كتاب الأمير
لنيكولاس ماكيافيلي: قراءة في فصول مختارة
بمِرْقَنَة: النفينف رشيد
لم تنقطع قراءة المتن الماكيافيلي طيلة قرون، ولم ينشغل القراء بكتاب مثل
انشغالهم ب"الأمير"، الكتاب الذي ينبعث من رماده كالعنقاء، مولدا تأويلات
متنوعة ومختلفة، بل متعارضة في الكثير من الاحيان. استشهد بالكتاب وبصاحبه
الفلاسفة والأدباء والسياسيون؛ يقول سبينوزا:" ماكيافيلي مؤلف ثاقب
الفكر، كشف بتفصيل عن المقاييس الدقيقة التي يجب على أمير مدفوع بالميل إلى السيطرة
اتباعها لأجل تأسيس أو الحفاظ على السلطة"[1]،
أما روسو فقد استشهد بماكيافيلي في عدة مواضع من كتابه " العقد
الاجتماعي". بل كتب فريديريك الثاني " تفنيدا لأمير مكيافيلي"[2]
، كذلك كان موضوع رسالة دكتوراه بينيتو موسوليني [3]
كتاب " الأمير"، الحال أن الشخصيات التي قرأت هذا الكتاب كثيرة، وتنهل
من اختصاصات متباينة، اما خطابات الفلاسفة فحدث ولا حرج؛ منذ سبينوزا وصولا إلى
ماركس ونيتشه وغرامشي، هذا الأخير في نظر كلود لوفور من بين القراء الذين قدموا
تأويلا نموذجيا ل"الأمير". المهم أن هذا التعدد والاهتمام دليل على سلطة
النص الماكيافيلي، إنه نص ينبض بالحياة منذ قرون، مازال يجتذب القراء في نزال تحدٍ إلى يومنا هذا، نبع متدفق منذ القرن الخامس عشر، كأنه الأحجية السياسية التي تثير
اهتمام الجميع.
ينقسم كتاب الأمير إلى ستة وعشرين
فصلا، وهو هدية ل"لورانزو المديتشي"، يبدأ بأنواع الإمارات وكيفية إنشائها، وانتهي بالتحريض والحض على تحرير إيطاليا، ثم يرد تحديد لأنواع الإمارات
وكيفية التأسيس للسلطة والمحافظة عليها، كذلك الأسباب التي تؤدي إلى انهيار الإمارات
ونهاية الدول، وكذا الكثير من التوجيهات والنصائح للأمير إزاء الحاشية والجند
والشعب ... قد لا نبالغ في القول إن مضامين تلك الفصول تحتفظ براهنيتها، لأن
قراءتها تبرز مطابقتها للواقع السياسي الذي يعيشه العالم المعاصر. نقتصر في هذه
المقالة على قراءة الفصول، من الرابع عشر إلى التاسع عشر. فلماذا هذه الفصول
تحديدا؟
في هذه الفصول تحديدا ينتقل
مكيافيلي من تعريف الدولة والإمارة والجندية، إلى تحديد الحاكم في شخص الأمير، وهي
بذلك الفصول التي يبدأ فيها النصح للأمير وتحذيره، أي أنها تختزل تصور مكيافيلي
للسلطة بما فيها من واقعية، تجد سندها الدائم في التاريخ وفي الأمثلة والنماذج
الماضية، التي يستدعيها صاحب "الأمير" لتدعيم مواقفه وتصوراته.
يتطرق الفصل الرابع عشر إلى
واجبات الأمير إزاء الجند؛ أولها التزامه بالتفكير في الحرب والتخطيط والاستعداد لها، وكذا الاهتمام بفن الحرب
الضامن الأساسي لاستمرار الدولة، دليل مكيافيلي على هذا الادعاء ما قام به
فرانشيسكو سفورزا Francesco Sforza القائد المحارب الذي أصبح دوقا
لميلان خلال القرن الخامس عشر، بفضل اهتمامه بفنون الحرب والسلاح، عكس أبنائه
الذين تجنبوا متاعب الحرب واستكانوا إلى الحياة السهلة حتى ضاعت إمارتهم. فقدان السلاح
لا يؤدي فقط إلى فقدان الإمارة، بل إلى فقدان الكرامة الإنسانية كذلك، يقول في هذا
السياق: " ولعل من بين الشرور التي يؤدي إليها الافتقار إلى السلاح، تعريضك
للمهانة والاحتقار"[4] ؛ القوة عند ماكيافيلي
هي الضرورة التي لا انفلات منها، وأن الإرادة لا معنى لها بدون سلاح، لذلك فمن واجب الأمير الإحاطة بالمسائل العسكرية والفنون الحربية، وإلا أصبح محط احتقار من طرف
الجند، بينما يشك هو في إخلاصهم وولائهم، وبالتالي على الأمير حصر فكره في الحرب وما يتصل بها طيلة الوقت، خاصة أيام السلم حيث يتوجب عليه تدريب جنده ونفسه
باستمرار، ليتعود الجميع على تحمل الصعاب والمشاق، كما عليه أن يقوم بدراسة
جغرافية تضاريسية للبلاد، ليكتسب معرفة جيدة ببلده ويتمكن من تفهم طبيعة البلدان
الأخرى، وكذا من مراقبتها بيسر وسهولة أثناء المهام الاستطلاعية. هذه المعرفة
الجغرافية ضرورية لكل أمير بوصفها شروط القيادة الأولية، إذ بفضلها يتمكن من تعقب
الأعداء وإقامة المعسكرات وقيادة الجيش والتخطيط للمعارك وحصار المدن. يجد
ماكيافيلي في التاريخ نموذجا لهذا القائد المهتم بالحرب أيام السلم، والذي حقق
انتصارات وإنجازات بفضل هذه الخصلة، إنه الأمير فيلوبومين Philopoemin (252-183 قبل الميلاد)
الذي خطط لفدراليات المدن على الساحل الشمالي الغربي لليونان، لقد كان ذهنه منشغلا
على الدوام بالحرب ومسائلها، حتى في خرجاته مع الأصدقاء، حيث كان يضعهم أمام
وضعيات عسكرية إشكالية ويتناقشون فيها، بهذه الطريقة كان هذا الأمير مستعدا
باستمرار لقيادة الجيوش، والتخطيط للمعارك والحروب. لكن عقله أحوج ما يكون لمعرفة
التاريخ، حتى يتسنى له الاستفادة من تجارب السابقين، وتفادي الأخطاء التي وقعوا
فيها، عليه تقليد العظماء الذين قلدوا عظماء عاشوا قبلهم مستلهمين من تجاربهم
وشخصياتهم ومستفيدين من أخطائهم. يستدل ماكيافيلي مرة أخرى بالتاريخ المفعم بنماذج
لأباطرة وأمراء وقادة عملوا على تقليد غيرهم، تماما كما حدث في تقليد الاسكندر
المقدوني لأخيل، وقيصر قلد الإسكندر، وشيبيو Scipion (236- 183 قبل الميلاد) الجنرال الروماني الذي هزم
حنبعل واحتل قرطاجة، وسيروس Cyrus (600-530 قبل
الميلاد) الذي حول مملكة ميدية إلى إمبراطورية فارسية، والذي عدد المؤرخ اكزونزفزن
Xénophon
(430-355 قبل الميلاد) صفاته التي اتسمت بالإنسانية والتحرر الفكري. هذه الأساليب
والأعمال هي بوصلة الأمير وعدته لمواجهة نوائب الدهر وتجعله مستعدا لمقاومة تغيرات
القدر.
في الفصل الخامس عشر، يحدد
ماكيافيلي القواعد والأساليب التي يجب على الأمير اتباعها في علاقته بالرعية
والأصدقاء، كما يعلن معارضته للتصورات الطوباوية والخيالية للدول والإمارات، التي
تؤدي إلى انهيارها عوض الحفاظ عليها، لذلك تمسك بالوقائع الموضوعية في تحديده
لقواعد السلوك الخاصة بالحاكم. يتعلق الأمر إذن بمسألة أخلاقية في السياسة تراوحت
بين ثنائية الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، حيث التزمت التصورات المثالية بمفهوم
الخير وجعلت منه مبدأ أساسيا وغاية قصوى للدولة، وبالتالي لابد للحاكم من التزام
مبدأ الخير في سلوكاته وأفعاله. لكن ماكيافيلي يرفض هذا الطرح، مؤكدا أن الحفاظ
على السلطة رهين بمعرفة الحاكم متى يكون طيبا وخيرا أو لا يكون، بحسب ما تستدعيه
الضرورات والحالات التي تواجهه، هذا هو الأمير الواقعي الذي يشتهر بالصفات
الأخلاقية اللازمة للحفاظ على السلطة، لأن امتلاك كل الخصال الأخلاقية الحميدة،
والتحلي بجميع الصفات التي ترمز إلى الخير ، أمر مستحيل لعدم موافقته و تطابقه مع
الطبيعة الإنسانية، وعليه لابد للأمير من تجنب الفضائح التي تنجم عن عيوبه وتؤدي
إلى انهيار الدولة وضياعها، وهو مطالب بالتستر على تلك العيوب، إلا أن يكون
اشهارها في صالح دولته ومن أجل بقائها. هذا الخروج عند ماكيافيلي من التقابل
التقليدي بين الفضيلة والرذيلة، هو الذي يبرر هذا الموقف الأخلاقي الواقعي، بل إن
هذه الثنائية غير واضحة ولا متميزة عنده، يقول:" إن التعمق في دراسة الأمور،
يؤدي إلى العثور على أن بعض الأشياء التي تبدو فضائل، تؤدي إذا اتبعت إلى دمار
الإنسان، بينما هناك أشياء أخرى تبدو كرذائل ولكنها تؤدي إلى زيادة ما يشعر به
الإنسان من طمأنينة وسعادة."[5]
. يبدو من هذا القول ان الفضائل والرذائل نسبية ولا قيمة مطلقة لها، وهي متغيرة
بتغير المصالح والغايات التي يصبو إليها الإنسان، وبما أن غاية الأمير هي الحفاظ
على سلطته، فإن خصاله ومثالبه معلقة بهذه الغاية، أما الكرم والبخل، والطمع
والإيثار، والقسوة والرحمة، والتكبر والتواضع، والإيمان والكفر وغيرها كثير،
فليست غايات في ذاتها، بقدر ماهي مجرد وسائل. في هذا الفصل إذن دعوة من ماكيافيلي إلى استعمال الخير استعمالا أداتيا، أما الشر فيبدو متأصلا في الذات الإنسانية، وهو
الذي يفسر هذا الاستعمال الأداتي للخير. يقول ماكيافيلي: " لاريب أن الذي
يريد أن يكون طيبا وخيرا في كل شيء، يصاب بالأسى والحزن، عندما يرى نفسه محاطا
بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم"[6]
.
يتوسع الفصل السادس عشر في إحدى ثنائيات الفصل السابق؛ فضيلة الكرم ورذيلة البخل، لتوضيح نسبية القيم الاخلاقية
في مجال السياسة؛ فمادام الحاكم غير ملزم بالخير أو بالفضيلة كما يتصورها
المثاليون والخياليون، فإن فضيلة الكرم مضرة بالدولة في معظم الأحوال، في حين أن
رذيلة البخل قد أثبت نجاعتها وفعاليتها في بناء الدول والحفاظ عليها. أما فضيلة
الكرم فتعرض الأمير إلى مخاطر جمة؛ تستنزف خزائن دولته، مما يدفعه إلى فرض ضرائب
تثقل كاهل الرعية، التي تبدأ في إضمار الكراهية لحاكمها، وبالتالي يكون السخاء في
هذه الحالة نفعا للأقلية ومضرا
بالأكثرية، مما يؤدي إلى اضطرابات تهدد الأمير ودولته، حتى إذا أراد تدارك الأمر
والتراجع عن سخائه، اتهم بالبخل والشح. لكن على الأمير العاقل والحكيم أن لا يعترض
على وصفه بالبخل واشتهاره به، لأن الرعية ستدرك مع مرور الوقت أن حاكمها أكثر سخاء
وكرما مما يتصورون؛ ذلك حين يرى الناس المشاريع التي تنجز دون إرهاقهم بالضرائب
والإتاوات، ويستشعرون الأمن بفضل قدرة أميرهم على تأمين الوسائل الدفاعية اللازمة،
هذا الأمير الحكيم يكون كريما مع الأكثرية التي يأخذ منها الأموال، وشحيحا مع
الأقلية التي يمنحها من مال الدولة. لقد أثبتت الوقائع أن الحكام الذين اشتهروا بالبخل
والشح، كانوا موفقين في الحفاظ على دولهم، وتحقيق إنجازات عظيمة؛ يستشهد
ماكيافيلي على ذلك برجال الدولة الذين تعاملوا مع الفضيلة والرذيلة تعاملا
أداتيا، ولم يترددوا في قبول اشتهارهم بالبخل. بل منهم من اشتهر بالكرم أثناء سعيه
إلى السلطة، وبالبخل بعد التمكن منها والسيطرة عليها؛ ذلك هو حال البابا يوليوس
الثاني Jules ||( 1443-1513) الذي كان كريما في منح المال والوعد بالمناصب من أجل اعتلاء كرسي
البابوية، لكنه سرعان ما أصبح شحيحا بعد تحقيق غايته سنة 1503م، ليتمكن من شن
الحروب حفاظا على دويلاته البابوية États pontificaux ، وإعادة
لِتوازن القوى في إيطاليا، كذلك أمن ملك فرنسا لويس الثاني عشر 1466-1515 الملقب
أبي الشعب، ما يمول حربه على إيطاليا 1499-1504 بفضل صفة تقشفه وتقتيره، دون فرض
أي ضرائب استثنائية على الشعب. أيضا اتصف ملك إسبانيا فرناند الثاني 1452-1516
بالبخل، ولذلك حقق إنجازات سياسية مهمة، منها التوحيد بين مملكته ومملكة قشتالة،
وتوسعه في ايطاليا وأنهاء الحكم الإسلامي في الأندلس بإسقاط غرناطة، واتفاقه مع
الرحالة كريستوف كولومبس لإغناء الخزينة بالذهب القادم من العالم الجديد. لو كان
سخيا لما أمكنه تحقيق شيء من هذا، بل لكان مصير دولته الانهيار والزوال. الشح إحدى
الرذائل التي تمكن الأمير من الحكم، إذ بفضلها يتجنب الفقر وسرقة الشعب والضعف، الأمور
التي تفضي لا محالة إلى الإهانة وفقد الكرامة. رغم وجود عدد من الحكام الذين
اشتهروا بالسخاء، فإن ماكيافيلي يرى في هذا الأخير وسيلة مؤدية إلى السلطة، لكنها مضرة
بالسلطة القائمة. على الرغم من ذلك لابد للأمير من التوسل بالسخاء واستخدامه في
الحالات التي يحتاج فيها أن يكون كريما، لكن عليه أن يحافظ على ثروته الخاصة،
ويكون كرمه على حساب أموال الرعية أو أموال الآخرين، ولابد أن يكون كريما مع جنوده
ليضمن ولاءهم وإخلاصهم، ولا يقلل الإنفاق من أمول الآخرين حسب ماكيافيلي من شأن
الأمير وشهرته، بل يزيد منها ويعلي قدر سمعته، في حين أن إنفاقه من أمواله الخاصة
يضر به، ويؤدي إلى فقره وحقارته مما يحمله على السلب والنهب، ليصبح موضع كراهية و
حقارة في الآن ذاته، بينما التزامه البخل أو استخدامه الكرم من أموال غيره، يؤدي
به إلى الكراهية دون الحقارة.
يستمر مكيافيلي في الفصل السابع عشر بتناول
الثنائيات، وتحديد كيفية التعامل معها أو استخدامها، يتعلق الأمر هذه المرة
بالرحمة والقسوة، كيف يجب على الأمير أن يكون، رحيما رؤوفا أم قاسيا غليظا؟، وهل
يجب أن يكون مهابا أم محبوبا؟. لن يخرج مؤلف الامير عن منطقه في السياسة، على
الحاكم استخدام الرحمة بحذر وفق شروط، أما استخدام القسوة فمستحب لأنه يحقق
النظام والولاء والاستقرار، يجد ماكيافيلي الحجة في الواقع على نجاعة القسوة
وفعاليتها، حين يستحضر قيصر بورجيا César
Borgia
1475- 1507م وإنجازاته، لذلك لا يجب على الأمير أن يكترث لاشتهاره بالقسوة، لأن
هذه الأخيرة أفضل من الرحمة التي تؤدي إلى الاضطرابات وسفك الدماء، فيتضرر منها
مجموع الرعية، بينما قسوة الأمير لا تكون إلا على بعض الأفراد، ومع ذلك تفرض
النظام وتحقن الدماء، لهذا السبب يكون الأمراء الجدد أحوج من غيرهم إلى استخدام
القسوة والصرامة، حتى يتمكنوا من تأسيس دولتهم. ويستشهد المؤلف بالشاعر اللاتيني
فيرجيل Virgile
70- 19 قبل الميلاد، الذي يحث على الحذر والحزم والصرامة في إقامة الإمارات
الجديدة.
يرى المؤلف أن
اجتماع المحبة والخوف أمر مستحيل، لذلك على الأمير اختيار أحدهما، فإما أن تخاف
الرعية منه أو تحبه، والأفضل أن تخافه لأن طبيعة الإنسان الأنانية و المصلحية
تدفعه إلى الإساءة إلى من يعمل على أن يكون محبوبا لديه، بينما يدفعه الخوف إلى
الخشية من العقاب، من هنا على الأمير معرفة الطريقة التي يسلب بها الأرواح
والممتلكات، أي أن تتوفر لديه دائما مبررات لفعله، والطريقة التي يحافظ بها على الأرواح
والممتلكات. إن علاقة الأمير الذي يريد أن يكون محبوبا، شبيهة بالصداقة الزائفة
التي تشترى بالمال، أما الذي يريد أن يكون مهيب الركن فمثل الذي يبني الصداقة على
نبل الروح الإنسانية وعظمتها. القسوة إذن مفتاح الحفاظ على السلطة، وبما أن هذه
الأخيرة لا تقوم لها قائمة إلا بالقوة والسلاح، فلابد للأمير من التعويل على
القسوة والصرامة مع جنوده وقادتهم؛ تلك حال القائد القرطاجي حنبعل 247- 183 قبل
الميلاد، الذي كان صارما مع جنوده فضمن انتظامهم و وحدتهم وولائهم في مختلف
الظروف، رغم أعدادهم الكبيرة وجنسياتهم المختلفة. يصرح ماكيافيلي أن القسوة فضيلة
من فضائل هذا القائد التاريخي، شكلت إلى جانب فضائله الأخرى صورة الإنسان المخيف
في نظر جنوده، وبالتالي كانت سببا في انتصاراته وإنجازاته. أما النموذج التاريخي
الذي حقق نجاحاته باللين والرأفة مع الجنود، فهو عدو حنبعل القائد الروماني شيبيو
الذي ثارت عليه جيوشه، لأنه كان متساهلا مع اخطاء وحماقات قادة الجيش، كما سمح
للجنود بأشياء لا تتفق مع النظام العسكري، فاستحق لوم مجلس الشيوخ حينها، ومع ذلك
ساهمت شهرته بالرحمة في مجده. في كل الأحوال على الأمير ان يؤسس سلطته على الخوف،
لأنه تجسيد لخضوع الرعية لإرادته، أما الحب فمؤسس على الإرادة الخاصة للآخرين،
وليس أضر بالسلطة من الخضوع لسلطان غير سلطان الأمير.
يمكن عنونة الفصل الثامن عشر ب" حفظ
العهود"، حيث حافظ ماكيافيلي على واقعيته السياسية، مقيما التقابل بين الكائن
وما ينبغي أن يكون؛ صحيح أن الوفاء بالوعود والصدق في العهود فضيلة تجعل الأمير
يعيش بنبل وشرف، لكن الوقائع تفند ذلك، لأن الحكام الذين حققوا الإنجازات والإنتصارات
لم يكونوا مهتمين للوفاء بالعهود، بل حققوا ذلك بالمكر والخديعة والدهاء، ليتغلبوا
بسهولة على خصومهم الذين التزموا بالوفاء والإخلاص والصدق. بما أن الصراع بين
البشر يتخذ أحد السبيلين؛ القوة أو القانون، وبما أن الإنسان يلجأ إلى الثاني في
أغلب الأحوال، فإنه يكتشف قصوره ويلجأ إلى السبيل الأول، الذي يُترك في العادة
للحيوان، لذلك على الأمير معرفة استخدام الطريقتين معا، ولا أدل على ذلك حسب
المؤلف من الرمز الأسطوري القنطور، الكائن الذي يجمع بين الصفات الانسانية و
الحيوانية، ودرب مجموعة من القادة على نظامه، مفاد ذلك أن الأمير مجبر على
المزاوجة بين الصفتين، مادام وجود إحداهما مستحيل دون الأخرى. لكن شرط استخدام
الطريق الحيوانية هو محاكاة ذكاء الثعلب، ليكشف المؤامرات والدسائس ويفشل
مخططاتها، وتقليد قوة الأسد لإرهاب الأعداء والمتربصين، فالقوة بدون ذكاء غير
كافية، والعكس صحيح أيضا. من ذكاء الأمير وحكمته عدم الالتزام بالوعود متى تعارضت
مع مصالحه، ومبرر هذا النكث بالعهود طبيعة الإنسان الشريرة، التي تدفع الناس إلى
نقض عهودهم ومواثيقهم، في كل الأحوال لن يعدم الأمير مبررات لتنكره و نقضه للعهود،
من أجل تحقيق غاياته وأهدافه، أما الأمثلة من الواقع فليست بالمنعدمة ولا
القليلة؛ أمراء وملوك كثيرون نكثوا عهودهم من أجل مصلحة دولتهم. غير أن الأمير
مطالب بإخفاء دهائه مكره عن الناس، ليتحتم عليه إتقان المداهنة والرياء والخداع، يستحضر ماكيافيلي نموذجا لمثل هذا
الأمير، وهو البابا أليكسندر السادس 1431-1503 الذي عرف بالمكر والخداع مما أهله إلى تحطيم نفود عائلات مرموقة مثل عائلة سفورزا. تؤدي الصفات السالفة الذكر إلى النتيجة
التالية: التظاهر بفضائل كالرحمة والإخلاص والتدين، خير من الاتصاف بها فعلا، لأن
الحفاظ على الدولة يتطلب القيام بأعمال مخالفة للإنسانية والدين. الخير والشر إذن
في تصور ماكيافيلي وسيلتان تستعملان حسب الحاجة من أجل الوصول إلى السلطة أو
الحفاظ عليها، لذلك على الأمير أن لا يتناقض في تصريحاته مع فضائل عددها مؤلف في
خمس: الرحمة، حفظ العهود، الشعور الإنساني النبيل، الإخلاص، التدين؛ إنه يقولها
ويفعل نقيضها، ذلك هو حال ملك إسبانيا فردناد الثاني، الذي أكثر الحديث عن السلام
وحفظ العهود، لكنه يعمل بنقيضهما.
يحذر ماكيافيلي في الفصل التاسع عشر، من كراهية
الشعب و النبلاء والجنود واحتقارهم للأمير، لأن ذلك من أسباب انهيار الدولة وضياع
الإمارة؛ في ارضاء الشعب ضمان لتقليص عدد الطامعين في السلطة والمتآمرين معهم، لأجل
ذلك عليه نجنب التقلب والتفاهة والتخنث والجبن والذل، وأن يحرص على تبرير أحكامه والتمسك بقراراته، لأنه في النهاية أمام خطرين؛ الأول داخلي يمكن تفاديه باحترام
الشعب، والثاني خارجي يمكن درؤه بقوة السلاح، لكن حب الشعب ضروري للأمير في كل
الأحوال، ذلك ما نجد له سندا في التاريخ، مع آخر مستبد في إسبارطة نابيس الإسبارطي
Nabis de Sparte 205-192 ق.م، الذي حاصرته
بلاد اليونان مجتمعة بتعاون مع الجيش الروماني، واستطاع مع ذلك حماية بلاده. يوعز
ماكيافيلي ذلك إلى أنه لم يكن موضوع كراهية من طرف الشعب، يقول في هذا السياق:
" ولعل خير علاج واق من المؤامرات أن لا يكون الأمير مكروها من جماهير
شعبه."[7] ،
يتحدث المؤلف عن أحداث دافع فيها الشعب عن أميره، تماما كما حدث في بولون عقب مقتل
أميرها بنتفوغلي Annibale Bentivoglio 1413-1445، حيث قتل الشعب
المتآمرين وأعاد إلى الحكم طفلا من سلالة الأمير. يعرج المؤلف على تعارض داخلي على
الحاكم معرفة التعامل معه، وهو تعارض بين إرادة الشعب في الاستقرار والسلام،
وإرادة الجنود في الحرب والغنائم، أي أن الأمير مطالب بكبح جماح الفريقين، من خلال
قدرته على الموازنة بين الإرادات لتفادي الكراهية، هذه الأخيرة تنجم عن الأفعال
الشريرة كما الخيرة، و كثيرون الأباطرة والقادة الذين لم يعرفوا التعامل مع القوى
الداخلية؛ الشعب والنبلاء والجنود، فكان مصيرهم مأساويا وضيعوا دولتهم، بينما توفق
آخرون في تحقيق انجازات مدوية بفضل قدرتهم على التعامل مع تلك القوى بالطريقة
الصحيحة. هذه الطريقة ليست شيئا آخر سوى النصائح المقدمة في الفصول السالفة، لكن
في هذه المسألة تحديدا يؤكد ماكيافيلي ضرورة إرضاء الشعب، وضرورة الابتعاد عن
الأنظمة حيث يكون بقاء المملكة بيد الجنود، كما في حالة السلطان العثماني الذي
أحاط نفسه بعدد كبير من الجنود. لابد من تفادي الكراهية والاحتقار بكل الوسائل،
لأنهما من أخطر الرذائل على السلطة.
تقدم لنا الفصول موضوع القراءة، تصورا عن
الكيفية التي تتأسس بها السلطة وتضمن البقاء، إذ غاية السياسة هي الوصول إلى
السلطة والحفاظ عليها، والسبيل إلى تحقيق ذلك مفتوح على جميع الإمكانيات، وكل
الوسائل متاحة مهما اختلفت طبيعتها، أما الفضيلة السياسية الواقعية الوحيدة هي
القيام بكل ما يلزم لبقاء الدولة. يعري ماكيافيلي السياسة من كل حمولة غير واقعية،
لقد كان منشغلا بتفكير جدي في واقع إيطاليا السياسي والتاريخي، ليستخلص قوانين
طبيعية للفعل السياسي، ممهدا بذلك للتنظير في السياسة ومؤسسا في الآن ذاته نزعة
واقعية في الفكر السياسي الغربي.
[2] Frediric ||, Refutation du prince de Machiavel,
ed ch. Fleischauer, Geneve,1958.
[3] نيكولا ماكيافيلي، الأمير، ترجمة خيري حماد،
دار الافاق الجديدة، بيروت، الطبعة الرابعة والعشرون.2002 ،ص 5
[4] نفس المرجع، ص132
[5] نفس المرجع ص 137
[6] نفس المرجع ص 136
[7] نفس المرجع ص 154
هل يمكنك إرسال لي هدا الكتاب في الخاص pdf
ردحذفهل المقال ام الكتاب. ?
حذف