L
تحولات العقل العربي الاسلامي
تحولات العقل العربي الاسلامي
ان تقيس ما لا تعلم له مثلا على ما تعلم من
أمثال ضرب من الجهل، ولما كان العقل على اختلاف دلالاته بين الحكماء والفقهاء
امانة بها تميز الانسان عن غيره من البهائم، فكان الوسيلة لأداء الامانة بإصلاح
الارض واعمارها بالخير والعدل والاحسان، ولقد تبينا سابقا ضرورة فصل العقل
باعتباره رأيا ،عن القضايا العقدية الايمانية، بل فصل العقل بوصفه منهجا في
الطبيعيات والصوريات عن القضايا العقدية الصرفة، ويمكن في المقابل النهل من العقل السائر في العينيات والماهيات لحل
المسائل الفقهية التي تستجد بتغير العصور، ولعل لقائل أن يقول إن هذه الدعوى
تتناقض مع كونية الدين الاسلامي، والحال أن الاحكام الشرعية لا تغير ولاتستبدل
بتحول الظروف وتبدل الصروف، لان كل رأي لا يكون
الا من داخل الحدود الربانية والهدايات النبوية، لانها الاصل الذي يتم
الاجتهاد على ضوئه والاجماع بالرجوع اليه في قضايا فرعية يمكن اعتبارها لوازم
منطقية وعقلية للأحكام الالهية ضمن شروط لغوية بلاغية ومنهجية سياقية تعارف عليها
أهل الاختصاص، ولابد من التمسك بالقاعدة السالفة الذكر ألا وهي قصر العقل على
الفقهيات دون العقديات.
لابد من العودة الى البداية، لقد حمل الانسان
الامانة وهو مسؤول عن امانته في الدنيا والاخرة، العالم والجاهل، الفقيه والعامي،
غير ان الناس يعرفون الدين في بساطته ويسره وقناعته وصبره، بعيدا عن
الاشكاليات والتساؤلات والاحراجات والتجريحات، التي تشوش عليهم صفاء العقيدة،
وتنفث سموم الشك في الاركان الرصينة، وذلك الخطر كله والامر الجلل عينه، ولذلك حذر
العلماء من الافصاح عن القضايا الكلامية التي دارت رحاها ولازالت بين أطياف
متباينة للجمهور. ولعلنا لا نتجنى على أحد اذا قلنا ان كل الفرق والجماعات
الاسلامية قد افتتنت بالسلطة الا من رحم الله تعالى، والسلطة التي افتتنت بها هذه
الجماعات على ضربين:
-
سلطة سياسية مدنية حولت الكثير من الحركات الاسلامية الى
احزاب سياسية، أو الى خلايا مسلحة نائمة أو نشيطة، الأولى حاولت الوصول الى السلطة
على قواعد غير اسلامية لضرورة اجتماعية تاريخية كما تدعي، والثانية أعلنت الخيار
المسلح وسيلة لتحصيل السلطة أو انتزاعها.
- سلطة روحية اعتقادية جعلت من الجماعات المقاطعة لتداول
السلطة السياسية على شاكلة الغرب، اما صبرا واحتسابا أو استعدادا للخروج على
ولاة امورهم الذين لا يطبقون الشريعة، جعلت هذه السلطة تلك الجماعات وصية على الدين ونصبت نفسها مقياسا
مقصية كل من يخالفها الرأي في العقديات أو الفقهيات، اذ يؤدي بهم التشعيب إلى القفز من الفقه
الى العقيدة؛ كان يناقشوا الحكم المتعلق بالمسلم المذنب فينتقلون ضرورة الى التكفير
حينا و التضليل حينا آخر والى التبديع في الكثير من القضايا الخلافية بين شيوخ
النزعات والمذاهب المختلفة.
لقد جر استعمال العقل الطبيعي والصوري في
القضايا العقدية على العقل العربي الاسلامي نقمة ما بعدها نقمة، ذلك ان المتكلمين
الصقوا شبهة الطبيعة الشيطانية بالعقل، حتى صار هذا الاخير دلالة على التشكيك
والتزييف والتحريف للمعاني وعلى ما للإنسان من قدرة للتحايل على النصوص وتطويعها لأغراض
ومصالح عرضية، ومن ثمة صار استعمال الاليات المنطقية في تناول الامور العقدية
مذموما، ولذلك كتب السيوطي كتاب (المشرق في تحريم علم المنطق)، لأن في
استعمال المنطق تلبيس على العامة، بل والخاصة كذلك، ولنفس السبب حرمت الفلسفة التي
أمدت بعض العقول بالمناهج الخطابية والجدلية وبعض الافكار الدهرية الالحادية، بل
طال التحريم كل العلوم اليونانية، فتعطل علم الحيل والخيمياء والفلك وثلة من
العلوم الطبيعية الاخرى. فلو ركز المتكلمون بعقولهم المجادلة على الطبيعة
فساءلوها، لكان انفع للامة من السؤال عن الذات والصفات والحكم على العباد بالأهواء
والآراء، لو وجه واصل بن عطاء ذكاءه وفطنته الى الطبيعة لكان انفع للمسلمين من
قوله بالمنزلة بين المنزلتين، التي فرقت ولم تجمع وفتقت ولم ترتق. ولو وجه ابو
هذيل العلاف نباهته ويقظة ذهنه وسرعة بديهته الى الفيزياء، لكان نيوتن البغدادي العربي
قبل نيوتن الحقيقي صاحب نظرية الجذب العام في اوروبا. فهل كان استعمال العقل خاطئا
في الفكر العربي الاسلامي؟ وهل توفق الفقهاء في وضع مبادئ جامعة مناعة تسمح
باستنباط الاحكام الفقهية؟ ومتى كانت هذه المبادئ الفقهية مستمدة من المنطقيات،
لزم ان تكون نسيبة متغيرة بوصفها انتاجا عقليا له مجاله التداولي؟ ألن يكون اقحام
المنطقيات في استنباط الفقهيات حينها مغامرة لا تحمد عقباها؟
ترسخ بين بعض أهل الاجتهاد من المتكلمين
والمتضلعين في المنطق واللغة والفقه ،ان لاستعمال العقل المنطقي في العقيدة ضرر
بليغ على الامة الاسلامية، وخلاصة حجتهم ان صحة الدليل المنطقي ليست شرطا كافيا
للبرهنة على مسائل عقيدة، ذلك انه قد يستقيم الدليل ولا يحصل اثبات المسألة أو
نفيها، وعليه يكون للمنطقيات مجالها الخاص بها
لا يجب اقحامه في العقديات والالهيات، وبالتالي لا يمكن الوقوف عند الخواء
الذي يحول بين الانسان ومعتقده، لذلك وجبت العودة الى الاصول ولزم حصر العقل في
الفقهيات والاخذ بمبدأ الشورى المهمل، وهي مهملة لأنها ليست مجرد مبدأ سياسي بل
فقهي وقضائي وحياتي، يرتبط بوجود المسلم كفرد داخل الجماعة وبنية داخل نسق، مهتم بنسقه بقدر اهتمامه بنفسة وربما أكثر.
ليس من الغلو ولا من اللغو القول ان الرسالة
الاسلامية قد جاءت لا صلاح الفرد الذي لا ينفصل عن مجتمعه ماديا ومعنويا وروحيا
وجدانيا، وحسيا وعقليا، وليس اساس هذه اللحمة بين الفرد والمجتمع سوى وحدة البنية
العقدية والتجربة الايمانية، وبذلك تتحقق الغاية النبيلة والسامية بإصلاح الارض من
خلال اصلاح الفرد والمجتمع، فهل يكون الاصلاح تراتبيا ترتيبيا، ام متساوقا
متحايثا؟ النفينف رشيد 12-3-2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق