الثلاثاء، 18 فبراير 2020

الفكر السياسي العربي ومفهوم الدولة الوطنية

الفكر السياسي العربي
                   ومفهوم الدولة الوطنية

 استورد الفكر العربي السياسي مجموعة من المفاهيم السياسية تبلورت في الغرب، مثل الدستور  و الديمقراطية  والبرلمان، والدولة الوطنية وغيرها، و مفهوم الدولة العميقة مثلا الذي أصبح متداولا حاليا على لسان كثير من المحللين السياسيين في البلاد الإسلامية، كما في المغرب الذي يشهد حركية سياسية، يلعب فيها مثل هذا المفهوم دورا تبريريا لمفهوم الفساد، الصنو الشقيق لمفهوم الاستبداد المتداول في خطابات النهضويين العرب. إن غموض المفاهيم السياسية وقدرتها على أداء وظيفتها في الآن ذاته – وإن أدتها لغايات مختلفة عن تلك التي وضعت لأجلها في الأصل – ظاهرة غريبة  تعيشها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، إذ لا يمكننا إنكار التبييئ الذي خضعت له المفاهيم والنظريات المستوردة، بل و تبويؤها في خطابات الكثير من تيارات الفكر السياسي العربي؛ هذا الفكر الذي وجد نفسه في مواجهة حاسمة ضد الهيمنة الأجنبية، انتهت بالرفض والقطيعة الكلية لدى التيارات السلفية، أو بمحاولة تقليد وتبعية مطلقة تنظر إلى الثقافة الغربية النموذج التاريخي الجدير بالاقتداء، كما عند اللبراليين أو من أطلق عليهم حسن حنفي التغريبيين،  وفي أحوال أخرى الأخذ من ثقافة المهيمن ولكن وفق الضوابط الدينية، ضمن إطار ما عرف بمقاصد الشريعة، كما عند الإصلاحيين. في خضم هذا الاختلاف والتعارض أخذت المفاهيم دلالاتها الخاصة في الفكر السياسي العربي، كما سلفت الإشارة إلى ذلك، عاد مفهوم الشعب إلى أصله القروسطي، فصار الناس مجرد رعايا محكومين خاضعين لا شأن لهم بالسياسة، ولا بإدارة الشأن العام، وإنما شأنهم قوت يومهم وسلامة أرواحهم وممتلكاتهم، ولا يلتفتون إلى طبيعة النظام السياسي و لا إلى طبيعة السلطة؛ إنها الحشود المنفعلة الخاضعة خضوعا مطلقا لسلطة الدولة، فالملاحظ في التاريخ العربي المعاصر أن تداول السلطة وإدارة الشأن العام يتم بنفس الطريقة، مهما اختلفت طبيعة الأنظمة، جمهورية كانت أو عسكرية أو ملكية، يكون فيها الشعب~الرعية فقيرا معدما، حيث المبدأ السائد هو سوء توزيع الثروة، وعدم تحقق العدالة الاجتماعية بما يرافقه من استبداد وفساد و عدم استقلالية السلط. في هذا الفكر أصبحت الديمقراطية شورى عند البعض، والحال أن هؤلاء حاولوا إضفاء الطابع الإسلامي على هذا المفهوم الدخيل، دون أن يغيروا من مضمونه على المستوى النظري، لكن الممارسة نحثت لمفهوم الديمقراطية دلالات جديدة بعيدة كل البعد عن أصلها اليوناني، صار المفهوم في الواقع العربي مستهلكا، ليحمل صيغة تشيئية ترتبط بصناديق الاقتراع، وتصبح الانتخابات مجرد حدث موسمي يمكن خلاله بيع الأصوات وجني المال، ومناسبة دورية لتصفية الحسابات وإتمام الصفقات السياسية والاقتصادية، بالنسبة للنخب الحاكمة. ما حدث لمفهوم الشعب و الديمقراطية حدث لباقي المفاهيم السياسية التي دخلت إلى الفكر العربي من بوابة الغرب، ولعل أهم المفاهيم التي أثارت الجدل بين الكتاب العرب مفهوم الدولة الوطنية، خاصة بعد جلاء الاحتلال الأجنبي الذي قسم العالم الضعيف عامة والعربي الإسلامي خاصة، إلى مجموعة من الدول والكيانات السياسية المستقلة عن بعضها البعض، لذلك اعترض بعض المفكرين على فكرة الدولة الوطنية، لأن نموذج الدولة عندهم لا يتحقق إلا بوحدة الدار في إطار الخلافة. فما هي الدولة الوطنية؟ كيف ظهرت وتطورت؟ وكيف تلقى فكرنا العربي الإسلامي هذا المفهوم؟ هل ارتبط التفكير في الدولة الوطنية بالتفكير في الإصلاح؟ هل يمكن فعلا استلهام تجربة إنسانية خارج سياقاتها التاريخية والمعرفية والروحية...؟ أليست الوقائع شاهدا على فشل استنساخ النموذج الغربي؟ فهل نُطالب بإعادة استنساخ اعتمادا على تقنيات أكثر تطورا؟ أم علينا البحث عن نموذج جديد متمايز أو مختلف؟ و قد نتطلع إلى أقصى الشرق ونستلهم من التجربة اليابانية أو الصينية؟ لكن علينا تحديد مكمن الخلل أولا.
الدولة الوطنية النشأة والتطورات
الدولة الوطنية أو القومية أو القطرية، أو الدولة الأمة. كلها مسميات لشكل التنظيم السياسي الذي تبلور تاريخيا منذ سنة 1648، وهي السنة التي شهدت فيها أوروبا اتفاقية مصيرية بين الدول المتصارعة، أفرزت تقسيما وتخطيطا للحدود والاعتراف بالسيادة،  فتكتلت الشعوب على أسس عرقية ولغوية وجغرافية ضمن كيانات لها هوية مخصوصة، ورغم أن هذا الشكل من الدولة كان سائدا قبل هذه الاتفاقية، كالدولة الفرنسية  أو الهولندية أو الاسبانية...، فإن معاهدة وستفاليا Westphalia كانت الميلاد الحقيقي للدولة الوطنية، حيث السيادة للقانون وللمؤسسات كضامن للهوية الجماعية، ولسيادة الدولة واستقلاليتها. لقد وضعت هذه الاتفاقية نهاية للإمبراطورية الرومانية المقدسة، أي للنظام الإقطاعي الذي سيطر في أوروبا لزمن طويل، كما أنهت حرب الثلاثين عاما بين الطوائف الدينية والتكوينات السياسية المتناحرة، واستبدلت النظام السياسي القائم على هيمنة بعض الدول على أخرى بنظام يتأسس على مبدأ المساواة في السيادة؛ فبقدر ما رسخت معاهدة وستفاليا مبدأ السيادة للدول، بقدر ما دشنت مرحلة جديدة في العلاقات الدولية داخل القارة؛ صارت سلطة الدولة مستقلة عن التأثيرات الخارجية إلى حد كبير، كما أصبحت موحدة وأراضيها معروفة لدى جيرانها، بذلك انتقلت الدول إلى حل مشاكلها الداخلية وبناء دولة تتحقق فيها العدالة الاجتماعية و الرفاه، بعد أن تم حل جزء كبير من المشاكل الخارجية. انقسمت أوروبا سياسيا وعقديا كذلك بين البروتستانتية والكاثوليكية، لكنه الانقسام الذي سيقلص دور الكنيسة ويضعف سلطتها لاحقا، وصولا إلى نزع ممتلكاتها، بل إلى معاداة الدين جملة وتفصيلا كما شهدت ذلك أزمنة التنوير الأوروبية. أصبحت إذن الشرعية السياسية للدول مستمدة من تمثيلها أمة أو قومية مستقلة ذات سيادة، إنها الكيان الجيوسياسي وأيضا الكيان الإثني الثقافي، حيث يتحقق التوافق بين الجغرافي والسياسي والعرقي الثقافي، لتتفرد الدولة الوطنية أو الدولة الأمة أو القومية بقدرتها على تحقيق تماثل وتطابق الشعب مع الكيان السياسي، في هذه الدولة بدأت عملية إعادة الاعتبار للشعوب، هذه الأخيرة تتحدد كساكنة وكمجموعة عرقية وثقافية وفي الآن ذاته كقوة سياسية وازنة داخل الدولة، فكفت الأنظمة الحاكمة على اختلاف أشكالها عن النظر إلى الناس كرعايا، كما أن الناس كفوا عن النظر إلى السلطة على أنها مطلقة أو مقدسة. إن التطورات التي شهدتها أوروبا بعد هذه المعاهدة، على المستوى السياسي تنظيرا  وتطبيقا، هي التي أفرزت ما أفرزت من تصورات حديثة للدولة الديمقراطية المدنية.
   تراوح التنظير لقيام الدولة الحديثة بين الأصل الأخلاقي العضوي كما عند هيجل و الهجيليين، والأصل الطبيعي وحالة الطبيعة كما عند الكثير من فلاسفة العقد الاجتماعي، وبين أسس الهيمنة كما تشبثت بذلك الماركسية؛ فاعتبرت الدولة ظاهرة  قانونية تجسد ما هو سياسي حينا، و نظاما للهيمنة أو آلة تخترق الثقافي وتنفذ إلى أعماقه حينا آخر، مما يدل على استمرارية نقد الدولة الحديثة، ضمن حركة فكرية نشطة ودائمة تسعى إلى تحقيق كمال الدولة نظريا. ولعل كتابات هانس كلسن Hans Kelsen ، التي يعتبر فيها أن التنظير السياسي جزء أصيل من الآلة الإيديولوجية للدولة[1] ، دليل على نقد النظرية السياسية للدولة الحديثة، بل نجد إعلان يورغن هابرماس لما بعد الدولة الأمة في جوهره نقدا للأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة؛ حيث يميز بين الأمة العرقية الاجتماعية والأمة الأخلاقية السياسية، أي التقابل بين المكون العرقي للدولة الحديثة والمكون السياسي الإجرائي؛ حيث تتماها الدولة مع الأمة في المكون الأول، وتتطابق في المكون الثاني مع مبدأ المواطنة الشاملة، من هنا يتولد الانفصام الذي تعيشه الدولة الليبرالية الحديثة، التي يمكن اعتبارها النتيجة غير المباشرة لمعاهدة 1648، إذ انتقلت الدولة بموجبها من كونها جابية للضرائب، إلى دولة إقليمية ذات سيادة وصولا إلى تشَكلها كدولة ديمقراطية، هذا بالذات ما ولد التفكير في حقيقة العلاقة بين الهوية القومية للدولة وهويتها الديمقراطية، وفي ماهية الترابط بين المنظومة الديمقراطية ونموذج الدولة الأمة. افرز هذا التفكير في العلاقة بين الهوية القومية والدولة الليبرالية الحديثة جملة من المواقف المتباينة، أولها اتجاه تشبث بمبدأ القومية و بمناهضة العولمة دفاعا عن حصن الهوية الخصوصية للأمة، وعن فكرة المواطنة الجمهورية بوصفها التجسيد الوحيد للديمقراطية، والتعبير عن الاختيار الجماعي المشترك، ويعتبر الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبري Régis Debray من اكبر المدافعين على الجمهورية بحسبانها التجسيد الأوحد الممكن لقيم الليبرالية. في تمايز عن هذا الطرح،  وقف الاتجاه الثاني على الخلل الذي شاب التصور الحديث للنظام الديمقراطي، المتمثل في طمس الهويات والثقافات المخصوصة، كما دافع عن مبدأ تحقق حيادية الدولة بالتعويل على قدرتها البيروقراطية، لإدارة الاختلافات القيمية ضمن بنيتها الإجرائية، ومن ثمة استبدال الحقوق الجماعية والثقافية بالحقوق السياسية، دون نفي الفضاءات الثقافية الخصوصية باسم الكيان القومي، نجد هذا الموقف عند الفيلسوف الكندي شارلز تايلور Charles Taylor ، وإلى حد ما لدى الأمريكي جون رولز John Rawls. أما الاتجاه الثالث فيعلن نهاية الدولة القومية، باعتبارها مرحلة تاريخية عابرة، شكلت عائقا أمام الديمقراطية الحقة، بما أنها قائمة على فكرة السيادة التي تفضي ضرورة إلى التسلط والهيمنة، وما يلزم ذلك من نفي للاختلاف باسم مبدأ تعاقدي وهمي. وباختفاء الدولة القومية يتشكل نظام الإمبراطورية كفضاء منفتح لا مركز له ولا هامش مما يزيد من إمكانية تحرر الإنسان، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الايطالي انطونيو نغري Antonio Negri  والأمريكي مايكل هاردت  Michael Hardt.
   ليست العلاقة ضرورية بين القومية والديمقراطية في تصور هابرماس Habermas ، رغم أن العامل القومي شكل تاريخيا دفعة قوية مهدت للنظام التعاقدي الديمقراطي، لكن معيار الديمقراطية ليس تغلغلها في هوية قومية، وإنما قيامها على أساس تعاقد حر بين أفراد ينظمون حياتهم الجماعية، بناء على قواعد تنظيمية إجرائية تضمن لهم العدالة. بل إن الأزمنة المعاصرة تتجه نحو مبدأ المواطنة الدستورية الملائمة لفكرة الشراكة الكونية العابرة للحدود السياسية والوطنية، سواء عبر الفضاءات المندمجة كالاتحاد الأوروبي، أو المجالات التكاملية الدولية التي تحتاج إلى أخلاقيات الضيافة الإنسانية المفتوحة؛ لأن الأساس المعياري للديمقراطية حسب هابرماس هو الفعل التواصلي ، أي النشاط الذي تحكمه فاعلية حوارية اجتماعية تتخذ شكل عقلنة مفتوحة وأخلاقيات النقاش. هذا النموذج الهابرماسي مختلف عن التصور الليبرالي والجمهوري، رغم أن الفيلسوف الألماني يحافظ على النموذج التعاقدي الليبرالي ويعيد بناءه فلسفيا من خلال نظريته في التواصل، ويرى في نموذجه هذا القدرة على استيعاب الاختلافات والتعددية الثقافية والاجتماعية، دون فقدان الإجرائية والفاعلية التي تفرض ذاتها كلما فكرنا في الدولة عموما وفي الدولة الوطنية أو الحديثة خصوصا. فهل يمكن فعلا للدولة الليبرالية احتواء الصراعات الناتجة عن تمايز وتغاير الهويات؟ وهل يمكن فعلا التعويل على أخلاقيات النقاش والحوار والتواصل لتحقيق الانسجام بين المكونات المختلفة داخل الدولة الحديثة؟ أم أن الأمر مجرد تصور طوباوي لا سبيل إلى تحقيقه في الواقع؟ و هل الديمقراطية الكونية ممكنة ؟  
   تكشف هذه الأسئلة و مثيلاتها عن صعوبة تحديد الدولة الحديثة وتعريف الدولة الأمة أو الوطنية، تعريفا جامعا مانعا يحولها إلى الدولة النموذجية والمثال الذي ينبغي بناؤه أو استنساخه، فرغم التعريفات المتنوعة و التلوينات المصطلحية التي طرأت على مفهوم الدولة عبر تاريخه، يظل قائما على مضمون ثابت لا يتغير رغم تغير شكله، يجد هذا المضمون أفضل تعبيراته في تحديد السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر M. Weber، الذي وضح المكونات الجوهرية لكل تنظيم يسمى دولة بغض النظر عن شكله أو نوع نظام حكمه، والدولة الحديثة في تصوره شكل خاص من فئة التجمعات السياسية الأكثر عمومية، يمكن تعيين آليات اشتغالها فيما يلي: احتكار العنف، الأراضي والحدود، السيادة، الدستورية، لا تشخيصية القوة، البيروقراطية العامة، السلطة والشرعية، المواطنة[2]. تظل هذه الآليات جوهرية في كل كيان سياسي يسمى دولة، رغم النقد الذي تعرض له تصور فيبر لاحقا، إذ لا يستقيم تعريف الدولة الحديثة أو الوطنية إلا باستحضار أكثر من آلية من هذه الآلية، إن تم التغاضي عن الأخرى أو تحقيق نقدها الجذري، بل يعود بعضها بقوة أكبر حين يتناول الفكر الدولة الوطنية بالتنظير؛ فتؤدي الأراضي والحدود ضرورة إلى السيادة، وهما معا يصلان قسرا إلى المواطنة والهوية الجماعية، هذه الأخيرة تختزل بشكل أو بآخر مفهوم الدولة الحديثة في صيغتها الوطنية أو القومية، يتضح هذا الاختزال في تعريف تلك الهوية على النحو الموالي: " الهوية الوطنية في معناها الحديث الأكثر تميزا هي الهوية المستمدة من الانتماء إلى شعب سمته الأساسية كونه أمة ... ومن ثمة ينظر إلى الساكنة على أنها كل متجانس، وهذا مبدأ أساسي في كل القوميات."، تربط المنظرة السياسية المعاصرة Liah Greenfield[3]  في تعريفها هذا بين الوطنية والقومية، لكنها تكشف في الآن ذاته عن حقيقة الدولة الحديثة والمعاصرة، فهي إذ تناقش طبيعة القومية تستدعي قاعدة أساسية وهي السيادة، التي ترتد إلى فكرة وجود سلطة نهائية ومطلقة في الجماعة السياسية، الفكرة التي وضع أسسها النظرية الفيلسوف الفرنسي جون بودان Jean Bodin 1530- 1596 ، والذين جاؤوا بعده للتفكير في أسس الدولة الحديثة والتنظير لها. في السيادة تتكشف علاقة الشعب بالسلطة، و علاقة هذه الأخيرة بالقانون وبالمجتمع الدولي، هنا مرة أخرى يفرض البعد الوطني القومي نفسه بقوة؛ فرغم أن ميلاد الدولة الحديثة تاريخيا كان خلال القرن الثامن عشر، إلا أن الحركية التراكمية للتاريخ تعود إلى قرنين سابقين، وتدفع نحو مجاوزة هذا النموذج لما يطرحه من إحراجات ومفارقات، كما تستدعي القراءات النقدية التي قام بها السوسيولوجي البريطاني أنطوني غدنز Anthony Giddens ، حيث بين في كتابه " الدولة الوطنية والعنف" العلاقة بين تطور الرأسمالية و صناعة الحرب، كسياق قاد الدولة الوطنية في الغرب إلى إنشاء وتطوير الجانب الصناعي والعسكري، ذلك ما جعل الدول الوطنية مجرد جزء داخل نسق شمولي، هو النظام العالمي المتمثل في فرض السيادة والرأسمالية والنزعة الصناعية و نسقية الدولة، وهو الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى نزعة كليانية مبنية على المراقبة والعنف، كما تغيرت دلالات جملة من المفاهيم السياسية في ظل هذه التحولات النظرية والواقعية للدولة؛ ومفهوم النخبة من بين تلك التي تغيرت دلالتها في نظر غدنز، إذ أصبح يشير إلى الفئات التي تتصدر أي نوع من أنواع النشاط الاجتماعي، مما جعلها محصورة ضمن مجال نشاطها أو تواجدها، أي أنها لا تتولى ممارسة السلطة بل توكلها إلى نخبة أخرى تمكنها من تحقيق مصالحها، وهذه هي نخبة الدولة التي تمارس السلطة بانقسامها إلى نخب فرعية ) الحكومة، الإدارة، الجيش، البرلمان، هيأة القضاء...(. " يفترض تعريف الدولة جهازا إداريا و تراتبية وظيفية متخصصة في المهام الإدارية بما في ذلك  الفنون الحربية"[4]، غير أن هذا السوسيولوجي لا يقف عند حدود تعريف الدولة، بل ذهب إلى التمييز في مفهوم الأمة nation  بين مفهومي النزعة القومية nationalism  و الدولة الأمة nation state ؛ تشير هذه الأخيرة إلى جماعة توجد ضمن حدود إقليمية واضحة  وتخضع لإدارة موحدة، بينما الأولى في تصور غدنز، مجرد  تعبير سيكولوجي في المقام الأول عن انتماء الفرد إلى الرموز و المعتقدات التي تؤكد الروابط بين أعضاء نظام سياسي، أو بين أولئك الذين يطمحون إلى تشكيل نظام سياسي على حد تعبيره .
يُطلعنا النقاش حول الدولة الوطنية على تداخل بين مفاهيم عدة أولا، و على ترابط الدولة الوطنية بمفهوم الشعب ثانيا، و على ارتباطها بمفهوم الدولة الحديثة أخيرا. تتداخل مفاهيم الوطنية و القومية و الأمة في تعريف الدولة الحديثة، مما يكشف الوظيفية الجوهرية لمفهوم الشعب، و في نفس الوقت يفرض استحضار مفهومي النخبة و الإدارة، باعتبارهما متعالقين مع هذا المفهوم، كما أن كل دولة حديثة لا يمكن الإقرار إلا بكونها وطنية و قومية و تتخذ شكل أمة، فلابد إذن من إعادة النظر في بداية تشكل الدولة الوطنية بما هي دولة حديثة، هذه الأخيرة التي تصعد بأصلها إلى ما بين القرنين العاشر  و الثالث عشر، ذلك ما ذهب إليه جوزيف شتراير  Joseph Strayer 1904- 1987 في كتابه " الأصول الوسيطة للدولة الحديثة"، يقول في هذا السياق: " وهكذا فخلال القرون الممتدة من عام 1000 إلى العام 1300 ، شهدنا ظهور بعض العناصر الأساسية للدولة الحديثة. إن كيانات سياسية، قد أنشئ كل منها على قواعد جغرافية و عرقية، حصلت على شرعيتها ببقائها حية خلال عدة أجيال."[5] ، لقد عرفت أوروبا العديد من التراكمات منذ العصور الوسطى مهدت لقيام الدولة الحديثة، حيث كان للهويات الجغرافية و العرقية دور كبير في تشكل الدول، كما شهدت هذه العصور ميلاد و تبلور الإدارة التي بدأت تحتل مكانة بارزة داخل التنظيم السياسي؛ فمنذ الأنظمة الإقطاعية و الاكليروسية في أوروبا، بدأت الحكومات تعتمد على الموظفين في إدارة الأملاك و الإدارات المحلية و في إدارة العدل، كما عملت على تنسيق عمل المكلفين بمهمات داخل الدولة، من قضاة و جباة و أساقفة و بارونات الذين كان الحفاظ على النظام الداخلي و الأمن الخارجي من مسؤولياتهم، لتتأسس بذلك تراتبية صارمة و هرمية منظمة تنظيما محكما، جعلت من الدولة كيان قويا و أكثر تماسكا و فعالية مع مرور الوقت، فظهرت إلى الوجود مؤسسات قضائية و مالية دائمة، و هيئات من الإداريين المحترفين الذين تحولوا مع التحولات التاريخية، التي شهدتها أوروبا إلى قوة ضاغطة و مسيطرة على دواليب الحكم. أصبحت الإدارة عنصرا أساسيا من عناصر البنية الدولتية خلال القرنين الثاني عشر و الثالث عشر، لكنها شهدت تطورا سريعا في انجلترا و فرنسا و اسبانيا خاصة[6]، أما في ألمانيا فقد أبطأ تطورها حكم الإمارات المتمسك بالتقليد أكثر من تمسكه بالتجديد، كما أن إيطاليا و رغم ازدهارها خلال القرن الرابع عشر فإنها ظلت مجرد حواضر- دول، و لم يكن بالإمكان تطبيق تجربتها على نطاق أوسع، مثلما فعلت الممالك الكبيرة، و إذا ظل تأثير الممالك الاسبانية ضعيفا على مؤسسات باقي أوروبا، إلى حدود القرن الخامس عشر بسبب انشغالها بإسقاط الحكم العربي الإسلامي، فإن التجربة الانجليزية و الفرنسية كانتا أكثر تأثيرا على الدولة الأوروبية، فصارت الأفكار السياسية مؤسسات هذين البلدين نموذجا للمحاكاة، خاصة مع نهاية القرن الثالث عشر و بداية القرن الرابع عشر، و هي الفترة الذي ظهر فيها مفهوم السيادة، و بدأ انتقل الولاء من الكنيسة و العائلة و الجماعة إلى الدولة، في انجلترا مثلا تطورت الإدارة و اكتسب بعضها فعالية و شعبية، كما هو حال المحكمة الملكية بداية من سنة 1215 للميلاد، حيث تمسك البارونات بضرورة إقامة محكمة مركزية دائمة، و على نفس الشاكلة تطورت الدواوين و تسارع معها تطور الدوائر العليا للسلطة، أصبحت المؤسسات الانجليزية قائمة بقوة و صارت الحكومة قادرة على العمل دون تدخل كبير من العرش، فانجلترا تملك منذ سنة 1200 مؤسسات دائمة يسيرها إداريون محترفون[7]، و تحولت التنظيمات الإدارية إلى وسيلة لتقوية السلطة، التي أصبحت مخولة لتنظيم العدالة و فرض الضرائب، كانت قرارات الملك و مجلسه ملزمة مثل قرارات الأباطرة الرومان. في فرنسا كان نموذج الدولة أكثر تقدما، فقد كان تقسيم الدولة إلى مقاطعات عوض الإمارات إجراء فعالا، لذلك اتبعت الدول الأوروبية في نهاية العصر الوسيط و بداية العصر الحديث النموذج الفرنسي، الذي اضطر الملوك مع مر الزمن إلى إنشاء بيروقراطية لحكم الإدارة الإقليمية، و هي البيروقراطية التي شهدت نهوضا سريعا خلال تكون الدولة الفرنسية. غير أن المهم من هذه الحركة التطورية هو تحول الولاء إلى الدولة، هذه الأخيرة تكون قوية كلما أخلص لها الرعايا، فكان الولاء تجسيدا مسبقا للوطنية، و ازدهرت الدولة الأوروبية بمؤسساتها التي أصبحت أكثر تلاحما و ديمومة، خلافا للإمبراطوريات الآسيوية التي امتدت من تركيا إلى الصين، و اليابان مرورا بفارس التي اتجهت نحو الضعف و التفكك[8]. في القرن التاسع عشر أصبحت الدول أكثر تنظيما من السابق، و طفت على السطح الصلة الوثيقة بين الدولة و الأمة، كما احتلت القومية مكانة مركزية في تشكل الدولة. كانت اتفاقية وستفاليا تتويجا لمسار بناء شهدته أوروبا منذ القرن الثاني عشر و الثالث عشر، و مع تلك التحولات أصبح للشعب مدلول عرقي و جغرافي، و هو المدلول الذي ظل سائدا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى مع معاهدة سايكس بيكو، التي قسمت الإمبراطورية العثمانية انطلاقا من نفس المحددات العرقية و الجغرافية، و في بعض الأحيان محددات ثقافية و تاريخية.
   لا بد من الوقوف بعمق على العلاقة الممكنة بين الدولة الوطنية و الشرعية، و على الكيفية التي تحولت بها هذه الأخيرة إلى يد الأمة، التي تتحدد أساسا في الفكر الغربي عامة و الأوروبي خاصة، بالأبعاد العرقية و الجغرافية الثقافية؛ أمة الفرك مختلفة عن الأمة الجرمانية أو اللاتينية أو السلافية ...، و هو اختلاف لا يقتصر على العرق فقط، بل يطال اللغة و المذهب الديني، و ليست خافية التقسيمات التي شهدتها أوروبا بناء على المذهب، و الحروب الطاحنة التي اجتاحت القارة لنفس السبب، و ينضاف العامل الجغرافي ليقسم الأمة الواحدة إلى كيانات متمايزة؛ هناك مثلا سلاف غربيون و شرقيون و جنوبيون، وقس على ذلك باقي الأمم، ساعدت هذه التمايزات على ولادة مفهوم الجنسية، لتنتقل معه الشرعية من الحاكم إلى الأمة بما أنها التعبير الأوضح عن انتماء الفرد إلى الجماعة السياسية، و عن خصوصيات الشعوب و هوياتها المتباينة، كما مَكْن المفهوم من تجاوز المُحدد الديني في الانتماء إلى الدولة، لليهودي و المسيحي و المسلم أو اللاديني نفس الحقوق و الواجبات، مادام تحديد الجنسية رهينا بالمواطنة التي تحددها القوانين و المواثيق و الدساتير، و بالتالي ارتدت المواطنة إلى محدد جغرافي لغوي، تميزت بفضله الهويات الوطنية متجاوزة كل الأنماط الحكم الفردية أو الأرستقراطية أو القبيلية أو الدينية، كما تمت الاستعاضة بالأنساق الدستورية عن الحكومات العسكرية، للحد من تغلل القوة في الدولة و قصر الشرعية على الأمة بما ملها من هوية وطنية، من هنا تحددت السيادة الوطنية بناء على هذه الهوية، التي ارتبطت في معظم الأحوال بأحداث تاريخية مخصوصة، تقاطعت الدولة مع المحددات الوطنية؛ الثقافة و العادات و الهوية التاريخية...، لقد حدث تطور لمفهوم الوطنية في أوروبا الغربية حتى في ظل حكم الملوك، في حين تأخر في دول أوروبا الشرقية و الشرق عامة، حيث  حكمت الإمبراطوريات شعوبا مختلفة، لم تستطع تطوير و التعبير عن هوياتها الوطنية بعد تفكك الإمبراطوريات، ذلك هو شأن الحكومات الإسلامية التي تأسست على عناصر لاهوتية منعت من انبجاس الحس الوطني، أما أجزاء أخرى من العالم فإما إنها لم تمتلك بنية الدولة، أو لم تشهد حكوماتها استقرارا لمدة طويلة، أو لم تعرف تطورا للمجتمع المدني، وفي مرحلة لاحقة ابْتلعت تلك الشعوب و الدول من طرف الإمبراطوريات الكولنيالية الأوروبية[9]، التي وضعت الحدود بينها مما أظهر إلى الوجود الأمم الحالية، التي بدأت في التشكل منذ نهاية الحرب العالمية الأولى و ما بعدها. لكن الدولة الأمة بوصفها دولة حديثة، كانت مضطرة لاحتواء الهويات المختلفة لغوية كانت أو دينية أو غيرها، مع أن أجزاء من العالم شهدت انقسام الدول على نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، كما حدث في الهند التي تجزأت لأسباب دينية؛ جزء يحوي الهندوس و السيخ و آخر يضم المسلمين، بل ما زال النزاع قائما داخل الدول و المطالبة بالانفصال سارية المفعول إلى يومنا هذا، في اسبانيا كما في بريطانيا و فرنسا، مما اضطر الدولة الحديثة إلى تقبل و احتواء الأقليات و  تعدد الهويات حفاظا على تماسكها، روسيا الحالية تضم عشرات الجمهوريات الإثنية، أما بريطانيا فتضم انجلترا و الويلز و اسكتلندا و ايرلندا الشمالية، وهي عرقيات تعتبر لنفسها هويتها الخاصة المستقلة، بل كان المحدد العرقي و الديني وراء أكثر الحروب الأهلية دموية خلال القرن الماضي و إلى اليوم؛ بداية بالهوتو و التوتسي في رواندا، مرورا بالبسنة و الهرسك، وصولا إلى نمور التاميل في سيريلانكا ، بل نجد في الأزمة البورمية نموذجا لعجز الدولة الحديثة عن دمج الأقليات الدينية و العرقية، حيث تواجه الحكومة المركزية  الأقلية المسيحية من الكارين و المسلمة من الروهينجا، من هنا يعاود سؤال الهوية و الوطنية طرح نفسه بقوة، إذ توجد  الكثير من الدول الإفريقية مثلا التي تضم تنوعا عرقيا ولغويا كبيرا، اضطرت لتبني لغة الدول التي احتلتها كلغة رسمية في الإدارة و التعليم، فانحصرت الوطنية لديها في البرلمان كمؤسسة تعبر عن تجاوز الاختلاف العرقي و اللغوي و الثقافي، ذلك شأن بعض الأخرى التي استنسخت التجربة البرلمانية الأوروبية، لكنها شكلت برلماناتها بإرادات نخبوية  مثل تركيا سنة 1876 و إيران سنة 1907 و مصر سنة 1923، كما شهدت ضعف المجتمع المدني، مما أدى إلى إضعاف تلك البرلمانات و استمرار المؤسسات التقليدية في إدارة دواليب الحكم. مع ترسيخ مؤسسة البرلمان أصبح للدستور وظيفة جوهرية في إقامة الدولٌةٌ، فو ضعت دساتير باسم الإيديولوجيات امبريالية أو لاهوتية أو الشيوعية أو فاشية...، في الدول العربية فبدأت تترعرع منذ سنة 1911 حركة تدعو إلى إنشاء دولة واحدة على أساس الهوية الثقافية و التاريخية، الهدف الذي حاول الملك فيصل ابن حسين تحقيقه بإقامة مملكة سوريا العظمى سنة 1920، قبل تفكك الإمبراطورية العثمانية، لكن تقسيم معاهدة سايكس بيكو جعلت من فيصل ملكا على العراق فقط، و أدت إلى محو الحركة القومية العربية و ظهور الدول العربية المستقلة و الخاضعة لحكم الفرد أو الأولغارشية[10].
   اتخذت في هذا السياق قضية الشرعية مسارا جديدا و أصبحت أكثر ارتباطا بالدستور، لتتخذ الحكومات شرعيتها وصفتها الوطنية من هذا الأخير،  كما أنها تعبير عن إرادة الأمة و ممارسة للسلطة تحفظ مصالحها العليا، و تحدد واجبات و حقوق المواطنين بما يضمن تنظيم العلاقات بينهم وفقا للقانون، من هنا تتخذ الحكومة المنتخبة و البرلمان شرعيتهما، حيث الحكم للقانون و المؤسسات. لكن يولد هذا النمط من تسيير الشأن العام إلى تجزيء السلطة و تفتتها، حيث يغدو تعدد الأحزاب و اختلاف القوى الفاعلة في المجال السياسي، سمة بارزة من سمات الدولة الوطنية الحديثة، التي تحاول احتواء كل مكوناتها الاجتماعية و الثقافية المتباينة، و بالتالي تتحول الممارسة السياسية إلى صراع بين البرامج الانتخابية، و سباق من أجل الأصوات، أي تصبح القوى الفاعلة مهتجسة بإقناع المواطنين، مما يجعل للشعب سلطة حقيقية شريطة استقلال المؤسسات عن التأثيرات الداخلية أو الخارجية، و إلا اختُزلت العملية السياسية في وظيفة أداتية، و في محتويات دعائية لا تتحقق معها الدولة الوطنية الحديثة كما تقدمها التصورات النظرية. لم تعد السلطة في الدولة الوطنية مرتبطة بالأشخاص أو بالفئات،   و إنما صارت متصلة بالمؤسسات و القوانين المصدر الوحيد للشرعية، التي ترتد إلى الإرادة العامة كسلطة حقيقية للشعب داخل الدولة، و عليه لا بد من تداول السلطة وفق القواعد و المبادئ الديمقراطية، بما أن غاياتها النهائية هي العدالة الاجتماعية و تحقيق التقدم و الرفاه لجميع المواطنين، بما يحفظ حقوقهم وكرامتهم، و يؤطر في الآن ذاته واجباتهم إزاء بعضهم البعض من جهة، وبينهم و بين الدولة من جهة أخرى، لذلك يلعب المجتمع المدني دورا حيويا في دولة مماثلة، علما ان تشكله قطع أشواطا طويلة عبر التاريخ، مسايرة لتطور مفهوم المواطنة الذي أصبح أكثر عمومية، إذ أصبح يشمل كل المواطنين البالغين، بغض النظر عن الدين أو اللغة أو العرق أو الجنس، إلا أن العالم المعاصر مليء بالأنظمة السياسية التي تحكم الدول لا على هذه الأسس التي تستمد الشرعية من سلطة الشعب، إذ نجد الأنظمة الكليانية باسم الشيوعية أو القومية أو النزعات الحربية العسكرية، كما نجد أنظمة تنبني على الشرعية التاريخية للسلالات الحاكمة، و الحال أن نماذج الدولة الوطنية الحديثة يبني السلطة على المؤسسات و المجتمع المدني.
التلقي العربي لمفهوم الدولة الوطنية
شأن الكثير من المفاهيم السياسية الحديثة، تلقى الفكر العربي الحديث مفهوم الدولة الوطنية في سياق تاريخي ولد صدمة حضارية للمجتمعات العربية الإسلامية يمكن اختزالها في السؤال النهضوي: لماذا تقدم الغرب و تأخر المسلمون؟ . أفرز هذا السؤال أجوبة و أطروحات متباينة و مختلفة، باختلاف الانتماءات المذهبية و المرجعيات الفكرية لكل تيار على حدة، و من ثمة اختلف التعامل مع المفاهيم التي لم تستورد بقدر ما فُرضت على المفكرين العرب، الذين وجد الكثير منهم سر قوة الغرب في نظام الدولة، بينما أوعزوا تخلف بلدانهم و الشرق عموما، إلى تخلف أنظمتها السياسية. " وراء قوة الغرب تنظيم معين للدولة: أصبحت هذه حقيقة عند مفكري الإصلاح المسلمين. إن سر تفوق الغرب يرجع في نظرهم أساسا إلى نظام الدولة فيه. و بالمقابل، فإن تخلف بلدانهم، و الشرق عموما، يعود إلى تخلف نظامه السياسي"[11] ، أصل المشكلة إذن في نظام السلطة في بلدان تواجه تهديدا خارجيا، حمل الحل بين طياته عناصر دفاعية، لتبدأ حركة فكرية تنافح عن الإسلام تبرئه من الاستبداد،فهذا الأخير مرفوض في النظرية السياسية الإسلامية، و لا يمكن الحكم على الإسلام بحال المسلمين. كانت العودة إلى فلسفة مقاصد الشريعة عند الإصلاحيين السلفيين أول خطوات إحياء نظرية الإسلام في الحكم، عودة إلى القصد من الشريعة للانطلاق نحو تأويل النصوص الشرعية بما يتوافق مع متطلبات الظروف و مستجداتها، فصار الاهتمام أوسع بمجال المعاملات و بالمصلحة، و بما أن غاية الشريعة في الحكم هي إعمار الأرض و إحلال العدل، فكما وجد قدماء المفكرين في الإسلام نماذجا عند الفرس و اليونان، كان أمام المحدثين منهم النموذج الأوروبي للدولة التي تهدف لنفس غايات الشريعة، أي تحقيق العدل كشرط لازدهار العمران، فحين يصف الطهطاوي المساواة في فرنسا يقول: " و لقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، و هي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، و تقدمهم في الآداب الحضارية "[12]، لهذا السبب بحث بعض النهضويين عما يماثل المفاهيم السياسية الأوروبية؛ فصارت الديمقراطية شورى، و نواب الأمة أهل حل و عقد، و مراقبة السلطة التنفيذية حسبة، مما أدى إلى إغفال تكامل الدولة الوطنية الحديثة كنظرية و كجهاز، و انصب البحث عما ينبغي أن تكون عليه السلطة وفق الإطار الإسلامي، كعملية إصلاحية للدولة التقليدية فرضها الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية، " إن الدولة القومية التي تعرف عليها المسلمون، كانت ممثلة في دول مهددة لهم منذ بداية التدخل الأوروبي الحديث في البلاد الإسلامية."[13]. لم يكن للإصلاحات التي أدخلت إلى العالم الإسلامي أساس اجتماعي تقوم عليه، بل كانت مفروضة من طرف المحتل، أو بفعل ضغطه على النخب الحاكمة، فاكتسب مفهوم الدولة الوطنية في هذا السياق مدلولا مختلفا عن أصله و منبعه، شأنه في ذلك شأن باقي المفاهيم، مما جعل الفكر السياسي العربي منفصلا عن الحركة الاجتماعية في تلك البلاد، و منحصرا في ثنائية الاستبداد و العدل، أي الحكم الجائر الظالم، و الحكم المقيد بالشريعة، هذا التقسيم الخلدوني لأصناف الملك كان نبراس الكثير من الإصلاحيين العرب، الذين واجهوا مشكلات جديدة تتعلق بإحداث جيش عصري، و فرض ضرائب جديدة تغذي خزينة الدولة من أجل تحقيق الإصلاحات، و سداد الديون الخارجية.  لكن أكبر مشكلة واجهتهم كانت بتر المفاهيم السياسية من سياقاتها التاريخية و الاجتماعية، بما في ذلك مفهوم الدولة الوطنية الذي تبلور في البلاد الأوروبية ضمن سياقات خاصة، مختلفة عن نظيراتها في البلاد العربية الإسلامية، التي حاولت نخبها بناء الدولة لجبه الاحتلال من جهة، و تحقيق الإصلاح بالقضاء على الاستبداد من جهة أخرى، أي انه بناء تأسس على هاجس الخروج من الانحطاط الذي تعانيه تلك البلاد، و هو الهاجس الذي ظهر منذ أواخر القرن الثامن عشر، فرغم المواجهة بين المسلمين و أوروبا الصليبية قديمة، فإن مقارنة أحوالهم بالأوروبيين لم تكن واردة، و لا الاعتراف بتفوقهم كان ممكنا، أما دعاة الإصلاح على اختلاف مذاهبهم فكانوا مجبرين على النهل من النظم الغربية، ليُقر بعضهم بذلك و يصرح به ، بينما اجتهد البعض في تبريره  بمبررات متنوعة، و في جميع الأحوال كانت القوة المادية للأوربيين سبب تفوقهم، و طوق نجاة للبلاد الإسلامية؛ و مادام سر القوة المادية هو تنظيم الدولة، فلابد من بناء هذه الأخيرة على شاكلة الغرب. ظل تنظيم السلطة السبب الرئيس في تأرجح الفكر العربي خلال القرن التاسع عشر  و العشرين، بين ثنائيات التقدم و التأخر، و التمدن و الانحطاط، لتصبح الحاجة ماسة لتجديد جهاز الدولة و إعادة النظر في طبيعة سلطتها. ارتبط الإصلاح إذن بما هو سياسي أساسا، و سر الخروج من غياهب الانحطاط إصلاح للمؤسسات التي تدير المجتمع، و تقوم بتدبير الشأن العام. لكن استنساخ النموذج الغربي اقتصر على الجوانب الشكلية، لأنه غيب التاريخ الاجتماعي و الاقتصادي لهذا الغرب، لذلك كانت الدولة الوطنية التي تصورها المفكرون العرب نموذجا غربيا منتزعا من سياقاته، لترتكز الدعوة إلى الإصلاح السياسي على ضرورة إقامة الدستور، اقتداء بالنماذج الأوروبية، و كان ذلك أولوية عند الحركات الوطنية في البلاد العربية، لكنها الأولوية التي فرضتها المطالبة بالاستقلال، فبواسطة الدستور ارتبطت الأمة بالوطن و بالقوانين، و لأن مفهوم الأمة في الفكر العربي الإسلامي مختلف عنه في السياق الأوروبي، تولدت جدالات واسعة من ذاك الارتباط؛ الأمة عند المفكرين المسلمين تتجاوز المحددات العرقية أو الجغرافية أو الثقافية، و أن ما يحددها هو العنصر الديني؛ فبدأت الحركة الوطنية في البلاد العربي تعبر عن نفسها كمطالب قومية داخل الخلافة العثمانية، تسعى إلى تحقيق اللامركزية في إدارة الدولة، و تمكين الفرد العربي من إدارة بلاده بلغته إلى جانب اللغة التركية، إضافة إلى مطالبتها بتحويل الخلافة إلى ملكية دستورية، علما أن البعض من تلك الحركات الوطنية العربية تمسك بإنشاء جامعة إسلامية، لا تتطابق ضرورة مع نظام الخلافة العثماني. لكن ضعف الخلافة العثمانية عجل في تطور تلك الحركات، التي أصبحت لها مطالب تتعلق بالاستقلال الوطني، أي الارتباط بوطن مخصوص له حدود معين. بدأ التراجع عن المفهوم الكلاسيكي للأمة، التي يكون قانونها هو الشريعة، و ترعرع مفهوم الأمة التي ترتبط بوطن و تتخذ من الدستور قانونا، أي الشعب المتميز بخصوصياته و هوياته التاريخية و اللسانية و الجغرافية، و في نفس الوقت تشترك مع غيرها عنصرا دينيا و تاريخيا. ظهرت الحدود و مفهوم التراب الوطني، و صار الارتباط أقوى بالقوانين الوضعية عوض مثيلاتها الشرعية، و بينما تمسك الليبراليون العرب بتحديد السياسة على أساس الوطنية و المنفعة، لم تجد  السلفيات الوطنية تعارضا بين الانتساب إلى الدولة و إلى الأمة في الآن ذاته، و لا تناقضا بين الشريعة و الدستور، و الرابطة العقائدية للأمة لا تنافي الرابطة القانونية للدولة. أما بعض السلفيات الأخرى فرفضت هذا التوفيق، " كالأفغاني الذي يقطع برفض كل قانون يخالف شريعتها – الديانة الإسلامية- ..."[14] .  نفس الرفض عرض لمفهوم الجنسية لأن المسلمين لا جنسية لهم إلا في دينهم و اعتقادهم، أما اللبراليون فكان دفاعهم عن مبادئ المدنية في السياسة و الاجتماع قويا. لكن السجالات بين الفريقين لم تكن خارج تأثير الاحتلال، و الدولة الوطنية العربية بما لها من حدود ترابية كانت نتيجة للتقسيم الذي فرضته الدول الكولنيالية، أي أن هذه الدولة لم تتولد و تتطور نتيجة لدينامية اجتماعية داخلية، بقدر ما كانت خارجية و في ظروف قهرية، إضافة إلى إقحام تنظيماتها بشكل جزئي، و انصب الاهتمام على إصلاح أجهزة بعينها، فكان الجيش أول الأجهزة التي حظيت بالأولوية، كما حدث في تركيا و مصر ثم تونس، لتعمم التجربة على باقي الدول الإسلامية، غير أن إصلاح الجيش لم يكن ممكنا دون إصلاح نظام الدولة، بما أن هذا الجهاز جزء من جهاز متكامل، أي يفترض إصلاحه إصلاح القطاعات الحيوية الأخرى، كنظام التعليم  و النظام الضريبي، لكن فرض ضرائب جديدة على السكان جاء بنتائج معاكسة للإصلاح، لتشتعل ثورات و انتفاضات شعبية في عدد من البلدان، مثلما هو حال تونس في ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 الذي لُقب بباي الشعب[15]، و ثورة الدباغين بفاس سنة 1873، حيث كانت مطالب الناس و الفقهاء هي العودة إلى الضرائب القديمة، أي الضرائب الشرعية. لم تكن هذه النتائج السلبية مقصورة على الاضطرابات الداخلية، بل فُرض على الدول في البلاد العربية في تكوين جيوشها صياغة مفهوم المواطنة، بناءا على مفهوم التراب الوطني، من أجل زرع القيم التحفيزية للدفاع عن حدود الوطن؛ " ها نحن نرى إذن أن إصلاح الجيش، هو ما اضطرت إليه البلاد الإسلامية مع بدايات التدخل الأوروبي، طرح مباشرة ضرورة وجود دولة بمعناها الحديث".[16]
   أفضى الإقحام الجزئي لأجهزة الدولة الحديثة، في البلاد العربية الإسلامية بفعل ضغط الاحتلال، إلى اختزلاها في أداة لمراقبة تلك البلاد و استغلالها من طرف المحتل، ذلك ما جعل الفكر العربي متأرجحا بين موقفين كبيرين، أولهما ليبرالي لم يراع السياقات الاجتماعية و التاريخية للمفاهيم التي تشبث بها، و ثانيهما سلفي ظل متشبثا بمرجعياته الدينية في التعامل مع تلك المفاهيم، سواء برفضها جملة و تفصيلا، أو بإعادة النظر فيها وفق مقتضيات التأويل. لا يشد مفهوم الدولة الوطنية عن هذا التأرجح، كان يعزو قيام مثل هذه الدولة في البلاد العربية الإسلامية، و جود مفهوم آخر و هو المجتمع المدني، الذي يمكنه  تحريرها من التبعية محققا استقلالها، لكن المجتمع المدني تحول في ظروف الاحتلال و شروطه إلى أداة أخرى للسيطرة و التحكم؛ خرجت إلى الوجود تحت شعارات الحرية و التسامح، مطالب بحقوق الأقليات الدينية و العرقية، كانت غايتها تفكيك الدولة العثمانية، أو لتكريس تواجد نفوذ الدولة المُحتلة و حماية مصالحها. مثال ذلك، الحملة الدولية بقيادة فرنسا و انجلترا بعد الحرب الاسبانية المغربية سنة 1859، المعروفة بحرب تطوان، و كان شعارها: الحرية و المساواة المدنية، أجبرت السلطان المغربي محمد الرابع على استصدار ظهير فبراير 1864، و ضغطت فيما بعد على الحسن الأول فيما يخص حقوق الأقليات اليهودية في المغرب[17]. لم يكن من اليسير احتواء المفاهيم السياسية الغربية، خاصة و أن المجتمعات العربية الإسلامية مسكونة بالتاريخ؛ وقفت مفاهيم تراثية في وجه نظيراتها المفروضة من طرف المحتل، مُمثلة الاعتراض النظري و العملي على محددات الدولة الوطنية الحديثة، كما تمت بلورتها في أوروبا خلال الأزمنة الحديثة؛ من تلك المحددات  التي وجدت عوائق أمام تنزيلها، مفهوم الوطن و المواطنة، إذ يصده مفهوم دار الإسلام أي الوطن الذي يتحدد عقائديا، و ليس عرقيا او جغرافيا. عول العثمانيون على إحياء هذا المفهوم من خلال اتخاذهم لقب الخلافة رسميا بداية من سنة 1774[18]. لكن سرعان ما ظهرت أصوات في العالم الإسلامي تنكر عليهم لقب الخلافة، لأن هذا اللقب يفترض القرشية، و سرعان ما تفككت الدولة العثمانية، و ظهرت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى معجلة بانمحاء مفهوم دار الإسلام. لكن ظلت المراهنة قوية على الهوية الدينية منطلقا للنخب العربية، من أجل بناء دولة وطنية، خاصة و أنها الهوية التي اعتمدت عليها حركات مقاومة الاحتلال، لتنشأ حركات وطنية إسلامية كالحركة القادرية في الجزائر، أو السنوسية في ليبيا، التي أصبحت وجها لوجه مع قوات الاحتلال، بعد فقدان دعم الدولة العثمانية لانشغالها بحرب البلقان 1912- 1913، فرغم أن سياسة السلطان عبد الحميد الثاني 1878- 1909 الإسلامية التوحيدية، كانت وراء دعم الشعوب المسلمة للعثمانيين في صراعهم مع بريطانيا و فرنسا، فإن القوى الاستعمارية الأوروبية استطاعت إنشاء دويلات القناصل منذ القرن التاسع عشر، قسمت الشعب و السلطة بناءا على العرقيات و الجغرافيا، مما فسح المجال أمام الأقليات و فتح الباب لمشاريع بديلة تدعم الأقليات الدينية، مثل المشروع الصهيوني. مثلت اتفاقية القسطنطينية بين الفرنسيين و البريطانيين و الروس سنة 1915 ، تقسيما للأراضي العثمانية الواقعة في الجزء الأوروبي و في أسيا الصغرى، بينما كانت اتفاقية سايكس- بيكو الثنائية بين البريطانيين و الفرنسيين سنة 1916 تقسيما لأراضيها العربية، فكان التمسك بالقومية لبناء الدولة الوطنية مفروضا من طرف تلك القوى التوسعية، و لم تنتجه سيرورة تاريخية اجتماعية كما حدث في أوروبا؛ فكانت الوعود البريطانية للشرف حسين بدولة عربية مستقلة، مواجهة بين القومية العربية و التركية و إضعافا لوحدة و انسجام السلطة المركزية للدولة العثمانية. بإزالة نظام الخلافة و السلطنة مع مصطفى كمال أتاتورك، انحصر صراع الدولة من أجل الأجزاء الأوروبية حول اسطنبول و الأنضول، لإبعاد اليونانيين و الحفاظ على وحدة تركيا، فخلا الفضاء للبريطانيين  و الفرنسيين في البلاد العربية، التي فقدت الصلة مع الدولة التركية بعد إزالة نظام الخلافة، فأتخذ النضال ضد الامبريالية الغربية في عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي، شكل حركات تحرر و استقلال وطنية أكثر من كونها عقدية دينية، مع أنها لم تخل من العناصر العقدية الدينية، لكنها قامت على مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، "هذا المبدأ الذي حول العصبيات و النزعات و الأقليات و الإثنيات المحلية و الإقليمية إلى قوميات و شعوب و أمم"[19]. اكتملت عناصر بناء الدولة القومية في أوروبا، فصار الترابط بين العرق و اللغة و الموطن أو الأرض المحددة للقومية، وتم نقل هذا الترابط إلى البلاد العربية دون أن تكتمل عناصره، كما كانت سياسة الانتداب و الحماية التي انتهجتها الدول الاستعمارية، سببا مباشرا في إعاقة قيام دولة وطنية قومية أصلية في تلك البلاد.
   تجسد قلق العرب على مصيرهم إزاء الدولة العثمانية، في سياسة التتريك التي سادت عهد الاتحاد و الازدهار مما دفع مفكرا مثل عبد الرحمن الكواكبي إلى نقد استبداد الحكم العثماني، و جعل العرب يعقدون مؤتمر  باريس عام 1913 ، للتعبير عن رفض المركزية التركية، لكن ذلك القلق ساهم أيضا في توضيح التقسيمة العرقية في الإسلام؛ العرب و الفرس و الترك، هؤلاء هم الذين طوروا الحضارة في صيغتها الإسلامية، لكن النزعة القومية تنامت في الدول العربية، إذ أصبح العرب أوصياء جددا على الدين الإسلامي، ورغم التعاون بينهم في أقاطر مختلفة، فإنهم كانوا ميالين إلى العمل المنفرد من أجل التحرر و الاستقلال، ثم التوحد بعد ذلك، فوصلت في نهاية مطافها إلى الجامعة العربية سنة 1943 . جاءت فكرة الوحدة العربية كرد فعل ضد التقسيمات التي وضعها الأوروبيون بعد اقتسام إرث الرجل المريض، و كبديل للتقسيمات و الأقليات المصطنعة، مزاوجا بين فكرة الأمة الجماعة القديمة، و فكرة الدولة القومية أو الوطنية الجديدة. لكن فكرة الوحدة بدأت تفقد بريقها منذ ستينيات القرن العشرين، حين اشتد صراع الحرب الباردة، فسيطرت على الوعي العربي فكرة التوازن الدولي، وضرورة التحديث و العلمنة و الديمقراطية قبل الوحدة. فإما التسليم بالتبعية و الهيمنة، أو اعتبارهما تهديدا للوجود العربي السياسي و الإنساني، بين هذين الموقفين تأرجح الفكر العربي الحديث و المعاصر، في مسألة بناء الدولة خلال الاحتلال الأجنبي و بعده. شهدت عشرينيات القرن الماضي ظهور السلطات الوطنية، التي جعلت مهمتها الأساسية هي الإصلاح، حيث اتخذ هذا الأخير صيغة  إسلامية مثلتها الحركات السلفية، كاشفا عن علاقة الفقيه بالسلطة السياسية، و عن ضرورة جبه الزحف الغربي على البلاد الإسلامية،  الذي لا يمكن إيقافه إلا بدولة عصرية قوية، ذلك ما لا يمكن تحقيقه إلا بفصل نخب الدولة من رجالات الفقه، و بتمييز التعليم المدني عن التعليم الديني، و بوضع قانون مدني وإنشاء كيانات وطنية خاصة على نهج الدولة الأمة الأوروبية القومية، تجسد هذا الفصل بين الدولة و الدين أولا في تركيا سنة 1924 ، فأصبح بإمكان رجل السياسة تجاوز المرجعيات الشرعية. غير أن العنصر الديني ظل حاضرا بصور متعددة في المشاريع الإصلاحية العربية، و ظل الخوف على الهوية الإسلامية وراء إنتاج عدد من المفكرين، فيما أعلن البعض الآخر عن إفلاس النموذج الديني في الحكم. تزامن ظهور الدولة الوطنية في البلاد العربية، مع ميلاد الإسلام الحربي، متمثلا في نموذجه الأكثر وضوحا، و هو جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر، و انتشر فكرها في باقي الدول، فورثت الدولة الوطنية العربية نموذجين للسلطة؛ نموذج الحكم الكولنيالي و نموذج الدولة السلطانية الموروث، حدث دمج النموذجين في الدولة الوطنية العربية الحديثة و المعاصرة، وظل التحديث سطحيا و مزيفا، كما ظل الاستبداد مستشريا باستمرار التقاليد السلطانية، رغم اختلاف هياكل السلطة و مضامينها؛ سواء أكانت نظم ملكية أو جمهورية وراثية عسكرية أو شبه عسكرية، أو كانت قبلية طائفية، مما يعني فشل الدولة الوطنية العربية، وقصورها عن تحقيق مجال سياسي مستقل عن الهياكل التقليدية. " و الوجه الذي نعني، هنا، هو فشل نموذج الدولة الوطنية الذي قام في البلاد العربية ، الحديثة و المعاصرة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، و عجزه عن بناء حياة سياسية عصرية شرعية و مستقلة..."[20]، لم يتغلغل التحديث في مختلف بنيات المجتمعات العربية، و بقي سطحيا رغم وضع الدساتير و إقامة البرلمانات و الأحزاب، إذ استمرت جميعها في النهل من العناصر العصبية و الإقليمية و الدينية و المذهبية، فلم ينشأ وعي وطني مبني على تجربة متأصلة، بقد ما ظل متشبثا بالعصبيات و التقاليد. صارت الدولة إذن حديثة في هيكلها و شكلها، و سلطانية في جوهرها و مضمونها، تحولت بذلك إلى مجال لإعادة إنتاج التقليد في حلة جديدة، و وسيلة لتبرير الاستبداد السياسي و الفساد الإداري، أي أن هذه الدولة لم تُمثل المجال السياسي الذي تحكمه القوانين و قواعد المواطنة، بل اختُزلت في أجهزة و رموز منفصلة عن القوى الاجتماعية الفاعلة، التي بدأ بعضها بعبر عن المطالب السياسية بشعارات دينية، وجدت انتشارا بين الشعوب و طعمت نزعات الإسلام السياسي. حلت فكرة الثورة في الوعي العربي، عوض فكرة الإصلاح و التغيير التدريجي، فلم تكن كل الحركات الاحتجاجية إسلامية المنزع، بل كان للاشتراكية نصيب كبير في تحريك الاحتجاج العربي، ذلك هو حال ستينيات و سبعينيات القرن العشرين، هذه الظروف جعلت الدولة الوطنية العربية في مواجهة العنف، سواء في صيغته الإسلامية أو الاشتراكية الثورية؛ يرى المنتسبون للأولى أن الدولة الوطنية دولة كافرة، و ومحاربتها واجب شرعي، بينما وجد فيها المنتسبون للثانية تجسيدا للرأسمالية المتوحشة، و محاربتها واجب اجتماعي و تاريخي. حتى الحركات الإسلامية التي تحالفت مع السلطة دليل على سطوة الديني و قدرته على صياغة السياسي . ولدت الدولة الوطنية العربية ولادة قيصرية، ولم يترسخ في الوعي السياسي العربي مفهوم المواطنة، لدى النخب كما لدى الشعوب، خاصة بعد إخفاق كل الحركات الاحتجاجية، و زيادة نجاح الاستبداد في البلاد العربية.
   تعرض مفهوم الدولة الوطنية شأن باقي المفاهيم السياسية، إلى إطار نظري مفرغ من محتوياته، كما اتخذ مسارات تختلف جذريا عن تلك التي تولد فيها، لذلك اختلف التعامل مع المفهوم في الفكر العربي السياسي، باختلاف المذاهب و المرجعيات؛ فبينما رفضه البعض لتعارضه مع الأطر النظرية للسياسة الشرعية، حاول البعض الآخر تبييئه استنادا إلى القاعدة المقاصدية، أما فريق آخر فوجد في الدولة الوطنية الوصفة العلاجية لعلل المجتمعات العربية الإسلامية. طال الجدال بين دعاة الأصالة و المتحمسين للحداثة، من أجل التأصيل لممارسة سياسية عربية يمكنها انتشال المجتمعات من تخلفها  و انكسارها. لكنها جدالات لم تنعكس على الواقع العملي للسياسيين، و لا على الواقع اليومي للشعوب، فهذه الأخيرة لا ترى في الدولة أكثر من سلطة متعالية و مطلقة لا تكترث لمواقفهم و آرائهم و احتياجاتهم، في تسييرها و تدبيرها للشأن العام، فبينما تحصل النخب الحاكمة على جنسيات مزدوجة، يحلم أفراج الشعب بوطن بديل طريقه المفتوح هو الهجرة. وصل الإنسان العربي إلى درجة احتقار ذاته وتمجيد غيره الأوروبي، الغير الذي جسد العدالة و الرفاه الاجتماعيين.
 الإصلاح و الدولة الوطنية
  احتل مفهوم الإصلاح مساحة شاسعة في الفكر السياسي العربي، لذلك كانت تيارات النهضة في مواجهة سؤال الذات و الآخر، السؤال الذي تردد في خطابات التيارات الثلاثة الكبرى في النهضة العربية الحديثة، أي الإصلاحية الدينية  و العلمية العلمانية، و الليبرالية السياسية؛ بدأ الأفغاني الإصلاح الديني  ليواجه بفكره الاحتلال الخارجي، و الاستبداد الداخلي في الآن ذاته، ثم اتخذ الإصلاح مع محمد عبده، و تلامذة الأفغاني: مصطفى كمال و محمد فريد و سعد زغلول، صيغته الوطنية التي واجهت الاستبداد التركي من جهة، و حاربت الاحتلال البريطاني من جهة أخرى، لكن لقي المشروع الوطني معارضة لاحقا من طرف مفكرين أمثال رشيد رضا، الذي رأى في الوطنية مخاطر العلمانية وتقليد الغرب    والفرنجة، كما هو الحال في تركيا بعد الثورة الكمالية سنة 1924 ، فتوقف المشروع الإصلاحي بدوافعه الوطنية مع حركة الإخوان المسلمين، التي عادت إلى المفاهيم التقليدية؛ " ولعدم تطوير الحركة الإصلاحية و توقفها تحولت – حركة الإخوان- إلى حركة سلفية ومنها خرجت الجماعات الإسلامية المعاصرة"[21]. أما الفكر العلمي العلماني فانطلق مع شبلي الشميل و فرح انطون بجعلهما من فكرة الإصلاح محورا لتحقيق النهضة، ذلك من خلال تبني المهج العلمي و الإعلاء من شأن الفكر العلمي، في حين مثل للفكر الليبرالي السياسي رفاعة الطهطاوي، الذي وضع موضوعات جديدة للفكر الوطني، تتعلق بالدستور و الحر  و المساواة، و الحديث عن الزراعة و الصناعة و التعليم، من أجل بناء الدولة الحديثة، و صار التأكيد على مفهوم الوطنية كما عند لطفي السيد. لكن سرعان ما ارتكس مشروع الإصلاح، و تحولت الدولة من أداة تكوين إلى وسيلة للقهر، كما تحولت النخبة من بانية للدولة الوطنية، إلى مجرد فئة موظفين لدى الأنظمة السياسية، و من طبقة تقاوم الاحتلال الأجنبي، إلى مجموعة عملاء يقومون بخدمة مصالح القوى الكبرى، و مصالحهم الخاصة، و وجه أخر للاستبداد من خلال إعادة إنتاجه في صيغ جديدة، سواء باسم القومية أو الاشتراكية أو ليبرالية .
   ارتبط بناء الدولة الوطنية في البلاد العربية بمفهوم الإصلاح، و ذلك للأسباب التي سبقت الإشارة إليها، فرغم أن الحركة الإصلاحية بدأت التفكير في إصلاح الدين، برد الإسلام الاجتماعي إلى الإسلام المعياري، فإن مسألة التحديث كخطوة من خطوات الإصلاح، فرضت نفسها رغم الجدل الفقهي الذي أثارته في بدايتها، فلم يأبه أحد لمقولة علم الكفار، بل أصبحت كل أسباب القوة مطلوبة لبناء الدولة الحديثة؛ في مصر كما في المغرب و غيرهما من الأقطار العربية، كان الإصلاح وسيلة لبناء الدولة الوطنية، لذلك توجه نحو الجيش أولا و التعليم ثم الإدارة. كانت هزيمة الجيوش العربية أمام الغرات الأوربيين دافعا قويا للتحديث العسكري، إذ انكشف الضعف في التسليح و التنظيم. لم يجد الجيش الفرنسي صعوبة في سحق الجيش المغربي الذي كان تجهيزه تقليديا و تنظيمه ضعيفا،  بمعركة إسلي سنة 1844، ، كذلك الشأن بالنسبة للبريطانيين في مصر، الذين احتلوا القاهرة بعد هزيمة قوات محمد عرابي في التل الكبير سنة 1882، لم يكن الفرنسيون أكثر شجاعة من المغاربة، و لا كان البريطانيون أكثر جسارة من المصريين، ولكنهم كانوا أفضل منهم تسليحا و تنظيما و تدريبا. لكن الجيش يحتاج إلى عقيدة مثلما يحتاج إلى السلاح و العتاد و التنظيم، من هنا لابد من إصلاح نظام التعليم لتربية الشعب على قيم محددة، تجعل أفراده مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل وطنهم، لا مفر إذن من ترسيخ المبادئ الوطنية بواسطة النظام التعليمي، فهذا الأخير قاعدة البناء التي تشيد على صرحها دولة قوية و متطورة. عنى الإصلاح ضمن الدولة الوطنية توجها نحو الغير، و محاولة النهل من تجربته، بينما عنى لقدماء المسلمين العودة إلى الذات، و التنقيب في التاريخ عن حلول التخلف   و وسائل للتقدم، انتصب أمام المحدثين منهم إذن، رهان بناء وعي وطني من خلال جيش و تعليم واقتصاد يخدم المصلحة الوطنية، التي اعتبرت مصلحة عليا لا يمكن تغافلها أو استبدالها، إذ إلى جانب القوة العسكرية التي صدمت الجيوش العربية، وقفت قوة اقتصادية أخضعت أنظمة الحكم، قبل و أثناء و بعد الاحتلال. " فمنذ بداية العشرينيات من القرن التاسع عشر أخذ الرأسمال التجاري الفرنسي يفرض وجوده و شروطه على الدولة التونسية و يخضعها إلى سياسة استغلالية مرهقة"[22] . سواء في الإيالات العثمانية أو في الدول المستقلة عن الإمبراطورية، كان الخضوع العسكري و الاقتصادي سيد المواقف، حتى المغرب وقع تحت نير الاقتراض و تراكم الفوائد، فبعد أن تصدت الجيوش المغربية للغزو المسيحي و العثماني منذ السعديين، انهزمت قي عقر دارها و خضعت لسيطرة القوى الاستعمارية الكبرى. " لا شك إذن أن المغرب أصبح منذئذ عرضة لقوتها أيضا بل و لقوة غيرها من الدول الأوروبية التي ستتسرع إلى اغتنام الفرصة السانحة"[23]، لقد فرضت الهزيمة العسكرية ضرورة إصلاح الجيش، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بإصلاحات شاملة تعم كل القطاعات الحيوية في الدولة.
  لعب المحدد العرقي دورا جوهريا في بزوغ إرهاصات الوطنية في البلاد العربية، في مصر مثلا كان رفض الضباط المصريين للميز العنصري الذي مارسته السلطات العثمانية، حين احتفظت بالمناصب العليا للأتراك و الشركس، و منحتهم الترقيات و الحوافز، و راء قيام مطالب بالمساواة أولا، ثم تطورت لتصبح حركة وطنية تتحدد بهويتها الخاصة و المستقلة لاحقا. توالت المطالب بالاستقلال عن الحكم العثماني، الذي اضطر بدوره إلى التفكير في الإصلاح، حيث تم وضع الدستور و تشكيل البرلمان سنة 1876، بل وصل الحد مع احتدام الصراع ضد الدول الأوروبية، إلى أزمة داخلية متفاقمة دفعت النخب التركية إلى البحث عن الحل في دولة وطنية، تنبني على القومية و على العلمانية، عوض الدولة الإمبراطورية و نظام الخلافة. لقد كان إصلاح الجيش و التعليم و الاقتصاد و الإدارة مشاريع الإمبراطورية، بداية من سنة 1839 حيث أقر الفرمان السلطاني بالمساواة بين جميع الأفراد بغض النظر عن ديانتهم، غير أن هذا الإصلاح ظل مجرد مشروع و لم يتم تفعيله، أما مرسوم 1856 فكان متميزا في تاريخ الإمبراطورية، إذ هدف الإصلاح بحسبه إلى تكوين هوية جماعية توحد جميع سكان الإمبراطورية، و الانفتاح على القيم الغربية و التجرد من التعاليم الدينية، مما يمكن من التصدي للمطالب الإثنية الانفصالية. من الطبيعي أن تتأثر مصر بصفتها ولاية عثمانية بمجموع الإصلاحات التي حدثت في المركز، و على نفس الخطى سار المصريون نحو بناء دولة وطنية من خلال الإصلاحات، التي يجب إن تطال القطاعات الحيوية في الدولة؛ مثل فيها إصلاح الجيش نقطة الانطلاق، لكن مع تشكيل هوية وطنية خاصة متميزة عن هوية المركز، هوية قومية تختلف عن الهوية التركية أو الشركسية، فلم يكن لهذه الحركة إلا أن تصطدم مع الدولة العثمانية؛ كانت حروب الشام الأولى بين 1831 و 1833 دليلا على استقلال مصر، و الانفصال الجزئي عن نظم الحكم الدينية المتمثلة في الخلافة، من هنا  تحولت صور الولاءات و اتخذت أبعادا قومية تتجاوز المحدد الديني. ارتبطت القومية بالبعد الجغرافي بداية مع محاولة محمد علي باشا بناء حدود لدولة مستقلة، و التي تمتد إلى الشام و السودان. لكن سرعان ما تم التعويل أكثر على المحدد اللغوي العرقي، لتسطع فكرة الأمة العربية معلنة بداية الثورات التحررية، خاصة و أن ثلة من المفكرين العرب الناقمين على الاستبداد العثماني استقرت بمصر، مثلما هو حال عبد الرحمن الكواكبي، و رفيق العظم صاحب كتاب: الجامعة العثمانية و العصبية التركية أو التأليف بين الترك و العرب، لهذا العنوان دلالته في علاقة الدولة الوطنية بالعصبية العرقية، إذ ظلت هذه الأخيرة عنصرا ثاويا في الممارسة السياسية الإسلامية، بل و الغربية كذلك .
   ما كان المغرب الأقصى بعيدا عن اضطرابات القرن التاسع عشر، القرن الذي يمكن وصفه في العالم العربي الإسلامي، قرن إصلاحات اضطرارية فرضها السياق الكولنيالي؛ تعرض المغرب إلى ضغوطات كبيرة من طرف القوى الاستعمارية الأوروبية، التي كشفت جيوشها عن ضعف الجيش المغربي، و وهن النظام السياسي القائم في البلاد. دفعت هذه الظروف السلطان المغربي عبد الرحمن بن هشام، و ابنه محمد بن عبد الرحمن إلى التفكير في إصلاحات مماثلة لما حدث في المشرق، فكانت البداية من الجيش كالعادة، و حاول السلطان المغربي تأسيس جيش وطني يعوض قبائل كيش الوداية و جيش عبيد البخاري، يكون قادرا على الدفاع عن الثغور المغربية. لكن خلافا لدول المشرق لم يكن أساس الوعي الوطني نتيجة لتصادم عرقيات مختلفة، بل كانت قائمة منذ زمن بعيد على القبلية و على محددات تاريخية، أكثر من انبنائها على المحددات العرقية، إذ كانت لأنظمة الحكم في المغرب شرعية تاريخية- دينية، تمكنت من تحديد مجالها الجغرافي المستقل عن الإمبراطورية العثمانية و غيرها من الإمبراطوريات القوية. غير أن القرن التاسع عشر قلب الأوضاع في المغرب، إذ خضع السلطان لإملاءات الدول الاستعمارية، لتبدأ المواجهة بينه وبين الفقهاء، الذين جعلوا البيعة مشروطة بتحرير البلاد من الاحتلال؛ كان لدى المغاربة إذن هوية وطنية مؤسسة على الجغرافي و التاريخي، أكثر من أي شيء آخر، و إن كان للعنصر الديني نصيب في تحديد هذه الهوية. أكبر التحديات التي عرفها المغرب حينئذ، أثناء بناء الهوية الوطنية، الاحتلال الاسباني لسبتة و مليلية و المناطق الجنوبية، و الفرنسي لباقي المناطق، مع تحويل طنجة إلى منطقة دولية. لم يعن هذا الاحتلال اقتطاعا لأجزاء من الوطن المغربي، بل كانت كذلك محاولة لاقتطاع الهوية التاريخية، من خلال الغزو الثقافي الذي حرصت تلك القوى على تحقيقه، لكن يقظة النخب خلال تلك الفترة التي انفتحت على نهضة أوروبا و مبتكراتها، حرصت على حماية الهوية الوطنية. " و من الواقع أن مجموعة من النخبة المغربية بدأت تنفتح على عدد من مبتكرات هذه النهضة، و بالضبط على المنجزات التي لا تصادم الأخلاق و الأعراف الوطنية، و لا تعصف باستقلال البلاد"[24] . باشرت  النظام الحاكم و النخب، مجموعة من الإصلاحات للحفاظ على الدولة المخزنية، التي تتحدد بهوية وطنية تاريخية، فكانت هذه الأخيرة مصدرا لشرعية النظام الحاكم، و الحفاظ عليها حفاظ على السلطة نفسها؛ صار للدولة المغربية غاية الحفاظ على هويتها، مع الانفتاح على المنجزات الأوروبية، و كذلك من التحولات في الشرق، خاصة بعد إرسال السفراء إلى أوروبا،           و الرحالة إلى الشرق، فاجتهدت الدولة في الاقتباس من الحضارة الغربية، وتجسدت اجتهادها رسميا في مبادرة السلطانين، محمد الرابع، و الحسن الأول، لتحديث النظام العسكري، و إرسال البعثات إلى أوروبا. ليست غاية هذا التوجه نحو الغرب، سوى خطوة نحو بناء دولة وطنية مستقلة، لكن الإصلاح قاد إلى  الوقوع تحت الاحتلال الأجنبي، و هذا الأخير سيعمل على محو الهوية الوطنية، إلا أن سؤالا يفرض نفسه ضمن هذا السياق: كيف يمكن الحديث عن حس وطني، في دولة مخزنية قبلية؟
   تبلور الحس الوطني في المغرب ضمن شروط مختلفة لما ساد في المشرق، و في باقي دول شمال إفريقيا، كانت هذه الظروف منطلقا لبعض المؤرخين من أجل إنكار وجود روح وطنية، في مغرب القرن التاسع عشر، ذلك ما نجده عند الفرنسي اندري لوبلون André Leblanc ، الذي اعتبر المغرب خلال تلك الفترة، مجرد خليط مضطرب من القبائل تنعدم لديها فكرة الوطنية، " إن المجتمع المغربي ما هو إلا خليط مضطرب من القبائل... تنعدم لديها فكرة الوطنية بقدر ما تنعدم الطاعة لرئيس مشترك...الاروبيون وحدهم هم الذين خلقوا وهم مملكة مغربية..." [25] ، بينما وجد البعض الآخر بدايتها مع تأسيس جمعية لسان المغرب السرية، بين 1907 و 1908، " و كل ما نعلمه أن هناك جماعة من الشباب الناهض... كانوا يقومون على جمعية سرية لتنوير أذهان المغاربة، و مقاومة الاحتلال الأجنبي... و من جهة أخرى فقد كانت فئة من المشايخ ترمي للمشاركة في وضع انقلاب مغربي...بعضها كان يستمد قوته من رجال الدولة العثمانية، و بعضها من الدول المستعمرة، و كانت هذه الفئة تلاقي معاكسة من الوطنيين أنفسهم و من بعض المصلحين السلفيين"[26]. يبرز هذا المقتطف أن الحركة الوطنية في المغرب كانت متميزة في توجهاتها و مرجعياتها، عن مواقف شيوخ القبائل من جهة، و عن مرجعيات الإصلاحية السلفية، و أنها حركة بدأت بالسرية في عملها و نضالها. لكن يعترض جرمان عياش، على ربط بداية الحركة الوطنية ببداية القرن العشرين، إذ يمكن الصعود بنشأة الروح الوطنية في المغرب، إلى القرن الخامس عشر إبان مواجهة الاحتلال البرتغالي و الاسباني، حيث وقفت انتفاضات القوى الشعبية في وهج الغزاة. " فإن الانتفاضات التي قامت بها القوى الشعبية هي وحدها التي مكنت المغاربة من عدم التعرض للإبادة، كما حدث بالنسبة لبعض الشعوب الأمريكية"[27]. لقد كانت أربعة قرون من الكفاح ضد نفس الغزاة كافية لإذكاء الروح الوطنية عند المغاربة، و كانت عاملا لوحدة الشعب المعنوية، رغم غياب المقومات المعاصرة التي تحكمت في نشـأة الأمم. لكنها أصبحت أكثر تأججا في القرن التاسع عشر، في ظل مواجهة الاحتلال، و رغم انبنائها على أسس دينية و عقدية، فإنها رسخت شعورا وطنيا و أقامت حمية و وعي وطنيين، ظهرا في صيغتهما الأكثر اكتمالا في القرن العشرين. يمكن القول إن المغرب خلافا للمشرق، بدأ الإصلاح من أجل الحفاظ على الدولة الوطنية و تطويرها، بينما باشره المشرق من اجل بنائها، إضافة إلى انبنائه في هذا الأخير على المحدد العرقي أكثر، بينما اتخذت صيغة مخزنية في الأول، وتحققت وحدة بين الحركة الوطنية و المؤسسة الملكية، في مطلبهما المشترك، أي المطالبة بالاستقلال، لتتخذ العلاقة تلك مسارات جديدة بعد الحصول عليه.
   استمر الإصلاح في العالم العربي الإسلامي زمنا طويلا، و لم تكن غايته شيئا آخر سوى الوصول إلى الدولة الوطنية, غير أن محددات هذه الأخيرة كما تبلورت في الغرب، لم تتناسب كليا مع مكونات هذا العالم، بل شكلت نموذجية الدولة الأوروبية عائقا أمام اكتمال الإصلاحات، و تحقيق غايتها المتمثلة في الاستقلال، و الخروج من حالة الهوان و التبعية التي ترزح تحتها؛ انضافت مصاريف الإصلاح إلى ضرائب الحرب الثقيلة المفروضة من طرف المنتصرين، فأنتجت ارتفاعا مهولا في المديونية الخارجية، و بالتالي انضافت التبعية الاقتصادية للتبعية السياسية و العسكرية. حتى إصلاح الجيش كان تكريسا لحالة التبعية تلك، إذ لا تعني الاستعانة بالعدو التاريخي لتدريب الجيش و تسليحه، اعترافا بتفوق هذا العدو فقط، بل تعني أيضا تمكينه من معلومات و معطيات، يفترض أن تكون محاطة بالسرية. سنة 1882 مثلا، أرسلت البعثة العسكرية الفرنسية إلى وزارة الدفاع الفرنسية بباريس، تقريرا مفصلا حول عدد الجيش المغربي، ونوع عتاده و أسلحته[28]. إن إصلاح الجيش في المغرب كما في غيره من البلاد العربية، هو لب الإصلاحات و جوهرها. لكن عوض أن يساهم إصلاح الجيش في بناء قوة الدولة العسكرية، من أجل بناء و الحفاظ على دولة وطنية، باقتصادها و إدارتها و تعليمها و قيمها، أصبح الإصلاح عنوانا للتبعية، و إخفاقا للدولة الوطنية التي تصورتها النخب العربية.
   الدولة الوطنية و مفهوم الشعب
ليس بالإمكان تعريف الدولة الوطنية دون استحضار مفهوم الشعب، و إذا تبينا سالفا، المسارات التي قطعها المفهوم، و حددنا ظروف نشأة و تطور الدولة الوطنية، فإننا نستطيع ملاحظة غياب الأول بمعناه الحقيقي، و صعوبة تحقق الأخيرة فعليا، حين يتعلق الأمر بالمجتمعات العربية الإسلامية. إذ لا يمكن اجتثاث المفاهيم من سياقاتها، و إلا وقعنا في الإسقاطات اللاتاريخية، لأنها تشكلت من داخل الواقع الغربي، بينما كانت واردة من الخارج في واقعنا العربي الإسلامي. لقيام دولة وطنية لابد من وجود شعب موحد، و أراضي محددة و نظام سياسي تتجسد فيهما سيادة الدولة، بما أن هذه الخيرة لا تستمد شرعيتها إلا من الشعب، غير أن وحدة هذا الأخير ليست متجانسة و لا مكتملة، إذ تشهد الكثير من الدول التي اعتبرت نموذجا للديمقراطية، و للدولة الوطنية الحديثة، حركات انفصالية تطالب بالاستقلال عن المركز لنفس الأسباب التي تأسست عليها تلك الدولة، في بداياتها ، أي الخصوصيات العرقية أو اللغوية الثقافية أو التاريخية... لكن العلاقة بين الدولة الوطنية و الشعب في البلاد العربية ملتبسة، بل يصعب الإقرار بوجود علاقة بينهما على غرار البلاد الأوروبية، و لاستجلاء خفايا هذه العلاقة نحصر تفكيرنا في نموذج بعينه، و هو النموذج المغربي. فهل بالإمكان الحديث عن شعب مغربي؟ و إذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف تشكل و تكون؟ و إلا فإن نفي صفة الشعب عن المغاربة، سيؤدي رأسا إلى إنكار وجود دولة وطنية في هذا القطر الإفريقي، فهل يمكننا فعلا اعتبار المغاربة مجرد رعايا، حتى في ظل دولتهم الحديثة، التي يمكن نعتها بالوطنية؟
   كانت الوحدة الروحية منطلقا لتوحيد القبائل المغربية، وهي وحدة امتزجت فيها المنافع المادية بالمثل الدينية و الروحية، وذلك منذ المرابطية، " فلنلاحظ أن المؤرخين أنفسهم اضطروا للاعتراف بهذا النفوذ الروحي و هذه الوحدة الدينية منذ المرابطين، و إلى يومنا هذا."[29]، حيث اكتسب السلاطين قوتهم من هذه الوحدة الروحية، و ظهر نفوذهم السياسي في العلاقة بالقبائل و الزوايا، فأصبحوا السلطة العليا التي توحد بين هذا الأخيرة، و تفض النزاعات التي تنشأ بين بعضها، أصبح توطيد السلام داخل البلاد، مسؤولية السلطان الذي رسخ سلطته السياسية و الإدارية، فأصبحت القبائل أكثر انقيادا له. بما أن الدولة المغربية منذ نشأتها دولة تجارية، فقد كونت إطارا لتنمية النشاط التجاري و ازدهار الاقتصاد، مما احدث شبكة اقتصادية تربط القبائل بالسلطان، فإلى جانب الوحدة السياسية انتصبت وحدة اقتصادية مهمة، لكنها وحدة لم تكن شاملة، لأنها جهوية التفت حول العواصم، و مضطربة من حين لآخر، لأنها كانت ميالة إلى الاستقلال و الانفصال. أدت الوحدة الروحية إلى انتشار اللغة العربية، دون تراجع اللغة الأمازيغية للقبائل الناطقة بها، كما أدت الوحدة الاقتصادية التي نشأت حسب بعض المؤرخين حوالي القرن الثاني عشر، إلى قيام مؤسسات الدولة المغربية، التي حافظت على هياكلها و زادت قوتها، رغم تعاقب القبائل الحاكمة، مما جعل التحولات في بداية قيام الدولة المغربية داخلية، بينما كان العامل الخارجي سببا في وحدتها لاحقا، ليستمر نظام الحكم السلطاني و يمثل سلطة الدولة المركزية، التي يمكن القول أنها تحولت إلى كيان مجرد، تتداوله سلالات حاكمة مبنية على القبلية، و هو الكيان الذي عرف بمسمى " المخزن"، الذي تحددت علاقته بالقبائل كسلطة دينية، بينما ظلت السلطة السياسية الدنيوية في يد القبائل نفسها، و قد ساعدها على ذلك قوتها وتحصنها بالمناطق الوعرة، ناهيك عن حميتها العصبية و روحها القتالية، من هنا كانت الأمة المغربية مكونة من عنصرين أساسيين، لذلك ستستمر العلاقة المتوترة بين الطرفين، التي تجسدت في تقسيم المغرب إلى بلاد المخزن و بلاد السيبة ، التقسيم الاستعماري الفرنسي، الذي برر احتلال البلاد و فرض السيطرة على المخزن، هذا الأخير أصبح عاجزا عن تأمين سلامة المحميين، بسبب تهديد القبائل الهمجية، و بالتالي أظهرت فرنسا نفسها كدولة تسعى إلى الحفاظ على مصالحها و رعاياها، لكنها في الآن نفسه تحافظ على  الأمة المغربية من شر نفسها، غير أن فزاعة السيبة و الفتنة و الاضطراب، تحولت إلى حافز لدى المغاربة لجمع الكلمة و الكفاح ضد المحتل. افرز تطور الأحداث تدريجيا تكاثفا بين سكان البلاد، الذين انتظموا بفضل دولة نشأت مبكرة و ظلت هي نفسها، حتى بزغ الشعور بالإخوة في الجماعة، أو بصيغة أخرى الأخوة في الوطن، التي عبرت عن نفسها بقوة أكبر في الكفاح و مقاومة الاحتلال الأجنبي. لعب التصدي للغزو إذن دورا أساسيا في تشكل الحس الوطني، أي إرهاصات مفهوم الشعب كما تبلور في سياقه الديمقراطي، كمكون جوهري من مكونات الدولة، و القوة السياسية الأولى، إذ استطاع الشعب المغربي أن يشكل قوة سياسية فاعلة، في نضاله من أجل الاستقلال و التحرر. إنها القوة التي تدفع المجتمع إلى امتلاك مصيره و يستوعب القيم الحضارية للشعوب السائدة، في محاولة للحفاظ على الذات و انتزاع الاعتراف. لكن، هل يكفي التكاثف بين السكان الذي يولده التهديد الخارجي، أن يكون أساسا يقوم عليه مفهوم الشعب؟
   يستدعي الحديث عن الشعب المغربي، استحضار العلاقة بين المجالين الحضري و القروي، و تحديد تطور البنية الطبقية بالوقوف على تحولاتها، بين الزمنين الكلاسيكي و الحديث. لقد كانت العلاقة التكاملية كما هو معلوم، عند اليونان بين المجال القروي و الحضري، وراء بناء الديمقراطية الأثينية، و بما أن لهذه العلاقة تأثير عميق في البنيات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، في العالم القديم و في نظم الدول و المجتمعات التقليدية، لا بد من استجلاء حيثياتها و تمفصلاتها داخل المجتمع المغربي. لم يتحقق في هذا الأخير تجانس بين المدن و البوادي، ذلك أن سكان المدينة كانوا أكثر ولاء للنظام السياسي، بحكم قربهم من السلطة المركزية و ممثليها، و استفادتهم من البنية التجارية للدولة، فيما ظلت البوادي على الهامش أقل ولاء لنظام الحكم،على اعتبار بعدها عن طرق التجارة، مما منحها استقلالا اقتصاديا و جعلها منغلقة نسبيا على ذاتها، و لعل ذلك ما يفسر قيام الدول في المغرب على أسس قبيلة، حيث حاولت القبائل السيطرة على التيارات التجارية، و الحصول على الأراضي الجديدة، رغم قيام دعواتها على أصول دينية، ذلك منذ البرغواطيين إلى حدود نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. كانت العلاقة بين المدينة و البادية إذن، محركة للتاريخ السياسي و الاجتماعي للمغرب، طيلة تلك المدة من الزمان، لكنها أفرزت بنية اجتماعية و ثقافية مشتركة، هي ما نعرفه باسم الشعب المغربي. رغم أن المدينة لم تنشأ من داخل البنية القبلية، بل فرضها عامل خارجي متمثل في التجارة، فإنها تحولت تدريجيا إلى مركز تلتف حوله الأرياف و البوادي "و تمثل فاس و مكناس أبرز الأسواق التجارية بالنسبة لشمال المغرب و بربر الأطلس"[30]. شكلت القبائل التي كانت على الهامش المجال القروي، و بينما تمتع التجار في المدينة بظل الحماية السلطانية، ثم في ظل الحماية القنصلية، كانت البوادي رازحة تحت الضرائب و المكوس، هذا ما يبرر عدد من حركات التمرد، كثورة قبائل الشراردة و الوداية و ثورة إبراهيم يسمور اليزكي بتافيلات، ضد السلطان عبد الرحمان بن هشام، أيضا ثورات قبائل آيت عتاب و بني موسى، و قبائل تافيلات، و ثورة بوعزة الهبري ضد السلطان الحسن الأول. في هذه الوضعية كانت وسيلة المخزن للحفاظ على ولاء القبائل هو القوة العسكرية، فكانت حركاته حملات لتأديب المتمردين و القضاء على العصيان، كذلك ظل الحال على عهد السلطان  عبد الحفيظ، الذي واجه ثورة الجلالي الزرهوني. شكلت المدينة على طول تاريخ المغرب المركز الاقتصادي و السياسي  و الروحي، الذي لعبت السيطرة عليه دورا في قيام و سقوط الدول في المغرب. إن مفتاح تلك العلاقة المتوترة بين البادية  و الحاضرة، هو فهم البنية الطبقية داخل المجتمع المغربي، خلال القرن التاسع عشر خاصة؛ لابد من الوقوف على طبقة اجتماعية كانت، بشكل أو بآخر، سببا في الحدود و الفواصل التي تشكلت بين المدينة و البادية، و هي فئة المحميين المعفية من الضرائب و المحتكرة للنشاط الاقتصادي، بل صارت متحكمة في النشاط السياسي ، ساحبة البساط من تحت أقدام الفقهاء، لتصبح وسيلة يضعف بها المحتل الفرنسي سلطة المخزن، و أداة لإقامة نظام إقطاعي قائدي يكرس الاحتلال، و هي نفس الطبقة التي عارضت الحركة الوطنية أثناء نشأتها، من الداخل المغربي. فكيف تكونت الوطنية المغربية؟ و ما هي أصولها الاجتماعية و الثقافية؟ و كيف ساهمت في تكون الشعب المغربي؟ و بما تختلف وحدة الشعب عن وحدة القبيلة؟  و هل تكفي الوحدة من أجل تحرير البلاد لتكوين شعب بمفهومه الحديث و المعاصر؟ و هل يمكن البحث في المكونات الانثروبولوجية ما يوحد بين المغاربة، مما يجعل منهم شعبا؟
  عاشت الفئات المكونة للمجتمع المغربي تحولات في بنيتها، خاصة خلال القرن التاسع عشر مع التدخل الأجنبي، ذلك ما يظهر جليا في تقلص سلطة الفقهاء، و تراجع نفوذ الشرفاء و الزوايا، و لم تعد للخاصة ذلك التأثير العميق في الحياة الاجتماعية و السياسية، و يمكن اعتبار البيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ، آخر تدخل للفقهاء في إدارة الشأن العام بقوة مؤثرة. رغم استمرار الفئات التقليدية في أداء وظائفها، فإن تأثيراتها بدأت بالتراجع مع صعود فئات جديدة، لها مرجعيات مختلفة تماما عن مرجعياتها، لأن النخبة التقليدية دينية في تكوينها لم تتعامل مع المحتل الفرنسي، بينما تعاونت الفئة الجديدة- القديمة بشكل غير مشروط معه، فكانت الوطنية حاضرة عند قاعدة كبيرة من النخبة التقليدية، و غائبة كليا لدى فئة المحميين التي احتلت مكانة مركزية في إدارة البلاد، لأنها انشغلت بتحقيق مصالحها الخاصة، عبر تحقيق مصلحة المحتل. استندت الوطنية المغربية في بدايتها على الثقافة الدينية، و كذلك ظلت إلى حدود القرن العشرين،" اعتمد تكوين الفقهاء في المغرب،على الوفاء لنفس القواعد منذ القرون الأولى للإسلام، لأنها أساسية في الحياة الجماعية؛ خلال القرن التاسع عشر ضاقت مضامين العلوم المدرسة في جامع القرويين، إلى حد أنها لم تشمل إلا الفقه و العلوم اللاحقة به."[31] مثل العلماء أو الفقهاء القوة الناعمة المؤثرة في الواقع السياسي و الاجتماعي، و كانت فاس مركز تجمعهم مما كرس مركزية المدينة، إضافة إلى تمركز الأعيان فيها، أي التجار و أمناء التعاونيات الحرفية، الشيء الذي أفشى روح المدنية بين الأفراد، الروح التي تنامت بوتيرة متسارعة، مولدة شعورا بالانتماء الوطني، و بضرورة الدفاع عن المدن و القرى، ليكون التدخل الأجنبي سببا مباشرا في وحدة الشعب، الذي قامت نخبه بمواجهة الفرنسيين عسكريا و دبلوماسيا، و حافظت على هوية الشعب المغربي. يجد عبد الله العروي في المكونات الثقافية محددا مميزا للشعب المغربي، بدء باللباس و المأكل و المشرب  و المسكن و اللغة...، و أبرز الأمثلة على ذلك الوحدة النقدية التي امتدت عبر التاريخ،" كان للمغرب عملتين، واحدة من فضة،و الأخرى من نحاس"[32]، ميزت هذه العناصر الشعب المغربي عن غيره من شعوب شمال إفريقيا، لكنه مع ذلك ظل مجرد خزان للمحاربين، أو مصدرا للمداخيل الضريبية، و لم يرتقي إلى مرتبة الشعب المؤثر في سياسة البلاد، على غرار الشعوب الأوربية، صحيح أن الحركة الوطنية في بدايتها أشعلت جذوة الوعي الشعبي، و تحرك سكان المدن و البوادي بشكل موحد، فإن الشعب ظل مدفوعا بالوجداني و الروحي أكثر  من اندفاعه بسبب العناصر سياسية. بعد تحالف بعض القبائل ضد المخزن، و ثورته عليها زمنا ليس بالهين، تسبب الاحتلال الفرنسي في توحدهما، حيث ظهرت نخبة مغربية ذات تكوين حديث، و ليس تقليديا شرعيا كما كان عليه مع الفقهاء. في خطاب هؤلاء تردد مفهوم الأمة، الذي امتزجت فيه محددات تاريخية ثقافية إلى جانب المحدد الديني للمفهوم، ذلك ما عبرت عنه بقوة على سبيل المثال لا الحصر، رسالة لمحمد بن عبد القادر الكيلالي الشهير بالكردودي،" سارت في البلاد فورة الألم من الهزيمة... و ألف الكردودي رسالة أسماها( كشف الغمة بأن الحرب النظامية واجب على الأمة)..."[33]. لا يمكن الإقرار سوى بتحقق وحدة الشعب المغربي، في أبرز تجلياتها، مع تردد مفهوم الأمة الذي صار مرادفا لمفهوم الشعب، إذ تداخلت في تكونه عوامل دينية و ثقافية في الآن ذاته، ما زال تأثيرها ساريا في الحياة السياسية للمغرب المعاصر. ليس من باب المبالغة، اعتبار قيام حركة الاستقلال في المغرب لحظة لبداية تحديد ملامح الشعب المغربي، لأنها حركة تشبعت بالفكر السلفي الإصلاحي، فكانت مطالبها السياسية مدعومة بحمولة تاريخية و روحية، مكنتها من تحريك الجماهير و التأثير فيها، " أما من الناحية الثقافية فطبيعي أن تتجه همة المصلحين لتذكير الشعب بحالته، و بما كان عليه أسلافه الأولون من مجد و عظمة..."[34]. امتزجت الدعوة الدينية بالروح الوطنية إذن في تشكيل الشعب المغربي، و لم يتدخل المحدد الإثني في هذا التشكيل، وهو المحدد الذي حاولت فرنسا استغلاله لإضعاف المقاومة و الحركة الوطنية، بل أدى العزف على العرقية في المغرب من طرف فرنسا، إلى نتائج معاكسة لمخططاتها، إذ دفع الناس بتوجيه من النخب إلى قراءة اللطيف، احتجاجا على ظهير 16 ماي 1930 المنظم لسير العدالة في القبائل ذات الأعراف البربرية، و المعروف عند المغاربة بالظهير البربري، رغم وجود أصوات تعترض على هذا التحليل، و اعتبرت الظهير مجرد تشريع تنظيمي للقبائل الأمازيغية، و أنه ظهير شرعي بما أنه يحمل ختم السلطان المغربي[35]. مهما يكن، أثر هذا الظهير على النخب التي تخوفت على وحدة الشعب، التي بدأت لتوها تظهر بقوة أكبر أثناء تلك المرحلة، فاستطاعت توظيف هذا الظهير توظيفا سياسيا يخدم توجهاتها الوطنية، لقد شكل نقيضا للمرجعية الفكرية الاستقلالية، أي المرجعية الدينية التي تعتبر العقيدة هي المحدد الوحيد للشعب، و عامل التوحيد الأوحد و الثابت، إذ انتقلت النخب المغربية من السلفية إلى الوطنية، في سبيل تحقيق وحدة الشعب. " لقد وجد المغربي في دائرة السلفية ميدانا لبذل نشاطه و تعويد نفسه على العمل لخدمة الأمة و التضحية في سبيلها."[36]. يمكننا استنتاج اقتران مفهوم الأمة بمفهوم الشعب، في الخطاب الوطني المغربي أثناء الكفاح من أجل الاستقلال، أما بعد تحقيق هذا الأخير فقد اتخذ مفهوم الشعب حمولات حديثة، حيث انتظام أفراده ضمن أطر سياسية تمثله و تنطق باسمه، كما تزايد شعور النخب الوطنية بخطورة فرنسة المجتمع، العملية التي تعني محو الهوية و الذاكرة الجماعية، أي القضاء على مميزات الشعب المغربي و وحدته، ذلك من خلال فرض اللسان الفرنسي في التعليم و الإدارة، مما يسمح بنشر و ترسيخ القيم الفرنسية، التي وجدت في القيم الإسلامية عائقا و حاجزا أمامها، لأن هذه الأخيرة منعت ما أطلق عليه الوطنيون، السياسة التبشيرية و الإدماجية، رغم ذلك لم يكن بالإمكان إلغاء التأثير الذي أخذته السياسة تلك، إذ انضافت فئة من الشباب العصري إلى باقي الفئات التقليدية، من أعيان و علماء و عمال و فلاحينو حرفيين، بوصفها الفئات المكونة للمجتمع المغربي بداية من ثلاثينيات القرن العشرين، أما المكونات العقدية فلم تقتصر على الدين الإسلامي، بل اعترفت الحركة الوطنية منذ بداياتها بالدين اليهودي كذلك، و اعتبرتهما معا الديانتين القوميتين حصرا، في هذا الاعتبار إرهاص لتكون مفهوم الشعب بمعنى الحديث في المغرب، أي وضع تصور يجعل الفرد منتميا للجماعة، ليس بسبب دينه أو عرقه، و إنما لأسباب ثقافية و جغرافية و تاريخية. لكن هذه الخطوة لم تكن حاضرة في الدساتير المغربية، التي اعتبرت الديانة الإسلامية ديانة رسمية، و اللغة العربية لغة الإدارة و التعليم. رغم ذلك يمكن تجاوز هذا التحديد العقدي و أللسني و العرقي، و الإقرار بأن الشعب المغربي كناية عن الوحدة التي ظهرت بين السكان على اختلاف أعراقهم و معتقداتهم، من أجل الدفاع و الحفاظ على الذات إزاء الاحتلال الأجنبي، أي محاولة إقامة دولة وطنية بناء على وحدة عنصرها البشري. للشعب ارتباط بالمواطنة ضمن سيادة الدولة و قوانينها. لكننا نجد في البلاد العربية عامة، و المغرب على وجه التحديد، توفيقا بين الأمة الدينية و شعب الدولة الحديثة، لتبقى الأولى أعم من الثاني في الحالة العربية الإسلامية؛ يمكننا مثلا أن نقول: شعوب الأمة العربية أو الإسلامية، بينما العكس غير صحيح، فتكون الأمة أعم من الشعب، بينما يترادف المفهومان في الحالة الغربية، إذ الأمة أو الشعب هي الجماعة العرقية و اللسانية المحددة جغرافيا، و المحكومة بنفس القوانين و نفس السلطة.


Hans Kelsen, General Theory of Law and State, Translated by Anders Wedberg New York: Russell and Russell, 1961 pp. 185-186. [1]
The Modern State, Christopher Pierson, Routledge, Second edition 2004. P 6. [2]
 نفس المرجع، ص، 11 .[3]
 The nation state and violence, Anthony Giddens, University of California Press, 1985. P 61.[4]
 الأصول الوسيطة للدولة الحديثة، جوزيف شتراير، ترجمة محمد عتاني، دار التنوير للطباعة و النشر، الطبعة الأولى 1982،بيروت،ص 36-37[5]
 نفس المرجع، ص 37.[6]
 نفس المرجع،ص 44[7]
 نفس المرجع، ص 104[8]
  Nation State, Anthony Pick,Electronic copy,2011,p 41. [9]
 نفس المرجع، ص 42.[10]  
 علي أمليل، الإصلاحية العربية و الدولة الوطنية، ، دار التنوير للطباعة و النشر، الطبعة الأولى1985، بيروت. ص 89[11]
 رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، مؤسسة هنداوي للتعليم و الثقافة، 2011 ، ص 113.[12]
 علي أمليل، الإصلاحية العربية و الدولة الوطنية، دار التنوير للطباعة و النشر،ط 1 1985 ، بيروت.ص 96.[13]
 نفس المرجع، ص 103[14]
 محمد الهادي الشريف، تاريخ تونس من عصور ما قبل التاريخ إلى الاستقلال، تعريب: محمد الشاوش و محمد عجينة، الطبعة الثالثة، دار سراس للنشر 1993،ص 98[15]
 علي أمليل، الإصلاحية العربية و الدولة الوطنية، دار التنوير للطباعة و النشر،ط 1، 1985، ص 105[16]
 نفس المرجع، ص، 109.[17]
[18] رضوان السيد، سياسات الإسلام المعاصر متابعات و مراجعات، جداول للنشر و الترجمة و التوزيع،ط 2، 2015،ص 81.[18]
 نفس المرجع، ص،91[19]
 عبد الاله بلقزيز، الدولة و الدين في الاجتماع العربي الإسلامي، منتدى المعارف، ط 1، بيروت 2015، ص 182.[20]
 حسن حنفي، كبوة الإصلاح( نموذج مصر)، ندوة الإصلاح و المجتمع المغربي، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 7، ابريل 1983، ص 48[21]
 محمد الهادي الشريف، مشكلة الإصلاحات بتونس و ارتباطها بمسألة العلاقة التونسية- العثمانية حوالي 1840، ندوة الإصلاح و المجتمع المغربي، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 7، ابريل 1983، ص .135[22]
 جرمان عياش، دراسات في تاريخ المغرب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين،ط 1 ، 1986، ص 342.[23]
 محمد المنوني، نماذج من تفتح مغرب القرن 19 على معطيات نهضة أوروبا و الشرق الإسلامي، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، سلسلت ندوات و   مناظرات رقم 7، ابريل 1983، ص 193.[24]
 جرمان عياش، دراسات في تاريخ المغرب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين،ط 1، 1986،ص 166.[25]
 علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، مطبعة النجاح الجديدة، ط 6، 2003، ص 111.[26]
 جرمان عياش، نفس المرجع،ص 167.[27]
 ثريا برادة، الجيش الغربي و تطوره خلال القرن التاسع عشر، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل و أطروحات 37،1997،ص103.[28]
 جرمان عياش، نفس المرجع،ص 330.[29]
 إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ،ج 3، ط 2،1994،ص 463.[30]
Abdallah Laroui ,les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain 1830-1912 ,centre culturel arabe,3éme 2009,p 98 .[31]
 نفس المرجع، ص 46.[32]
 علال الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، مطبعة النجاح الجديدة،ط 6،2003،ص 98.[33]
 نفس المرجع، ص 101.[34]
 محمد منيب، الظهير البربري أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر، منشورات مؤسسة تاوالت الثقافية، 2003.[35]
 علال الفاسي، مرجع نفسه،ص 159.[36]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق