الأخلاق سوى هذه
الطاعة العمياء المتجذرة لدى الأفراد، أكثر من ذلك، لا يمثل التقليد الفلسفي منذ
أفلاطون إلى هيجل إلا نفيا للعالم الواقعي وإحلالا لعالم وهمي؛ مادام عمل الفلاسفة
منذ ذلك الحين تأسيسا لتأويلات ظنوا أنها حقائق مطلقة؛ لذلك ليست المسيحية سوى
أفلاطونية الشعب، بما أنها تكرس هذه النزعة الإنكارية والعدمية المتجهة نحو عالم
مجهول متناسية العالم الأرضي الواقعي. وعليه لا يمثل الشعب تلك القوة المساهمة
والمؤسسة للفعل السياسي؛ إنه مُساق مُنفعل لا وزن ولا تأثير له.
في مقاربة
اجتماعية نفسية أبرز المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون Gustave LeBon دلالة جديدة لمفهوم الشعب، إذ يتخذ لديه معنى
الجمهور يقول في كتابه "سيكولوجية الجماهير": " من جهة أخرى
نلاحظ أن شعبا بأكمله يمكنه أن يصبح
جمهورا بتأثير من هذا العامل أو ذاك أن يكون هناك تجمع مرئي."[25]
؛ لقد مثل انخراط الطبقات الشعبية في الحياة السياسية تحولا جذريا في المجال العام
الأوروبي ، حيث تحولت إلى طبقات قائدة رغم عجزها عن التأمل وعدم أهليتها للمحاكمة
العقلية، ولكنها في المقابل مؤهلة للانخراط في الممارسة والعمل، مما يفسح المجال
لعقائد جديدة لتحل مكان العقائد القديمة، فعوض القوى الطغيانية المتسلطة المؤسسة
على الحقوق الإلهية للملوك، أصبحت السيادة للحقوق الإلهية للجماهير، إن الجماهير
عند لوبون هي المتحكم الحقيقي ليس في السياسة فحسب بل في الحضارة برمتها، وهي
محكومة بلاشعور جماعي يدفعها إلى التصرف، إذ تمتاز بوحدة ذهنية وأخلاق مشتركة
تمكنها من التأثير المباشر في السياسة، وهذه سمة للعصر الذي عايشه لوبون، لذلك
كانت معرفة نفسية الجماهير شرطا أساسيا لرجل الدولة حتى لا يصبح محكوما كليا من
قبلها؛ كان نابليون بونابرت بارعا في النفاذ إلى نفسية الجماهير الفرنسية ولكنه
كان يجهل بشكل كلي نفسية الجماهير التي تنتمي إلى أجناس و أعراق أخرى، وهذا الجهل
قاده إلى خوض الحروب في إسبانيا وروسيا التي أدت لاحقا إلى سقوطه. تبين نفسية
الجماهير مدى ضعف تأثير القوانين والمؤسسات على طبيعتها وغرائزها العنيفة، من ثمة
لابد من دراسة الدوافع التي تحرك البشر من أجل الانخراط والممارسة. تلعب إذن
الظواهر اللاواعية دورا أساسيا في تحريك الجماهير، التي ترتد إلى روح العرق، أي
مجموع التأثيرات الوراثية المسؤولة عن تشابه أفراد عرق ما؛ إذ يتطابقون في مسائل
الدين والسياسة والأخلاق والتعاطف والتباغض...هذه الصفات العامة للطبع التي يتحكم
بها اللاوعي هي التي تستنفر الجماهير فتذوب الاختلافات لتسيطر الصفات اللاواعية،
التي تتحدد من خلالها المصلحة العامة، لأن الفرد يستشعر قوة عارمة بانتمائه إلى
الجمهور وتنتقل إليه عدوى ذهنية تدفعه إلى التضحية بمصلحته الشخصية من أجل المصلحة
الجماعية، وليس ذلك سوى أثر الصفة التحريضية التي تفعل فعلها بشكل خفي؛ إنها حالة
من التنويم المغناطيسي الجماعي حيث تلغى إرادة الفهم والتمييز، وتصير أفكار الفرد
وعواطفه موجهة في الاتجاه الذي تتحرك فيه الجماهير، وهذه الأخيرة سريعة التأثر
وساذجة ويمكنها أن تصدق أي شيء بسبب غياب افتقارها للروح النقدية، ومن ثمة تقبل كل
الاقتراحات وتكون لها قدرة على التصديق بسرعة، ولا أدل على ذلك من انتشار وفشو
الأساطير والحكايات الأكثر شذوذا وغرابة، والحدث الواحد يصبح مشوها بمجرد أن
تتداوله الجماهير، لأنها غير قادرة على التمييز بين الذاتي والموضوعي، لتتحول
الصور المثارة في خيالها إلى وقائع حقيقية رغم بعدها عن الوقائع المرئية، يسوق
لوبون مثالا لهذه الحالة برؤية القديس جورج على جدران القدس، حيث كان قد ظهر لفرد
واحد في البداية، ولكنه ظهر لكل الصلبيين بعد ذلك، فعن طريق التحريض والعدوى أصبحت
هذه المعجزة مقبولة لدى الجميع، هذه الهلوسات الجماعية متكررة جدا في التاريخ.
إضافة إلى ما سبق تتميز الجماهير بنزعتها التعصبية الاستبدادية والمحافظة، ذلك ما
يظهر بوضوح في العقائد المشكلة عن طريق التحريض لا عن طريق التعقل والمحاجة
العقلانية، ومثالها الأبرز المعتقدات الدينية التي تهيمن وتستبد بالنفوس، وإذا كان
الفرد يقبل المناقشة والاعتراض، فإن الجماهير لا تقبل ذلك أبدا؛ في الاجتماعات
العامة لمثلا يواجه اعتراض خطيب ما بالصياح والغضب والشتائم العنيفة، ثم بالطرد
والضرب في حالة إصراره على موقفه. أما أخلاقية الجماهير فهي منحطة غالبا حيث تسمح
للفرد بإشباع غرائزه البدائية النائمة في أعماقه وضراوة الجماهير التي تمزق ضحية
ببطء، شبيهة إلى حد بعيد سلوك الصيادين المجتمعين لمشاهدة كلابهم تمزق غزالا
بئيسا، ولكن للجماهير أخلاقيات أكثر نبلا من أخلاق الفرد في الكثير من الأحيان، أي
تلك الأخلاق المرتكزة على عواطف المجد والشرف والوطن والدين، حيث تتفانى الجماهير
بنزاهة لأجل القضايا الكبرى؛ "فكم هي الجماهير التي ضحت بنفسها بنوع من
البطولة من أجل عقائد وأفكار لا تكاد تفهمها؟"[26].
في كتابه "السنن النفسية للأمم" يركز لوبون على الجوانب النفسية
اللاشعورية مرة أخرى، ليؤكد خضوع الشعب بأسره لروح العرق، أي أن هذه القوى النفسية
هي المحدد الحقيقي لحياة الأمم، يقول في هذا السياق: "ولم تكن القوى النفسية
التي لها ذلك التأثير الكبير صادرة عن العقل، وهذه القوى هي التي تسيطر على جميع
العقول، وفي الكتب وحدها تجد أن المعقول يقود التاريخ"[27]؛
إذ يشهد الصراع الأوروبي على سيادة روح العرق التي دفعت بالكثير من الدول إلى
السيطرة على غيرها بدعوى تفوق العرق، ومن ثمة لا يكون الشعب سوى الكيان المحكوم
بدوافع لاشعورية جماعية تصنع مصيره، وتسطر تاريخه.
في تحليل لبنية السلطة داخل المجتمع قدم
الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة، التحول
الذي شهدته سلطة الشعب، حيث كان مجرد متفرج لمختلف أشكال التعذيب التي مارستها
العدالة الجزائية، فكان الغاية من تجمهر الناس في الساحات العمومية لحضور عمليات
التعذيب والقتل الاعتراف بالسلطة القائمة من جهة، وإرهابهم وتخويفهم من جهة أخرى.
بل إن حضور الشعب هو الذي يعطي للتعذيب معناه نقرأ في "المراقبة
والمعاقبة": "في احتفالات التعذيب، يبدو الشعب كشخصية رئيسية وحضوره
الحقيقي والماثل مطلوب لاستكمالها، فالتعذيب حتى لو كان معروفا، إذا جرى بصورة
سرية قلما يكون له معنى"[28]،
ولذلك كانت عمليات الإعدام علنية؛ كان الشعب إذن مجرد جمهور يشهد على وحشية
العدالة وقوة السلطة الحاكمة ممثلة في الملك. تحول التعذيب القضائي إلى طقس سياسي
يظهر الحكم من خلالها ذاته، من هنا يكون دور الشعب ملتبسا، لأنه الشاهد على تحقيق
العدالة من جهة والمشارك في هذا التحقيق في الآن ذاته، حيث يطالب بالتعذيب ومن
التحقق من هوية المُعذب. لكن يمكن للشعب أن يعجل في تنفيذ الحكم أو أن ينتزع
المدان من أيادي الجلاد، وكذلك الحصول على العفو بالقوة والقيام بشغب ضد الحاكم؛
من هنا يتحول الشعب من مجرد متفرج إلى قوة إلزامية، ذلك ما قدم له ميشيل فوكو
مثالا حين استحضر حادثة تحرير معتقلين في انتفاضة القمح سنة 1775، فكان تنفيذ
الأحكام في الكثير من الأحيان سببا في انطلاق الاضطرابات، كما شكل حضور تنفيذ
الأحكام فرصة للشعب من أجل التعبير عن انفعالاته المتباينة، إضافة إلى رغبته في الاستماع
لآخر كلمات المحكوم عليه التي تهاجم السلطة القائمة بتجلياتها المختلفة؛" لم
يكن ذلك من أجل مشاهدة أوجاع المحكوم، أو من أجل إثارة غضب الجلاد. إنما من أجل الاستماع
إلى ذاك الذي لم يعد لديه شيء يخسره، يشتم القضاة، والقوانين، والسلطة
والدين."[29]
لقد ظهر التضامن الشعبي من جراء التنفيذ العلني للأحكام، وهو الشيء الذي أدى إلى
استقواء القمع الجزائي والبوليسي، من ثمة يظهر الدور السياسي غير المعلن للشعب
الذي يشكل سندا خفيا لسلطة الملك؛ فحين ينضاف عنف هذا الأخير إلى عنف الشعب، تصبح
سلطة الحاكم مطلقة وهي المزاوجة التي تمثل إحدى الأوليات الأساسية لهذا المطلق حسب
جوزيف دي ميسترJoseph de
Mestre. في القرن الثامن عشر بدأت اللاشرعية الشعبية تنمو وتأثر في
البناء الاقتصادي والسياسي للمجتمع حيث ساد رفض القوانين ومقاومة موظفي الدولة
والتعاطف مع بعض الفئات المنبوذة داخل المجتمع، كالمتشردين والعاطلين والجنود
الفارين، وهي اللاشرعية التي فرضت نفسها ضمن اللعبة السياسية التي كانت تتفادى
العصيان المهدد للاستقرار، ذلك ما أفضى إلى تنامي الجرائم باسم هذه اللاشرعية،
التي مثلت في الآن ذاته جزء من الحياة السياسية والاقتصادية للمجتمع، وسرعان ما
تحول هدفها من الحقوق إلى الأموال والثروة، وتحول الصراع ضد حقوق الملاكين إلى
الاحتجاج السياسي والديني، وبالتالي وجدت البورجوازية أرضية في هذه اللاشرعية
الشعبية لتحرير حقوق الملكية من سطوة الإقطاعية، وظهرت سلطة تحتية في مقابل السلطة
المفرطة أو المطلقة التي كان يتمتع بها النظام القائم. يبدو أن الشعب تحول إلى قوة
تخلق التوازنات السلطوية داخل المجتمع، وهي التي أدت إلى أنسنه العقوبات وإلى
الكثير من الإصلاحات التي عرفها المجتمع. في الدرس المؤرخ بالخامس
والعشرين من شهر يناير لسنة 1978 بعنوان" Sécurité,
territoire, population"،
قدم ميشيل فوكو تصورا للشعب بوصفه مجموع سكان منطقة نفوذ معينة، ونقيضا للإخلاء من
الساكنة dépopulation، مُظهرا
الدور السياسي والاقتصادي للساكنة منذ القرن السادس عشر إلى حدود القرن الثامن
عشر، فبعد أن ارتبط معنى الساكنة بالظواهر السلبية من مجاعات وأوبئة والحروب؛ فكانت
مقاربتها ديموغرافية كما تُظهر جداول الأموات، بوصفها عملية تكميمية تساعد على
تحديد أسباب وفاة الأفراد، حيث كانت إنجلترا أول بلد يضع هذه الجداول، تحولت منذ
القرن الثامن عشر إلى شخصية فاعلة ومؤثرة في اقتصاد السلطة ، ذلك ما تبرزه كتابات
المؤرخين والمحقبين والرحالة، التي قدمت وصفا للساكنة باعتبارها عاملا وعنصرا من
عناصر قوة الحاكم وثروته؛ إنها تمظهر للسيطرة على الأراضي من جهة وللرواج
الاقتصادي من جهة أخرى، إضافة إلى أنها مطالبة بالطاعة وبالحماسة وبامتلاك حس
الشغل، من ثمة تنخرط الساكنة في دينامية قوة الدولة والحاكم، وهي بذلك أساس لهذه
الأخيرة والقوة الإنتاجية مما شكل أساس الممارسة السياسية للنزعة التجارية mercantilisme . يبن فوكو
الترابط الوثيق بين الساكنة والرغبة، حيث يتحرك الناس بسببها ويستحيل على أية سلطة
منعهم مما يرغبون فيه؛ فكل فرد يرغب في تحقيق مصلحته الخاصة ليتم إنتاج مصلحة
جماعية مؤسسة على الرغبة، من هنا تتحول الساكنة إلى جمهور حين تؤخذ آراؤها
ومخاوفها وتطلعاتها وأحكامها المسبقة بعين الاعتبار، وبالتالي تكون الساكنة في صلب
الإشكاليات السياسية الحديثة.
خلاصة
يتضح مما سبق أن تتبع مفهوم الشعب من الصعوبة
بما كان، فليست التنوعات الدلالية إلا الشاهد على ثراء المفهوم، كما كشفت لنا
الدلالات الاصطلاحية عن تنوع التصورات التي ارتبطت بالمفهوم. ومهما يكن الاختلاف
بين الفلاسفة والمنظرين السياسيين، فإنها تكشف مجتمعة عن حيوية الفكر الإنساني
وديناميته، التي تحث الباحث والمهتم على تعميق بحثه في أفق المساهمة في هذه
الحركية. فهل يمكننا الحديث عن شعب عربي في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي
يشهدها عالمنا المعاصر؟ أم أننا في العالم العربي مجرد رعايا لا وزن لهم داخل
العملية السياسية؟. لن يكون من باب اللغو ولا الغلو القول بأن الخيمياء السياسية
في المجتمعات العربية، تحجب عنا حقيقة الممارسة السياسية؛ فهي مزيج سريالي بين
التفويض والتعاقد، مما يجعل الخريطة السياسية غامضة متأرجحة بين الكائن والممكن،
ضمن هذه العتمة السياسية يظهر الناس في علاقتهم بالسياسي مجرد جمهور يشبه إلى حد
بعيد الجماهير الكروية ومشجعي الفرق، إنها الساكنة بوصفها القوة الإنتاجية، وفي
نفس الوقت الحشود التي تعيد إنتاج نفس القيم في طقوس سياسية احتفالية؛ يتحول معها
الفعل السياسي إلى مجرد مناسبة للولائم وللتصريفات الشوفينية التي تستغل جوع
الجماهير و نعراتها العصبية في الآن ذاته، وتظهر الجماهير حينا آخر كجماعة
المؤمنين التي يوجهها الوازع الديني من خلال استغلال الخطاب الديني المتجذرة
تنظيرا وممارسة؛ ولعلنا نجد في الثورة المصرية خير دليل على هذا الاستغلال، حيث
انقسمت الحركات السلفية الوهابية إلى فريقين: أحدها يرى أن الانخراط في العملية
السياسية ضرورة مقاصدية تسد الطريق أمام العلمانيين والاشتراكين و الحداثيين،
بينما ذهب الفريق الآخر إلى العزوف عن المشاركة السياسية مادامت محددة بشروط
ومعاير ديمقراطية غربية من وضع الكفار. ليس صعود الإخوان المسلمين في البداية سوى
الحجة الدامغة على تأثر الجماهير في عالمنا العربي بالخطاب الديني، الذي يتعذر معه
بناء الدولة المدنية المؤسسة على القانون وعلى المواطن الحر. فهل من سبيل لتحرير
العقل العربي السياسي من سطوة الديني واستبداد نظرية الحق الإلهي؟ ألسنا أمام
إحراج تاريخي كشف عنه ما يحلو للكثيرين تسميته بالربيع العربي؟ ألن نكون أمام مشهد
قروسطي حيث تتحرك الجماهير باللاشعور الجمعي، الذي يلعب فيه الكاهن الدور الأساس
في تحديد مصير الجماعة وفق فكر لاهوتي يسهل معه التحكم في الحشود، التي لا تعدو
كونها قطيعا توجهه غريزة البقاء وتضمحل ضمنه الإرادة الفردية مفسحة المجال لنزعة
تطابقيه قاتلة تهدد مصير الأجيال القادمة، في عالم يتحول سريعا؟ هل قدر المجتمعات
العربية الإسلامية هو التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية؟. قد يجد البعض في هذه
الأسئلة ميولات سوداوية وخطابات جنائزية لا تغني ولا تسمن، ولكنها في الحقيقة
تعبير عن واقع مرئي معيش، بقدر ما يعكس عجزنا عن تغيير واقعنا، يعبر عن هم حمله
الكثير من المفكرين عبر التاريخ ووهبوا حياتهم للتفكير فيه، دون أن يجد طريقا
لتنزيله من أجل الانخراط في سيرورة العالم المتحول. مازال نفس السؤال يتردد في أذهان
الكتاب والمؤلفين العرب: لماذا تقدم الغرب وتأخر العالم الإسلامي؟ هل وجد
النهضويون حلا في دولة تحاكي دول الغرب المتقدم؟ ألم يلقى مفهوم الدولة الوطنية
اعتراضا من طرف الفكر السلفي المعاصر؟ فكيف فهمت الدولة الوطنية في الفكر السياسي
العربي المعاصر؟ و ما هو موقع الشعب في الدولة الوطنية كما تبلورت في الغرب، و
مكانته في تلك التي شُيدت في العالم الإسلامي؟. فبعيدا عن الرفض والقبول لهذا
المفهوم في عالمنا الإسلامي، أصبحت الدولة الوطنية واقعا تاريخيا لا يمكن إنكاره،
وإلا سيؤدي ذلك بصاحبه إلى طوباوية قشفة تهيم في غيابات الخيال، فهل يمكننا بناء
على دلالة جديدة لمفهوم الدولة الوطنية التأصيل لدلالات جديدة مرتبطة بمفهوم
الشعب؟، إذا كان ذلك ممكنا، فان التساؤل عن العوائق التي تحول دون هذا التأصيل و
تعرقل في الآن ذاته بناء الدولة الوطنية، يفرض نفسه بقوة في هذا المقام، لذلك لا
مناص من تحديد المفهوم الأخير بعد تحديد الأول. أين نشاء وما أصله؟ وكيف تداوله
الفكر السياسي الإسلامي المعاصر؟
[1]علي عبد الواحد وافي، المدينة
الفاضلة للفارابي. نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.1964.ص 80
2أحمد شحلان،
الضروري في السياسة ، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. مركز دراسات الوحدة
العربية.1998 .ص 80
3 أبو علي ابن سينا،
كتاب السياسة. بدايات للطباعة والنشر.2007 .ص 59
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق