المحور الأول: الواجب
والإكراه
الإشكالية:يبدو الواجب في دلالاته
المختلفة عنصرا داخليا ومقوما أخلاقيا تتمحور حوله عناصر أخرى ، وترتبط
فيما بينها تأثيرا وتأثرا ، وإذا كان الواجب في دلالته اللغوية مقترنا بالامتثال
للوازع الأخلاقي، فان السؤال الذي يفرض نفسه هنا كالآتي: هل الواجب إرادة حرة أم
إكراه وقهر؟ هل يرتبط بملكة داخلية يمثلها الضمير أم بعنصر خارجي يجسده القانون؟
أهو إلزام أم التزام؟ وما طبيعة العلاقة بين الواجب والمصلحة العامة؟
موقف امويل كانط: الواجب فعل أخلاقي من حيث كونه ضرورة
عقلية نابعة من ذات تتمتع بنوع من الحرية والاستقلال الذاتي، بمعنى أن كل شخص عاقل
يتقبل ويقتنع بالفعل الأخلاقي على شكل واجب، إذ انه استجابة لنداء العقل الكوني والإرادة
الخيرة . انه أمر قطعي خال من الغائية والنفعية، مادامت الأفعال الإنسانية على
ضربين: أوامر شرطية مرتبطة بمنفعة محددة يمكن اختزالها في الحصول على الجزاء
وتفادي العقاب، وأوامر قطعية تقترن باحترام روح القانون، باعتبار هذا الأخير غاية
في ذاته، وهذا يعني أن الفعل الأخلاقي عموما والواجب خصوصا يتأسس على معطيات
داخلية هي الإرادة والضمير، وليس من الخارج، أي القوانين والقواعد والأعراف التي
يفرضها المجتمع. القيام بالواجب فعل حر والتزام وليس إكراها وإلزاما مفروضا من
الخارج.
موقف دافيد هيوم: يمكن التمييز بين نوعين من الواجبات الأخلاقية
؛ ترتبط الأولى بالغريزة والطبيعة وبالميل المباشر والعفوي غير مفكر فيه، وهي
منفصلة عن أي شعور بالإلزام، أما الثانية فلا تنفصل عن الإلزام، وتتمظهر من خلال
الضرورات الاجتماعية ، أي أنها واجبات ضرورية لاستمرار المجتمع وبقائه، ومن ثمة
تفرض نفسها على الإنسان لتتخذ طابعا إكراهيا، إذ أثبتت التجربة أن التهاون في
القيام بهذه الواجبات سيؤدي إلى طغيان المصلحة الشخصية و انحلال المجتمع وتفسخه
وطغيان، وبالتالي فإنها مرتبطة بالتفكير والتجربة، بمعنى أنها مؤسسة على معطيات
خارجية ولها طابع إكراهي لاينفصل عن الضرورة .
موقف فريدرك هيجل: يرتبط الواجب بالحق فيما يخص العلاقات
الإنسانية، ولايصدق هذا الارتباط على الواجب الديني،حيث أن واجبات
المواطن إزاء الدولة تتحدد من خلال تمتعهم
بحقوقهم الكاملة، رغم الاختلاف الموجود بين طبيعة تلك الحقوق والواجبات، إذ تكون
هذه الأخيرة أعلى مرتبة من الأولى، بمعنى أن السعي إلى تحقيق المصلحة الخاصة ينتهي
بالانصهار في المصلحة العامة وفق عملية تركيبية يتحول من خلالها الشأن العام إلى
شأن خاص، مما يفضي إلى الحفاظ عليهما معا، أي أن القيام بالواجبات من اجل الدولة
والالتزام بها يضمن للفرد البقاء والاستمرارية، باعتباره عضوا داخل المجتمع وجزءا
من الكل. يتضح إذن أن الواجب من طبيعة إلزامية بوصفه ضرورة تؤدي إلى تحقيق المطلق ؛
وبذلك يغدو الواجب مرتبطا بالدولة لابالذات في وجودها الخالص.
خلاصة: يبدو بالنهاية الطابع الإشكالي
لمسألة أساس الواجب والتي شكلت مجالا تأمليا تضاربت فيه آراء الفلاسفة ومواقفهم،
حيث اعتبره البعض وليد الإرادة الحرة للإنسان ، في حين قرنه البعض بالإكراه
الخارجي المفروض من طرف قوانين المجتمع. ومهما يكن الأساس الذي يقوم عليه الواجب،
فانه دليل على تميز الوضع البشري من جهة، وتعقد القضايا الأخلاقية من جهة أخرى.
فهل القواعد الأخلاقية ثابتة مطلقة، أم نسبية متغيرة؟
المحور الثاني: الوعي
الأخلاقي
الإشكالية: ياعتبر مفهوم
الوعي الأخلاقي مفهوما مركزيا في الفلسفات الأخلاقية.فما هو الأساس الذي يقوم عليه هذا الوعي؟ أهو الفكر والعقل، أم التجربة
والملاحظة؟ وكيف ينشأ هذا الوعي الأخلاقي؟ هل هو ثابت ومطلق، أم نسبي ومتغير؟
موقف اريك فايل: يتأسس الوعي الأخلاقي على المبادئ العقلية،
حيث يتعالى بواسطتها الإنسان عن الشهوات والنزوات ويتحرر من سيطرة الغريزة، وبذلك
يخضع للمبادئ الكونية التي تتجاوز الفردية والأنانية، بما أن الأخلاق دليل على إنسانية الإنسان،
أي أنها تميزه عن الأشياء والموضوعات الغفل الفاقدة للإرادة والحرية، والتي لاتكتسي
قيمتها إلا من خلال قابليتها للاستعمال، وبالتالي يستحق الإنسان الاحترام
والتقدير، بما انه ذات أخلاقية وعاقلة، قادرة على الاختيار والتمييز، فلا يتأسس
الوعي الأخلاقي فعليا إلا إذا انحاز الإنسان إلى العقل.
موقف ابن مسكويه: يمكن أن يكون الوعي الأخلاقي من أصل طبيعي
يرتبط بالمزاج، كما يمكن أن يكون من أصل مكتسب يقترن بالعادة والتدريب. لقد اختلف أهل
العلم والعوام في أساس الأخلاق، فاعتبرها البعض من النفس الناطقة، أي العاقلة، في
حين اعتبرها آخرون من الغريزة والطبيعة، غير أن الأقرب إلى الصواب هو ارتباط الوعي
الأخلاقي بالتأديب والموعظة والتلقين، وذلك ما يؤكده الواقع والمشاهدة؛ فالأخلاق
في نهاية المطاف تقويم وتأديب وترويض للطباع، وإلا ظل الناس كما كانوا في طفولتهم
فتغلب على حالهم الهمجية والطباع المذمومة.
خلاصة: لايمكن فصل الوعي عموما والوعي الأخلاقي
خصوصا عن العقل، لان الطبيعة لاتعترف لا بقانون الغريزة، الذي يرتبط باللذة والأنانية
والقوة، أكثر من ارتباطه بالقيم الأخلاقية كالاحترام والتقدير والكرامة، ومن ثمة
يمكن التأكيد على الأصل العقلي للأخلاق الإنسانية، فهل يعني هذا أنها من املاءات
المجتمع؟
المحور الثالث:
الواجب والمجتمع
الإشكالية: هل
يتأسس الواجب الأخلاقي على عقيدة المجتمع أم على القناعة الفردية؟وكيف يتدخل
المجتمع في بناء الوعي بالواجب الأخلاقي؟ وهل الواجب محكوم بضمير الفرد أم
المجتمع؟
موقف
إميل دوركايم:
قدم دراسة للتربية الأخلاقية التي يعمل بها المجتمع لبناء الوعي الأخلاقي لدى
الأفراد، وذلك من خلال التنشئة الاجتماعية ، حيث يشكل المجتمع سلطة معنوية تتحكم
في وجدان الأفراد وتحكم سلوكاتهم ، ومن ثمة يخضع هؤلاء لمجتمعهم الذي يحدد معالم
الامتثال للواجب وللنظم الأخلاقية ، وبالتالي يصدر الوعي بالفعل الأخلاقي لدى الأفراد
عن ضمير ووعي جمعيين يتحكمان في سلوكات الأفراد وتصرفاتهم، وعليه تكون للمجتمع
سلطة إلزامية تتجاوز إرادة الفرد.
موقف
برجسون:
لا ينكر هذا الفيلسوف ما للمجتمع من قدرة تعسفية ماورائية تمارس على الأفراد فيما
يتعلق بتصرفاتهم وأفعالهم، لكنه دعا في المقابل إلى الانعتاق من هذه السلطة
الأخلاقية المتعالية، وطالب بواجب أخلاقي كوني يتجاوز الأخلاق المغلقة التي يكرسها
المجتمع، على اعتبار أن مثل هذه الأخلاق الكونية الشمولية يصلح للإنسان عامة بغض
النظر عن انتمائه الاجتماعي، إنها واجبات نحو الإنسان من حيث هو إنسان.
خلاصة: لقد ذهب
بعض الفلاسفة إلى المزج بين فردية الواجب واجتماعيته، حيث ميز السوسيولوجي الألماني
ماكس فيبر بين أخلاق الاقتناع الصادرة عن الإرادة خارجة عن ذات الفرد؛ حيث لايكون
الفاعل هو الإنسان ولكن القدر، وأخلاق المسؤولية المؤسسة على الذات الفردية والوعي
الفردي الحر. يمكن أن يكون الواجب استجابة للضمير الفردي، لكنه في معظم الحالات
امتثال لضمير الجماعة ووعيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق