تقديم: السعادة من السعد وهي نقيض التعاسة والنحس ومظاهرها
الفرح والنشوة والزهو والرضى وكلها احوال تطرأ على النفس، وترتبط بمواقف وتتباين
في الشدة وتتمايز بين الناس وتتصل باللذة وتحصيلها وبالرغبات واشباعها وبالاماني وتحقيقها، وقد
تترتب السعادة على اسباب خارجية تزول بزوالها وقد تقوم على اسباب تتصل بالذات
والباطن وهي السعادة الجديرة بصاحبها والتي يحصلها بالالتزام والاعتدال ونشدان
الفضائل كما ذهب الى ذلك ارسطو، والسعادة لا تنال الا بالعلم والعمل، واعلى مراتب
العلم معرفة النفس وقواها واخلاقها واعلى مراتب العمل مجاهدة النفس بتزكيتها حسب
الغزالي، وقد ترتبط السعادة بوعي الفرد وحريته واحساسه بانه مكتف بذاته وفي انسجام
مع وجوده كما تصور كانط. فكيف تتحدد ماهية
السعادة؟ وهل يمكن تحصيلها؟ وما طبيعة علاقتها بالواجب؟
المحور الاول: تمثلات السعادة كيف تتحدد ماهية السعادة ؟ هل هي مجرد تصور ذهني ومحاكاة
تخييلية لما يتمناه الانسان ويرجوه؟ أهي مرتبطة بالعالم الداخلي للفرد أم تتصل
بالعالم الاجتماعي؟
موقف ابو نصر الفارابي: يحدد المعلم الثاني السعادة كغاية وجودية يتطلب بلوغها
معرفة عقلية بالاسباب المؤدية اليها، بوصفها هدفا مشتركا يحمل الانسان على القيام
باعمال وافعال مقبولة عقليا يسير به نحو حالة من الرضى، ورغم الطابع المشترك
للسعادة فان تمثلها مختلف باختلاف الافراد والفئات، ومن ثمة تكون السعادة رهينة
بمعرفة عقلية وبافعال واقعية مادام الانسان عاجزا عن معرفة ماهية السعادة، فانه في
حاجة الى معلم مرشد يظهره على جوهرها وحقيقتها، واذا لم يكن تمثل السعادة بالفطرة
ولا بالعادة، فانه سيكون كنموذج خيالي يسعى الانسان الى تحقيقة ومحاكاته، وبالتالي
سيختلف تمثل السعادة باختلاف الافراد والجماعات.
موقف الان اميل شارتيي: تتحدد ماهية السعادة كامل يرتمي في المستقبل ولا يتحقق
في الحاضر، امها من طبيعة منفلتة ووهمية تختفي بمجرد تحققها، لذلك يقول هذا
الفيلسوف: الامل في السعادة هو السعادة. غير ان السعادة لا تنفصل عن مجموعة من
الصعوبات والعقبات تفرض على الانسان اكراه مواجهتها والتصدي لها،ومن ثمة تتخذ
السعادة صيغة الانتصارات المتوالية ،وعليه تقترن السعادة بالافعال الحرة والخاضعة
لقواعد مما يجعل الاستدلال على وجودها صعبا وتوقعها في المستقبل مستحيلا، انما
يمكن تحصيلها في الحاضر، وذلك ما يجب على كل انسان القيام.
موقف افلاطون: تتحدد ماهية السعادة كغاية مجتمعية سياسية تشمل كل
الافراد والافئات، غير ان هذه السعادة المعممة قد تعود بالضرر على الدولة، لذلك
فهي مشروطة بقيام الافراد بوظائفهم وادوارهم حسب فئاتهم وانتماءاتهم الطبقية حتى
اذا اصبحت الدولة قوية اتاحت للجميع التمتع بالسعادة على قدر انتمائهم وطبيعتهم
ومعدنهم، وعليه تكون السعادة الفعلية هي التي تتحقق للدولة.
خلاصة: يتضح
مما سبق صعوبة تحديد ماهية السعادة، والتي اختلفت المواقف الفلسفية في مقاربتها
وتناولها ، فاذا كان الفارابي يقرنها بالعلم والعمل ، فان شارتيي ربطها بالحاضر
والواقع ، بينما شرطها افلاطون بالعمومية والشمول، ورغم الاختلاف القائم حول ماهية
السعادة فان هذه الاخيرة تظل مطلبا وجوديا ملحا، فهل يمكن تحصيلها رغم صعوبة تحديد
ماهيتها؟
المحور الثاني: البحث عن السعادة: كيف يمكن تحصيل السعادة؟ وهل بلوعها ممكن ام مستحيل؟ هل
يكفل اشباع اللذات تحقيقها؟ أليس البحث عنها ومحاولة تحصيلها سببا في الشقاء
والتعاسة؟
موقف ارسطو:يؤكد المعلم الاول ان نيل السعادة وتحصيلها لايكون
باشباع الرغبات واللذات الحسية أو العقلية، مادامت السعادة مكتفية بذاتها ولا
تحتاج الى غيرها، لانها الخير الاسمى الذي يحتاج بلوغه الى افعال وسلوكات تهدف الى
تحقيق العدل والجمال والحق، ومن ثمة فهي لا تنال في زمن قصير أو مدة هينة.
موقف ابيقور:ان الطريق لتحصيل السعادة هو اللذة بوصفها الخير الطبيعي
الاول،وهي اساس الحرية والقدرة على الاختياروالحكم، ولذلك لابد من توجيهها نحو
الغايات العليا، اي لايجب الانسياق وراءها حين يؤدي ذلك الى ضرر أو شر، لان اللذة
ليست ملاحقة للمتعة، بل هي الابتعاد عن الالم وتحقيق الطمأنينةالنفسية مما يسمح
بممارسة تفكير معقلن الذي يمكن بدوره من الاختيار والابتعاد عن الاراء الخاطئة وعن
كل اسباب الشر، ومن ثمة تكون السعادة خيرا أسمى.
موقف شوبنهاور: ان الطريق الى السعادة هو الحاجة والحرمان والالم
والعذاب، ذلك تن تحقيقها هو نفي لهذه الحالة من النقص التي تعتري الانسان، ومن ثمة
فالسعادة من طبيعة سالبة وهي حالة مؤقتة ينقطع فيها الالم ليستمتع الانسان بما
لديه، لكن سرعان ما تعود حالة الخصاص والحرمان، وفي احسن الاحوال الملل والفتور،
وعليه ترتبط السعادة بالشقاء والتعاسة، لانها نفي مؤقت لهما، وهي مجرد امل عابر قد
يؤدي السعي وراءه الى التعاسة.
خلاصة: نخلص
بالنهاية الى ان السعادة غاية انسانية يحاول الجميع تحصيلها وتحقيقها، غير ان
العوام والخواص على حد سواء اختلفوا في طريقة السعي اليها، بل من الفلاسفة من
اعتبر هذا السعي سببا مباشرا للشقاء الذي يعيشه الانسان، اذ يمضي حياته يلهث وراء
تحقيق اهداف تتعبه. فكيف تكون السعادة واجبا؟
المحور الثالث: الواجب والسعادة: كيف تتحدد علاقة السعادة بالواجب؟ ألا يمنع القيام
بالواجبات من تحقيقها؟ وهل يمكن بلوغ السعادة الكاملة من خلال الواجب؟ وبأي معنى
يكون البحث عن السعادة وتعليمها واجبا؟
موقف برتراند راسل: ان وجود الواجب سبب في تحقيق سعادة البعض دون البعض
الاخر، وذلك ما ينفي عنها الصفة الانسانية، أي ان القيام بالواجب يفرض علاقة
متوترة بالسعادة، كما هو الحال في علاقة الاباء بالابناء، حيث لا تتحقق السعادة
بشكل مكتمل، ولذلك لابد من افساح المجال للمشاعر الانسانية وللابعاد الوجدانية
كالعطف والحب وأخذ سعادة الغير بعين الاعتبار.
موقف الان اميل شارتيي: ان تعليم السعادة للنشئ واجب على الانسان، وذلك بالكف
عن اظهار الجوانب التعيسة من الوجود، بل ان وصف الالم والبؤس للاخرين فعل لا
أخلاقي ، وبالتالي سيؤدي الامتناع عن التفكير في كل مظاهر التعاسة ليس الى سعادة
الفرد فحسب، بل الى سعادة المجتمع. يقول شارتيي في هذا السياق:سوف يكون المجتمع
رائعا لو ان كل واحد من الناس انشغل بوضع الحطب في النار عوض التباكي على الرماد.
موقف ابي حامد الغزالي: يؤكد حجة الاسلام ان السعادة الحقيقية هي السعادة
الاخروية، فاذا كانت السعادة الدنيوية ترتبط باحسن الاعمال والعلوم ، فان السعادة
الاخروية لاتنال الا بالايمان وباتباع الشرائع الالهية، وكذلك بمجاهدة النفس
والانقطاع عن مشاغل الدنيا وملاهيها، ولذلك يحتاج طالب السعادة الى خلوة يتأمل
فيها الوجود ليتقوى ايمانه وتتوطد صلته بخالقه، ومنثمة تكون السعادة الاخروية
واجبا لامناص من السعي اليه.
خلاصة: يتضح مما
سبق ان العلاقة بين السعادة والواجب وطيدة، حيث تفرز هذه العلاقة توترا في بعض
الاحيان، حيث يتحول الواجب الى عائق امام تحقيق السعادة، وتولد تكاملا واستمرارية
في احيان اخرى، حين يكون القيام بالواجب سببا وشرطا في تحصيل السعادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق