الإسلام في مرآة الأنواريين.
مونتسكيو ، فولتير، و روسو نموذجا.
تحرير:
رشيد النفينف
لن
يختلف المطلعون على تاريخ أوروبا الحديث في الاعتراف بالنزعة اللادينية، التي
اجتاحت الفكر الغربي آنئذ، و لا يمكن انكار المواجهة العنيفة التي شهدتها القارة
العجوز باسم الدين أولا، ثم ضده لاحقا؛ من الحروب الدينية الداخلية بين الكاثوليك
و البروتستانت، إلى الحرب ضد الكنيسة و انتزاع ممتلكاتها و تجريدها من كل سلطة
ممكنة، أي نزعة الدنونة التي ميزت حركة التنوير الأوروبية. لقد كان للفرنسيين نصيب
الأسد في تلك الحركة كما هو معلوم، و ليست انتاجات الموسوعين سوى الدليل الساطع
على تزعم نقد الفكر الديني و القطع مع التفسيرات اللاهوتية، لصالح تفسيرات عقلية
علمية تجنح ما أمكنها إلى موضوعية مفترضة. رغم أن التنوير عملية تراكمية تحققت
تاريخيا، فإنها تجلت في تصنيفات فلاسفة القرن الثامن عشر، بشكل أكثر اكتمالا من
كتابات فلاسفة القرن الذي سبقه؛ و ليست أفكار ديكارت Descartes، و سبينوزا Spinoza ، و جون لوك Locke، سوى الأسس
النظرية التي وجد فيها فلاسفة القرن الثامن عشر التنويريين منطلقاتهم و مبادئهم؛ فإذا
التزم ديكارت الحياد السياسي و حافظ على
إيمانه اليسوعي، فإن سبينوزا تمرد على تعاليمه الدينية، واضعا مذهبا بين التصوف و الغنوصية، بينما بطّن جون لوك أفكاره
السياسية مواقفه إزاء الدين و سلطته، مدافعا عن الفصل بين السياسة و الدين، و بين
الدولة و الكنيسة. إن السيطرة التي كُتبت للفصل بين الدين و السياسية في تفكير الرعيل الأول من
التنوريين، هي التي تفرض سؤال طبيعة هذا
الفصل، فهل كان فلاسفة أمثال منتسكيو Montesquieu و فولتيرVoltaire
و روسوRousseau و ديدرو Diderot و غيرهم، رافضين للدين بشكل عام، أم مجرد منكرين
لدوره في الاجتماع و السياسة؟ هل رفض
هؤلاء الدين المسيحي أم كل الأديان؟ و هل لهم مواقف من الدين الإسلامي؟
عرض الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو Montesquieu صراحة للدين
الإسلامي، بعد أن أبرز موقفه من العلاقة بين الدين و الحياة السياسية. يقول متحدثا
عن هذه العلاقة في شخص الحاكم: " و يُعدّ الأمير الذي يُحب الدين و يخافه
كالأسد الذي يذعن لليد التي تلاطفه أو الصوت الذي يُسكِّنه، و يُعدّ الأمير الذي
يخاف الدين و يمقته كالوحوش التي تقْرِضُ القيد الرادع لها من الانقضاض على
المارين، و يُعدّ الأمير الذي لا دين له كالحيوان
الهائل الذي لا يشعر بحريته إلا إذا مزق و افترس."[1].
لا مناص للحاكم إذن، من بناء علاقة مع الدين لا تخرج عن أشكال ثلاثة : المحبة و الخوف، أو الخوف و الكراهية، أو النفي و الإقصاء؛ الأشكال
ذاتها التي تنعكس على النظام السياسي، و بالتالي على حياة الفرد و المجتمع. لكن
مونتسكيو لا يقدم جوابا أو اختيارا لأحد هذه الأشكال، و لا يمنح الأفضلية لأحدها
على الآخر، بل يترك السؤال مفتوحا على النحو التالي: أيهما أقل ضررا، أن لا يكون
للفرد و المجتمع دين، أم إساءة استخدام هذا الأخير أحيانا ؟
تتجلى العلاقة بين الديني و السياسي بوضوح أكبر في الفصل الثالث من الكتاب
الرابع و العشرين، الذي يحمل عنوان: "الحكومة المعتدلة أكثر ملاءمة
للنصرانية، و الحكومة المستبدة أكثر ملاءمة للإسلام"، حيث ركز على المسألة
الجنسية لإبراز أساس الاختلاف في الطباع و الأمزجة؛ أورث تشريع التعدد لدى
المسلمين حبا للنساء و الملذات، جعلهم
أكثر بعدا عن العقل و الإيمان في الآن ذاته، مُستشهدا بالفرق بين إمارة سِنار التي
حكمها مسلم، فتقاتل أبناؤه على الحكم بعده، و أصَّلوا الاستبداد في سياستهم لأغراض
لذّيّةٍ شهويةٍ، و إمارة الحبشة حيث حالت
النصرانية دون الاستبداد الذي رسخه الإسلام. انتقل مونتسكيو في الفصل اللاحق إلى
بيان نتائج طبيعة الدينين، و يضع مُسلّمة أولى مفادها التعارض المطلق بينهما، حيث
يعمل أحدهما على تَلْيين الطباع و تَنْبيل
الأخلاق، في حين يجنح الآخر إلى العنف و لغة السيف، و إلى إقامة روح الهدم في
الفرد و المجتمع. حاول بعد ذلك تحديد أي نصرانية أفضل و أقدر على إسعاد الناس في
الدنيا، بما أن النصرانية هي الدين الأفضل في رأيه، أو لنقل الأقل ضررا خاصة إذا
تمت مقارنته بالإسلام. فبأي معنى نعتبر مونتسكيو أنواريا؟
تبدو أنوارية هذا الفيلسوف في استناده إلى مبادئ العقل، غير أن تلك العقلانية تبدو مغلقة
دغمائية، لم تختلف عن عقلانية ديكارت المطلقة، لكنها في الوقت ذاته لم تتمكن من
مسح الطاولة، حين تعلق الأمر بالإسلام، إذ لم يتخلص مونتسكيو من أحكامه المسبقة، و
أفكاره الجاهزة حول هذا الدين الجديد، و لم يستق معارفه حوله من غير المصادر
الكنسية، لذلك لم يدرك مونتسكيو أن المسألة الجنسية، التي اعتبرها نقيصة تعتور
تعاليم الإسلام، قضية تنظيمية للحياة الجنسية، التي كانت فوضية في عهود ما قبل
الإسلام؛ فالتعدد و ما ملكت اليمين مثلا، خطوتان اصلاحيتان جذريتان، مقارنة
باستعارة الفروج، و زنى
المحارم، حيث أطرت الشريعة الإسلامية كل العلاقات الجنسية، داخل العلاقة الزوجية،
إضافة إلى إن شيوع التعدد، ليس حكرا على معتنقي الديانات السماوية فقط، مثل
اليهودية، التي تفرض على الأخ الزواج من زوجة أخيه الهالك، لما في ذلك من مصلحة
الأبناء؛ " إذا كان هناك أربعة إخوة متزوجين من أربع نساء، ثم ماتوا: فأراد
أكبر الإخوة الأحياء أن يتزوج أرامل إخوته كلهن، فالأمر بيده."[2]
بل حتى عند بعض الشعوب الوثنية كان التعدد
شائعا، و لم يشمل تحريم التعدد في المسيحية بداية جميع الناس، بل اقتصر على رجال
الكنيسة و رهبانها، و ظل حقا يتمتع به النبلاء و الملوك، أمثال لويس الرابع عشر،
الذي عاش مونتسكيو فترة في ظل حكمه ؛ " استحوذ لويس الرابع عشر على جزأ من
وظائف الملكة، و ترك الجزأ المتبقي للمحظيات. المحظيات لأن لويس الرابع عشر
لم يرض بتفضيل إحداهن، بل بإثنتين على
الأقل. كما قدم لفرنسا و أوروبا فرجة منقطعة النظير لملك متعدد الزوجات"[3]
. تتداعى الجحة الجنسية التي بني عليها مونتسكيو التباين بين الطباع و الأمزجة
إذن، كما تظهر سطحية تحليله حين اعتماد على ثنائية: البرودة و الحرارة، في تفسير
التباين بين الشجاعة و الجبن، و بين العدل و الجور، و بين الاعتدال و الإفاط،
و بين النشاط و الخمول، و غيرها من
الثنائيات الأخرى، التي تندرج كلها ضمن هذه الحالة الفيزيائية، يتزايد تهافت آرائه
و مواقفه من الإسلام، حين يلجأ إلى
ثنائية أخرى، هذه المرة التقابل بين الشمال و الجنوب، و هي ثنائية جغرافية، لايمكن
اعتبارها سوى تكرار للثنائية الأولى. لقد اعتمد مونتسكيو على الأخبار الواردة عن
الرحالة، و على الحكاية و السرد،. استند
فيلسوف التنوير إذن على مقدمات تبدو صادقة، و هي مجرد مشهورات، ودليل ذلك سيادة المناخ القاري و المتوسطي معظم
البلاد الإسلامية، و هي باردة و حارة، حسب فصول السنة، من جهة، و انتشار الأسلام
في بلدان معتدلة و الباردة، من جهة ثانية. كان همه الأول حين يعرض للإسلام،
التعريض به و تحقيق الغلبة بكل الوسائل
المتاحة، كأننا بمكيافيلية مونتسكتو تنفضح كلما عبر عن عدائه للدين الحنيف. يتزايد
استغراب القارئ للروح الشرائع، حين يجد ذات الثنائية الفيزيائية تفسر الفروق بين
الحكومات المعتدلة، و نظيراهتا المستبدة؛ فليست الأدلة على سيادة الطغيان و
الاستبداد بالبلاد الباردة بقليلة أو نادرة، بل نجده في تاريخ الغرب ؛ " و
تاريخ الأمم المسيحية في القديم. و الحديث يكاد يكون كله حروبا طاحنة و معارك
دامية هي بالهمج و الحيوان المفترس أجدر منها بالبشر الذين ميزهم الله بالعقل و
بالقلب و جعلهم مدنيين بالطبع."[4]
نماذج عدة لحكومات موغلة في الطغيان، تنفي ارتباط الطقس البارد بلين الطباع، و إلا
كيف يمكننا تفسير قسوة و
غلظة محاكم التفتيش، التي بلغ جحيمها أقصى البلدان الأوروبية برودة؟ و كيف نفهم
قسوة الرجل الأبيض على الرقيق؟ وجد مونتسكتو لهؤلاء ما يبرر عبوديتهم، في الثنائية
عينها. بل ليست الثورة الفرنسية سوى الدليل الحاسم على انفصال الاستبداد عن
المناخ، و بالتالي تهافت حجج مونتسكيو في هذه المسألة، كما في غيرها، و كذا انفضاح
الارتباط الوثيق بين الإديولوجيا و العقلانية عنده.
الأجواء ذاتها
دفعت فولتير Voltaire إلى السخرية من الدين، ليس المسيحي فقط، بل خص مسرحيته الشهيرة: "
محمد أو التعصب"[5]، للسخرية
من شخص نبي الإسلام و تعاليم هذا الدين الذي كان يهدد أوروبا، منذ عصور الحروب الصليبية
الأولى، إلى حدود عصر فولتير حين كانت الإمبراطورية العثمانية تهديدا حقيقيا للأراضي
المسيحية. رغم عودة فولتير إلى الإشادة بنظام الزكاة و بالنظام السياسي و
الاستراتيجي للنبي صلى الله عليه و سلم، فإنه يفعل ذلك لمجرد نقد المسيحية و إبراز
اضمحلالها تاريخيا، و تراجعها سياسيا و اجتماعيا. في
معجمه الفلسفي استعرض فولتير تعريفا للقرآن، يشي بأنه اكتفى بالتصور الشعبي الرائج عن الإسلام و المسلمين؛ و قد أشار هو نفسه إلى عدم معرفة أدباء عصره لهذا الكتاب،
لذلك حاول من خلال معجمه تعريف الأوساط الفكرية في فرنسا بالقرآن، يقول في تعريف
هذا الأخير: " يحكم هذا الكتاب بشكل استبدادي كل افريقيا الشمالية من جبال
الأطلس إلى صحراء برقة، و مصر بكاملها و سواحل المحيط الأثيوبي...، سوريا، آسيا
الصغرى، و كل الدول المحيطة بالبحر الأسود و البحر الإيجي..."[6].
يعترف فواتير بعدم معرفة الأوروبيين للقرآن
رغم الجهود التي بدلوها في دراسته، يقول: " في هذه البلدان الممتدة امتدادا
هائلا، لا يوجد محمدي واحد يسعد بقراءة كتبنا المقدسة، و قلة هم الأدباء بيننا
الذين يعرفون القرآن. لقد شكلنا دائما فكرة سخيفة عنه رغم أبحاث علمائنا
المعتبرين."[7].
غير أن ما كتبه فولتير بعد قوله هذا يُظهر أن مقصده ليس تمجيديا لهذا الكتاب؛ حيث
استعرض سورة الفاتحة مترجمة إلى اللسان الفرنسي،
معتبرا هذه السورة أول القرآن آخذا بترتيب المصحف لا بترتيب النزول، ثم
انتقل إلى تحديد معاني الحروف الأُوّل من سورة البقرة، ليبرز أنها بغير معنى، لأن
كل مفسر يؤولها على طريقته، لكن الأغلبية حسب فولتير تُجمع على أن معناها هو:
الله، لطيف، مجيد. و الحال أن أهل التفسير في الإسلام قد أجمعوا على كونها من
الأسرار التي استأثر الله تعالى بعلمها، و ليس لأنها بدون معنى. ليس سبب اللاتحديد الدلالي لتلك الأحرف إذن اختلاف
المفسرين، و هذا ما يدفعنا إلى افتراض مواقف إيديولوجية و تصورات عقدية، حكمت نظرة
فولتير إلى الإسلام، إلى جانب معرفته المحدودة به.
إن الوقوف على مسألة معاني الحروف المقطعة في
القرآن، و ميل هذا الفيلسوف الأنواري إلى تفسيرها باعتبارها الأحرف الأُولى من
كلمات معينة، لهو دليل قوي على تأثره بالتأويلات الباطنية و القبالية للنصوص الدينية؛ فقد كان التأويل الباطني متداولا في الفكر
العربي الإسلامي على نطاق ضيق، و هو التفسير الذوقي الذي لم يُجْمِع عليه و لم يُروِّج
له التفسير الذي يمكن نعته بالرسمي في الإسلام، و نجد هذا التفسير الذوقي لدى
أمثال القشيري في مصنفه: " لطائف الإشارات " حيث نعثر فيه على ذات
المعنى الذي أورده الفيلسوف الأنواري، يقول: " هذه الحروف المقطعة في أوائل
السورة من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قوم، و يقولون لكل كتاب سر، و
سر الله في القرآن هذه الحروف المقطعة. و عند قوم إنها مفتاح أسمائه، فالألف من
اسم الله و اللام يدل على اسمه اللطيف و
الميم يدل على اسمه المجيد و الملك. و قيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها من
بسائط أسمائه و خطابه. و قيل
أسماء السور"[8]
. في هذا المعنى الأخير قال الزمخشري:
" فإن قلت: ما معنى تسمية السور بهذه الخاصة؟ قلت: كان المعنى في ذلك الإشعار
بأن الفرقان ليس إلا كلمات عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ"[9]. و
تفاصيل هذه المسألة كثيرة. لكن اعتبار فولتير هذا التأويل - بغض النظر عن خلفية
الرجل العقدية أو النظرية- نهائيا بما وجد فيه من عقلانية، أسقطه في نزعة وثوقية
تناقض مبادئ التنوير نفسه. يظهر الموقف الإيديولوجي لفولتير بوضوح أكبر حين يعرض
وضع المرأة في الإسلام، معنونا ذلك بالقواعد المحمدية حول النساء؛ إذ عرض ثمان
ترجمات لآيات من سورة النساء، ليستنتج أن وضع المرأة في الشرائع الإسلامية من
السوء بما كان. يشير فولتير نفسه حين عرض
ترجمة لسورة الفاتحة أنها في اللسان العربي أكثر اختلافا، يقول في ذلك: "يدعي
بعضهم أن هذه الكلمات في العربية أكثر حيوية بمائة مرة"[10]، و هذا
يؤكد أن فولتير لم يكن ملما باللغة العربية، و أنه اعتمد في جميع مصادره على تصنيفات
القساوسة و رهبان الكنيسة. فرُبَّ ترجمة تضيّع المعنى الأصلي، و رُبَّ معنى يُصاغ
في ظروف تاريخية، و يستمر لتغطية فترات طويلة من التاريخ. ذاك هو حال فولتير الذي
تجده متأثرا بغزو القسطنطينية بشكل أو بآخر، و لا أدل على هذا التأثر من الأوصاف و النعوت
التي يستخدمها في الحديث عن رموز الدين الإسلامي، و التي تُفقد محتوى المعجم الفلسفي في مادته
المتعلقة بالقرآن و بالمحمديين موضوعيته و
علميته.
لم يكن الفيلسوف جون جاك روسو Jean Jacques
Rousseau استثناء بين فلاسفة قرن التنوير، إذ عرض
للمسألة الدينية في إطار تحليله و تأسيسه لنظرية سياسية مُؤطرة ضمن نظرية التعاقد
الاجتماعي، التي جاءت كردة فعل ضد نظرية التفويض الإلهي. إلا أن روسو يذهب مذهبا
مختلفا في نظرته إلى العلاقة بين الدين و السياسة؛ مسترجعا مراحل تاريخية و أمم أثّرت
في مسيرة الحضارة الإنسانية، منذ الديانات الوثنية مرورا بالديانة اليهودية، التي
تشهد على تلك العلاقة الوطيدة و المتوترة في الآن ذاته بين السياسي و العقدي
الديني؛ إذ لم يكن سبب اضطهاد الشعب العبري سوى رفضه لآلهة البابليين، و صولا إلى الديانة
المسيحية التي انتهت إلى فصل بين السلطة الثيولوجية و السلطة السياسية، مما جعل
المجتمع منقسما و مترددا بين الطاعة للأولى
و الخضوع للثانية. يقول روسو في هذا السياق: " مع ذلك، فلطلما وُجد
أمير و قوانين مدنية دائمة، نتج عن هذه القوة المضاعفة صراع دائم حول الحاكمية،
مما يجعل السياسة الجيدة مستحيلة في الدولة المسيحية؛ لم يُقْدر أبدا على معرفة
أتجب طاعة السيد أم القس؟"[11]. رغم
نقده لمونتسكيو في الفصل الثامن من الكتاب الثالث، حيث رفض الربط بين الحرية و
المعطى الجغرافي، و الفرق بين شعوب الشمال و الجنوب، و التباينات بين الطقس البارد
و الحار؛ فليست حرارة بلاد الشرق
مثلا مبررا لانتشار الاستبداد فيها، كما أن معيار خصوبة الأراضي و عقمها ليس
بالمعيار الواضح لهذه التفرقة، فإن روسو لم يعترض على موقف مونتسكيو من الإسلام
كدين يلائم الأنظمة السياسية الاستبدادية. لكنه عاد في الكتاب الرابع، و تحديدا في
فصله الثامن، الذي يتناول الدين المدني و يحوي موقفا ضمنيا يعترض على أطروحة
مونتسكيو، حيث سيشيد روسو بالنظام السياسي الإسلامي، بما أنه تمكن من المزاوجة بين
السلطة الدينية و السياسية، مما جعل المجتمع موحدا على طاعة جهة محددة، يقول في
هذا الباب: " مع ذلك، أرادت شعوب مختلفه في أوروبا و ما جاورها، الحفاظ على
النسق القديم أو إعادة إقامته. لكن بدون جدوى حيث سادت الروح المسيحية كل شيء، ظل الطقس المقدس أو صار مستقلا عن
الحاكم لاحقا، و دون ارتباط بكيان الدولة. كانت لمحمد نظرة صائبة، و أوثق جيدا
نظامه السياسي، و بما أن شكل حكومته استمر مع الخلفاء ورثته، فإن هذه الحكومة
واحدة بالتمام، و من ثمة فهي صالحة. لكن العرب صاروا مزدهرين و متعلمين و مهذبين و
مائعين و جبناء فاجتاحهم الهمج."[12]
لكن هذا الإعجاب بالنظام السياسي للدولة في
الإسلام، خاصة كما تبلور خلال مرحلته التأسيسية مع النبوة، و مع الخلفاء الراشدين
الذين حافظوا على شكل الحكومة، التي تربط بين الدين و السياسية للحفاظ على وحدة
المجتمع و وحدة السلطة. يتعارض مع ما أورده روسو حول المسلمين في رسالته التي حاز
بفضلها جائزة أكاديمية ديجون سنة 1750 ، حيث يقول: "لقد كان المسلم الغبي الآفة
الأبدية على الآداب التي ما زالت تتولد بين ظهانينا"[13]. إن
النعت السلبي الذي وظفه روسو، يولد بالضرورة تصورا سلبيا على المنعوت، غير أن
المفارقة الأولى التي تعلن عن نفسها هي هذه الازدواجية بين الإعجاب و الإزدراء. أما المفارقة الثانية فهي
حكم روسو على المسلم، رغم أنه لا يعرف الشرق إلا عن طريق روايات الذين عاشوا فيه؛
" عرف روسو الشرق عن طريق الإشاعة، فقد كان والده ساعاتيا في
القسطنطينية"[14]. الحقيقة أن كل الآراء الإيجابية التي أوردها
روسو حول الإسلام، كانت لنقد الكنيسة،
و السخرية من وهنها مقارنة بقوة الدين الجديد.
إن مُساءلة بعض الأنواريين، الرموز منهم خاصة،
حول الدين عامة، و الإسلام تحديدا، واحد من الضرورات النظرية التي يمكن من خلالها
فهم المواقف السائدة في الغرب إزاء الإسلام و المسلمين، إذ ليست لهذه النزعات شروط
راهنة فحسب، بقدرما تنبني على جذور تاريخية لا تقف عند الأنواريين، بل تصعد إلى
أبعد من ذلك . لكن للوقوف عند رموز التنوير دلالاته، خاصة بالنسبة لمجتمعاتنا
المسلمة التي تتطلع نُخبها إلى إنجاح التنوير و تحقيقه، في مجتمعات تبدو أقرب ما تكون
إلى مثيلاتها في أروبا القروسطية، خاصة في علاقة أفرادها و مؤسساتها بالدين و
الشريعة، تلك العلاقة المتغلغل في وجدان الجماعة، و التي أورثت ما وصفه روسو
باللإنفصال بين سلطة الحاكم السياسي و سلطة الدين، هذه الأخيرة ما عادت في
المجتمعات المسلمة المعاصرة ممثلة في الفقهاء و العلماء، كما كانت إلى حدود سقوط
الإمبراطورية العثمانية في الشرق، و منذ البيعة المشروطة في المغرب الإسلامي. فهل
كان الأنواريون أنواريين فعلا؟ و ماهو التنوير الذي نقصده حين نستخدم هذا المفهوم
في خطاباتنا اليوم ؟
المراجع
المعتمدة
·
الزمخشري، أبو
القاسم جار الله محمود بن عمر ، تفسير الكاشف عن حقائق التنزيل و عيون الأقاويل في
وجوه التأويل، دار المعرفة، الطبعة الثالثة، 2009.
·
القشري، أبو القاسم
عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك ، لطائف الإشارات، الجزء الأول، تحقيق عبد اللطيف
حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2007.
·
مونتسكيو، روح
الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر، الجزء الثاني، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية
( الأونيسكو)، دار المعارف بمصر، 1953.
·
الوزاني، محمد
حسن، الإسلام و الدولة أو حقيقة الحكم في الإسلام، دراسات و تأملات العدد 1، مؤسسة
محمد حسن الوزاني.
·
Geeraert,
Anais, Louis XVI et Les Reines de Cœur, Edition Broché ,2006.
·
Rousseau,
Jean Jacques, Du Contrat Social, présentation par Bruno Bernardi, Flammarion,
2001.
·
Rousseau,
Jean Jacques, Discours
sur Les Sciences et Les Arts, Les Échos du Maquis, 2011.
·
Terme,
Renaud, La perception de l’islam par les élites françaises (1830 – 1914),
Université Bordeaux Montaigne, Ecole Doctoral Montaigne Humanité, 2016.
·
Voltaire,
Le Fanatisme ou Mohamet le Prophète, Tragédie, 1741.
·
Voltaire,
Dictionnaire Philosophique, Le Chasseur Abstrait, 2005.
[1] مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة: عادل زعيتر،
الجزء الثاني، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية ( الأونيسكو)، دار المعارف
بمصر، 1953، ص 177.
[2] مصطفي
عبد المعبود سيد منصور، سلسلة ترجمة متن التلمود، المشنا، القسم الثالث، ناشيم:
النساء،مكتبة النافذة، بدون تاريخ، ص 51.
[4] الوزاني، محمد حسن، الإسلام و الدولة أو حقيقة
الحكم في الإسلام، دراسات و تأملات العدد 1، مؤسسة محمد حسن الوزاني، ص 17.
[8] أبو
القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشري، لطائف الإشارات، الجزء الأول،
تحقيق عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية،
2007، ص 16.
[9] أبو
القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، تفسير الكاشف عن حقائق التنزيل و عيون
الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، الطبعة الثالثة، 2009، ص 32.
[11] Jean Jacques Rousseau, Du Contrat Social, présentation par Bruno
Bernardi, Flammarion, 2001, p 167.
[14] Renaud Terme, La perception de l’islam par les élites françaises (1830
– 1914), Université Bordeaux Montaigne, Ecole Doctoral Montaigne Humanité,
2016, P 175.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق