الأربعاء، 4 مارس 2020

العالم الافتراضي أو الواقع المفرط في الواقعية

بمرقنة: النفينف رشيد                                   
                      العالم الافتراضي أو الواقع المفرط في الواقعية
  تتميز وسائط الاتصال الجديدة عن مثيلاتها الكلاسيكية بعدة مميزات، فبعد أن كانت تلك الوسائط متحكمة في أذواق الناس واتجاهاتهم، بما أنها قائمة على قانون العرض، أصبحت في الأزمنة المعاصرة و مع التطور التكنلوجي المتسارع قائمة على قانون الطلب، أصبح بمقدور الفرد اختيار المواد و المجالات و الموضوعات التي تهمه، وفي ظل هذه الوفرة في العرض تحرر الإنسان المعاصر بنسبة لا بأس بها من الرقابة، فلقد صارت هذه الأخيرة خفية ناعمة تتخذ شكل إحصائيات وتصنيفات للأفراد، انطلاقا من نشاطاتهم في العالم الافتراضي. إن الذي يحدد الافتراضي هو التصورات الجديدة للزمان والمكان والمسافات، حيث انمحت هذه الأخيرة و تحدد الثاني بالاتوطن والترحال، أما الأول فصارت تحكمه الآنية والراهنية ولم يعد زمنا كرونولوجيا ينقسم القسمة الثلاثية المعهودة. لقد تولدت هذه التحولات بالانتقال من الميكانيكي إلى الإلكتروني و من التماثلي إلى الرقمي ومن الماكرو تكنولوجي إلى الميكرو أو تكنولوجيا النانو، كذلك من احتكار التقنية التواصلية الحديثة إلى إشاعتها و نشرها للاستعمال العمومي، خاصة أن الانترنيت في بداياته الأولى كان مقصورا على الاستخدامات العسكرية و الإستخباراتية، شأنه في ذلك شأن مجموعة من التقنيات والأجهزة التي انتقلت مثلا من الاستعمال العسكري إلى الاستعمال الطبي، كالفحص بالصدى الذي استعمل أولا في الغواصات والبوارج الحربية. هذه الواقعة التاريخية تدفعنا إلى الجزم بأن وسائط التواصل التي تستخدم الآن لدى الجيوش القوية في العالم أكثر تطورا من الأنترنيت وعالمه، ولكننا نجهل وجودها لأنها ماتزال محاطة بالسرية، تماما كما كان الأنترنيت في بدايته إذ لم يكن يعلم العامة من الناس بل و خاصتهم كذلك بوجوده، ما خلا أفرادا محدودين يحافظون على سريته ويتكتمون على وجوده، تنكشف التقنية إذن في العالم المعاصر كقوة في نشأتها و امتداداتها، ولربما هذا هو السبب في التبجيل والمديح المفرط الذي تحظى به التقنية، وهو التبجيل الذي ينبغي الحذر منه كما نبه إلى  ذلك السوسيولوجي الفرنسي دومنيك والتن Dominique wolton ، بوصفه إيديولوجيا العولمة وطوباويتها؛ صحيح بالنسبة لهذا السوسيولوجي أن التواصل سمة بارزة من سمات المجتمعات المعاصرة، بل إنه السمة الجوهرية في الحداثة، لكنه رهان الحشود المجتمعات الفردانية، و لذلك ركز دراسته على الترابط بين علاقات قوى التواصل و التلقي، وليس خافيا الاهتمام بالتواصل في الفكر المعاصر، ولا قليلون هم الذين تناولوه بالدراسة و التحليل، و هو الاهتمام الذي يدل على حيوية هذا الفعل الإنساني وجوهريته، وفي الآن نفسه على عمق قضاياه وتداخلها بالسياسي و الإديولوجي و الإقتصادي... وبعبارة موجزة، في كل مظاهر الوجود الإساني، صار التواصل إذن شرطا ملازما للإنسان و الحضارة، وليس مجرد باراديغم جديد تحتكره الأوساط العلمية و الأكاديمية. خلق تحرر التواصل و تعميمه عبر الأنترنيت عدة مظاهر اجتماعية سياسية ونفسية، فكيف يمكن الحديث عن هذه الأبعاد الواقعية في إطار افتراضي؟ و ما هي طبيعة العلاقة بين الواقعي والافتراضي؟ أهي علاقة انفصال ومفارقة أم اتصال ومطابقة؟ وبأي معنى تؤثر وسائط التواصل الجديدة  في الواقع؟ أليس من باب الغلو اعتبار العالم الافتراضي أكثر واقعية من الواقع ذاته؟
  يعتبر العالم الافتراضي واقعا جديدا، و بهذا المعنى فإنه لا يتعارض مع الواقع و إن تمايز عنه تمايزا جذريا، لكن المفارقة هي تأثير الافتراضي في الواقعي والتحكم به؛ أصبح الإنسان المعاصر أمام حالة هلامية يتداخل فيها العالمان، لا يستطيع معها هذا الإنسان الفصل بينهما لانهما يشكلان معا شرطه المعاصر بامتياز؛ صار العالم الافتراضي جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية للأفراد و المجتمعات، فالمعاملات المالية والتجارية والاقتصادية ... التي  تتم في العالم الافتراضي وهي الأشياء الأكثر واقعية ومادية. يقول بيير ليفي Pierre Levy : " فلنعتبر بداية التعارض السهل والخادع بين الواقعي و الافتراضي، في الاستعمال العامي، حيث يعني الافتراضي الغياب المحض للوجود... الاختلاف إذن بين الممكن والكائن منطقي محض.". أما على المستوى الاجتماعي والسياسي فيمكن ملاحظة هذا التداخل بين الواقعي والافتراضي، في مجموع الأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة العربية، فيما عرف بالربيع العربي الذي لعبت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بحسبانها من العالم الافتراضي دورا مهما، فكانت الوسيلة العمدة لتحريك الجماهير وتنظيمها، ونفس الأمر تكرر سنة 2016 في تركيا حيث كان للعالم الافتراضي كبير الدور في إفشال الانقلاب العسكري، ولازال مقطع الرئيس التركي وهو يخاطب الشعب من خلال تطبيق السكايب skayp عالقا في الأذهان، والذي تناقلته وسائل الاعلام على نطاق واسع، ينضاف إلى ذلك تحكم العالم الافتراضي في المواصلات؛ حركة القطارات والملاحة الجوية و البحرية تعتمد جميعها على العالم الافتراضي، ناهيك عن الاتصالات السياسية والدبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية، التي قد تتوفر على شبكاتها الخاصة وعوالمها الافتراضية الأكثر تطورا، كما سلف الذكر، من هنا يخرج العالم الافتراضي إلى بقعة الضوء، فيشكل بحق المعيش الإنساني الجديد الذي يفرض نفسه بقوة يقول جيل دولوز Gille Deleuze في كتابه (الاختلاف والتكرار Différence et Répétition ):" يمتلك الافتراضي واقعية مكتملة باعتباره افتراضيا" ؛ يمكن أن نلحظ هذا التأثير في السلوك الجماعي، أي في سلوك الأفراد أثناء مزاولة أنشطتهم اليومية، الكل ينظر إلى هاتفه المحمول أو يضع سماعات أو يجري مكالمة وسط جموع من الناس وكأنهم غير موجودين، كل أفراد الأسرة منشغلون بالإبحار في العالم الافتراضي، مما يؤدي إلى غياب التربية الأبوية لتحل مكانها تربية  افتراضية، هذا الانفصال القسري للفرد عن الجماعة هو نتيجة طبيعية لتأثير هذا العالم، لم يعد الواقعي منتجا خلاقا، بل صار الافتراضي ملاذ المتعطشين للإبداع و الإنتاج و الحلم، حتى صارت  للأخير سطوة وهيمنة حقيقية على الأول، إذا تعطل الأنترنيت تتعطل عجلة المجتمع وتتوقف، أليست هذه هيمنة استبدادية للافتراضي؟
  ليس من شك في تأثر الفرد بالعالم الافتراضي بما هو جزء من مجتمع، أصبح قائما عليه أو إن صح القول خاضعا له، وأوجه هذا التأثر متعددة ومتنوعة تبدأ بالميل إلى العزلة والخمول، وتمر بالارتباط الوجداني بالخيالات والأوهام، لتصل في بعض الأحيان إلى الموت؛ صحيح أن الفرد يجد في العالم الافتراضي مجالا أوسع للتعبير، وإمكانيات متاحة للاختيار بحرية تامة، لكن هذه الحرية التي تكاد تكون مطلقة، والمستحيلة في الواقع، هي التي تدفع الفرد إلى العزلة مادامت ضالته موجودة في عالم افتراضي يغنيه عن غيره. لنأخذ مثلا على هذه الحرية الشبه مطلقة، محظورات العالم الواقعي كالجنس  والسياسة والدين، أصبح للفرد إمكانية عيش الجنس الافتراضي، من خلال الأفلام الإباحية والدردشات الجماعية الإيروسية والألعاب الجنسية الافتراضية...، حيث للفرد الحرية الواسعة لاختيار شريكه ووضعياته الافتراضية، يفرز ذلك ضرورة ما يمكن أن نسميه بالسلوك الجنسي الافتراضي، أو العزلة الجنسية، كذلك في مجال السياسة أصبح بمقدور الفرد التعبير عن آرائه بحرية أكبر من تلك التي يمنحه إياها العالم الواقعي، وهذا بدوره سلوك سياسي افتراضي للفرد، يمكن أن نسميه العزلة السياسية، لكنها العزلة التي قد تتحول، شأنها في ذلك شأن العزلة الدينية، إلى آليات الانتشار والاستقطاب والتعبئة الجماهيرية لصالح هذا التيار أو ذاك، ولعلنا نجد في تجنيد الحركات المتطرفة للشباب من كافة أنحاء العالم، بالاعتماد على وسائل الاتصال الجديدة خير دليل على آليات اشتغال تلك العزلة. في كل الأحوال لا يمكن إنكار التأثر الذي أضحى يمارسه العالم الافتراضي على الفرد بقوة، تتجاوز أحيانا إرادته و اختياراته. إن لعبة افتراضية تؤدي إلى الموت، لأكبر دليل على قوة تأثير الافتراضي على الفرد؛ لعبة الحوت الأزرق التي ظهرت عام 2013 من تصميم الروسي فيليب بودكين Philip Bodkin ، والتي كانت سببا في انتحار عدد من المراهقين في روسيا أولا، ثم في أنحاء مختلفة من العالم، مما دفع السلطات إلى اعتقال مصمم اللعبة بتهمة التحريض على الانتحار سنة 2016 ، لقد خلقت اللعبة حالة من الهلع الاخلاقي في المجتمع الروسي، حيث قامت السلطات بالتشريع للوقاية من الانتحار وبتحذير الرأي العام العالمي من هذه اللعبة. كان مصممها طالبا في  علم النفس وصرح بعد اعتقاله أن غايته كانت تطهير المجتمع من النفايات البشرية؛ الذين ماتوا ضعفاء لا يصلحون للعيش وقد كانوا سعداء بانتحارهم، أصبح تأثير العالم الافتراضي وسلطته على الأطفال والمراهقين، أكثر من السلطة الأبوية والتأثير الأسري، لينشأ ما يمكن نعته بالتربية الافتراضية، حيث تصبح مواد وعروض ذلك العالم مصدرا للقيم والأفكار والسلوكات والأذواق والمواقف والميولات، وصار البيداغوجيون والمربون أمام تحديات خطيرة تفرضها البرامج الخفية، التي تؤثر على الأجيال الصاعدة تأثيرا منقطع النظير، ومنفلتا من كل الرقابة التقليدية. في التقنية تكتمل الميتافيزيقا، لكن في العالم الافتراضي ينكشف الوجود بوصفه شرط الإنسان المعاصر، فلم يعد التقابل قائما بين الثنائيات الكلاسيكية التي تتمايز فيها الأشياء، بل أصبح التداخل إلى حدود التماهي بينها – الثنائيات – سمة جوهرية للعالم المعاصر، ذلك ما يتجلى في تحول العالم الافتراضي إلى وقع جديد مهيمن؛ فالغريزي لم يعد خاضعا إلى مجرد الثقافة السائدة في هذا المجتمع أو ذاك، وإنما إلى هيمنة وسطوة الافتراضي كذلك، من ثمة صارت الحدود بين الطبيعي والثقافي واهية، إذ أمسى الطبيعي افتراضيا وكذلك الثقافي؛ على المنصات والصفحات، وفي محركات البحث والمنتديات، و في غُرف الدردشة يتوحدان وينصهران في بعضهما البعض، والأمر نفسه بالنسبة إلى الحقيقة والوهم؛ كثيرة هي الحقائق التي تمسك بها الناس منذ قديم الزمن، أضحت موضع جدل و تشكيك و مثارا للسخرية والقطيعة في بعض الأحيان، بسبب تراجع سيادة المرويات الرسمية المؤسساتية، سواء أكانت دينية أو سياسية أو فكرية...
  رغم هذا التوحيد بين الثنائيات التقليدية في عالم الافتراضي، فإن هذا الأخير ذاته منقسم قسمة ثنائية، يمكن إدراجها ضمن الثنائية السيكولوجية، الوعي و اللاوعي؛ العالم الافتراضي الواعي أو ما يعرف عامة بالشبكة السطحية surface web ، ثم العالم الافتراضي اللاواعي أو ما يعرف عامة بالشبكات المظلمة و العميقة deep web and a dark web، في هذا القسم يتجسد اللاوعي الإنساني ويتحقق في أعتا تجلياته، في الشبكات المظلمة كل الممنوعات والمحظورات، التي تمنعها الرقابة في القسم الواعي من هذا العالم، من الانحرافات الجنسية وتجارة الخدرات والأسلحة و البشر، و القتلة المأجورين، إلى فيديوهات القتل المباشر والاحتجاز والعنف المبالغ فيه، إضافة إلى الكتب المحظورة  والوثائق السرية...، تماما مثل جبل الجليد، لا يظهر على سطح العالم الافتراضي سوى الجزء الأصغر، أما الجزء الأكبر فيتخفى تحت في الشبكات المظلمة والعميقة، إذ تبلغ نسبة النشاطات التي تتم فيها تسعين بالمائة من مجموع النشاطات في العالم الافتراضي بقسميه، علما أن تلك النشاطات ليست افتراضية بمعنى انحصارها في الأمكان والوجود بالقوة، بل إنها نشطات واقعية تبدأ على الشبكة وتنتهي بمعاملات مادية حقيقية، لهذا العالم عملته الخاصة التي أضحت قيمتها مجاوزة لكل العملات العالمية، عملة البتكوين Bitcoin التي أصبحت متحكمة في جزء كبير من التجارة الإلكترونية، عملة رقمية التي اخترعها شخص مجهول يطلق على نفسه الاسم المستعار ساتوشي ناكاموتو Satoshi Nakamoto  ، وهي نظام معلوماتي للدفع و إتمام الصفقات بمختلف أنواعها، يتزايد انتشاره يوما بعد يوم. ليس العالم الافتراضي واقعيا فحسب بل إنه مفرط في الواقعية.
  تحدث بيير ليفي في كتابه "على سُبل الافتراضي" "Sur Les Chemins Du Virtuel" عن عملية فَرْضَنة Virtualisation الجسد والنص والإقتصاد...؛ أصبح الإنسان المعاصر موجودا بفضل تقنيات الاتصال وما يسميه هذا المفكر بالحضور البُعدي أو عن بعد téléprésence ، أصبح الجسد الإنساني معروضا من الداخل، وصار الطريق إلى الجسد النموذجي الافتراضي عبارة عن مكملات غذائية وعمليات تجميلية...، فرضنة الجسد الإنساني مجرد خطوة جديدة في مغامرة الخلق الذاتي، إذ تحولت الإدراكات الحسية إلى أفعال افتراضية مرتبطة بجهاز، الهاتف للسمع والتلفاز للرؤية و كذلك الألعاب الإلكترونية كأجهزة للمس وللتفاعل الحس حركي، من هنا ينشأ تعميم للأعضاء الافتراضية، أي أن الناس يشاهدون نفس الشيء بنفس الطريقة و في نفس الوقت، ويتشاركون عينا افتراضية كبيرة بفضل الكاميرا وآلات التصوير، ونفس الأمر يُقال عن السمع وعن مجموع الإدراكات الحسية. كذلك أصبح النص افتراضيا بتحوله من الحامل المادي الورقي إلى الحامل الإعلامي الافتراضي، فصار بهذه الطريق في متناول عدد كبير من القراء، ولم يعد نسخه يتطلب سوى بضع ثواني، ومشاركته مع الجميع غدت ممكنة أكثر من ذي قبل، أما المجتمعات الافتراضية فأصبحت قادرة على تنظيم ذاتها ووضع قوانينها الخاصة، أيضا صار الإقتصاد افتراضيا وكل النشاطات الرئيسية العالمية تحولت إلى رقم معاملات. لقد أكد ميشيل سير Michel Serres على عملية الفرْضَنة التي خضعت لها الذاكرة والخيال والمعرفة والدين، وهي العملية التي تجعل من الافتراضي خارج الهناhors là  ، وليس وجودا هنا على الطريقة الهايدغرية، مما يفضي إلى القول بأنطولوجيا افتراضية تختلف عن نظيرتها التقليدية. بهذا المعنى مرة أخرى يصير العالم الافتراضي واقعا مفرطا في الواقعية.


هناك تعليقان (2):