التحولات الدستورية و صورية العمل السياسي
بدأ التفكير في الدستور منذ وقت مبكر من تاريخنا المعاصر، لكننا نجد
أصول التعاقد بين الشعب و النظام الحاكم، في مفهوم البيعة الذي كان أول ميثاق بين
الطرفين، حيث كانت تأتي مكتوبة من كل مدينة و قبيلة على حدة، لكنها كانت تعبيرا في
الواقع عن العلاقة النظام الحاكم و الأعيان و شيوخ القبائل و الزوايا، كما كان
للفقهاء سلطة قوية في هذا التعاقد الأولي، و احتلت الفتوة مكانة مركزية في الحياة
السياسية، كما كانت المساجد فضاء عموميا لتوجيه الرأي العام، ورغم الطبيعة الدينية
لهذا التعاقد، فإنها عبرت عن انقسام السلطة السياسية، بين نظام الحكم و من يمكن
اعتبارهم ناطقين باسم العامة من الناس، إذ تُظهر لنا البيعة المشروطة لسنة 1908
واقعية هذا الانقسام " توالت رسوم البيعة من مختلف جهة الإيالة الشريفة تعلن
السمع و الطاعة لظل الله في الأرض دون قيد أو شرط... و لم يشذ عن هذه القاعدة إلا
علماء فاس. فقد رأى أنشطهم محمد بن عبد الكبير الكتاني أن تتضمن بيعة أهل الحاضرة
الإدريسية مجموعة من الشروط تتعلق بالحفاظ على استقلال المغرب"[1]،
كما يبرز مشروع الدستور لنفس السنة بداية الاهتمام بهذه الوثيقة التأسيسية، و هو
الاهتمام الذي بدأ في الدولة العثمانية منذ سنة 1876، لكنه واجه عدة عراقيل و ظل
العمل به معلقا عشرات السنين. أجهضت المحاولات التأسيسية في مغرب الحماية، و أصبح
الوضع مختلفا في ظل تقسيم السيادة، ليتوقف ذلك التطور الذاتي الداخلي الذي بدأ
يتبلور، و تم طمر مبدأ التعاقد الأولي الذي كان مُؤطرا ضمن مقاربة دينية، لكنه مع
ذلك بناء ذاتي و إن افتقد للمشاركة الشعبية، أي أن الدستور ما قبل الحماية كان
مشكلا من طرف جمعية تأسيسية، مثلها الفقهاء و الأعيان أولا، ثم المثقفون المغاربة
لاحقا، رغم أن هؤلاء و أولئك لم يكونوا منتخبين من طرف الشعب." في بداية
1905، عرف المغرب ميلاد أول مجلس للأعيان، يمثل بعض المدن و القبائل، لعب دورا
كبيرا في مناقشة مشروع لإصلاحات حاولت فرنسا فرضها على المغرب..."[2]،
و قد حاول مشروع الدستور الأول تحديد الهيئات السياسية الأولى، حيث عرفت المادة 35
منتدى الشورى على أنه مؤلف من هيئتين: مجلس الأمة و مجلس الشرفاء، لكنه ظل مع ذلك
يضمر إطلاقية سلطة المخزن، من خلال عدد من المواد التي تضع السلطان في أعلى هرم
السلطة، بينما حاولت بعض المواد الأخرى ضمان حرية أعضاء منتدى الشورى، نقرأ في
المادة 39 التالي:" كل عضو من أعضاء منتدى الشورى حر في آرائه لا خوف عليه من
المخزن و رجاله..."[3]،
تعبر هذه المادة عن تلك السلطة المطلقة التي كان يتمتع بها المخزن و أعوانه، كما
تعبر عن جوهرية مطلب الحرية في الحياة السياسية المغربية، منذ البدايات الأولى
لتكونها على الشاكلة العصرية. أما أول دستور تم إقراره عن طريق الاستفتاء فهو
دستور 1962، الذي أعقبته انتخابات 1963 التي أنتجت أزمة في سير الحكومة و
البرلمان، انتهت بحل هذا الأخير وإعلان حالة الاستثناء سنة 1965، بعد انعدام
أغلبية عددية التي تكون الأداة البرلمانية لاستقرار الحياة السياسية، و انعدام الائتلاف
الوطني لتعذر تشكل الأغلبية، مما أنتج جمودا للمؤسسات التمثيلية و أزمة ديمقراطية
حقيقية، إذ شهدت هذه المرحلة صراعا حزبيا أفضى إلى انسداد أفق الممارسة السياسية،
فبعد الصراع مع الملكية مطلع الستينات انتهى بتشكيل مجلس دستور معين سنة 1960، تحولت
للصراع ضد بعضها البعض، و صارت الانشقاقات الداخلية للأحزاب سنة سياسية، لازالت
تطبع الحياة السياسية المغربية إلى يوم الناس هذا. لكن القانون الأساسي لسنة 1961
كان إعلانا عن التأسيس للملكية الدستورية، و تمهيدا لصياغة دستور للبلاد و لنشأة
الحياة النيابية للأمة، لكن هذه العملية لم تكن سلسة و لا انسيابية، حيث عارضت بعض
القوى السياسية دستور 1962، أشهرها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي قاطع
الاستفتاء، لذلك يعتبره البعض دستورا ممنوحا، يهمش الأحزاب و يمنح الحكومة أدوارا
ثانوية، بينما حافظ على سلطة العاهل المطلقة و المتعالية، بوصفه زعيما دينيا
مُقدسا و بوصفه القائم بعدة وظائف جوهرية في الدولة، يحق للملك مثلا حسب الفصل 27
من هذا الدستور حل البرلمان، كما لا يحق لهذا الأخير مناقشة مضامين الخطابات
الملكية، كما أن الملك رئيس لعدد من المجالس العليا، و رغم كثرة الفصول التي تؤكد
سلطة الملك المطلقة، فإن الفصل 110 و هو آخر الفصول أكثرها دلالة، حيث يقر
التالي:" إلى أن يتم تنصيب البرلمان يتخذ جلالة الملك التدابير التشريعية و
التنظيمية اللازمة لإقامة المؤسسات الدستورية و لتدبير شؤون الدولة"[4].
لم يكن تعديل سنة 1970 أوفر حظا، إذ لقي رفضا من جانب المعارضة ممثلة في حزب
الاستقلال و الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، التي دعت الشعب إلى التصويت بلا على
التعديلات، بعد تشكيل كتلة وطنية دعا ميثاقها التأسيسي إلى إرساء ديمقراطية سياسية
و اقتصادية و اجتماعية حقيقية، وظلت سلطة الملك مطلقة متعالية لا يمكن الاعتراض
على إرادتها، ذلك ما يقره الفصل 37 الذي يمنع اعتقال أي عضو من أعضاء البرلمان
بسبب رأيه، ما عدا إذا كان الرأي يجادل في النظام الملكي، أو الدين الإسلامي أو
يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك. كذلك رفضت قوى المعارضة دستور 1972، الذي
جُمد العمل به إلى حدود سنة 1977، " لم تستأنف الحياة الدستورية إلا ابتداء
من 14 أكتوبر 1977 في إطار ما سمي حينها بالمسلسل الديمقراطي الذي دشن بإجراء
انتخابات محلية و تشريعية تدخلت الإدارة فيها بشكل مباشر لصالح مرشحي المخزن و هو
ما أفرغ المسلسل من محتواه. فقد أمسى البرلمان مجرد غرفة تسجيل و الحكومة أداة
طيعة في يد الحسن الثاني. و هو أمر ظل ساريا رغم توالي الأزمات السياسية و
الاقتصادية حتى مطلع التسعينيات." [5].
مع انهيار جدار برلين شهد
العالم تحولات جوهرية، كان لها تأثيرها على الحياة السياسية في المغرب، فبدأت
أحزاب المعارضة ممثلة في حزب الاستقلال و الاتحاد الاشتراكي، بمحاولة إحياء مسلسل
الانتقال الديمقراطي منذ 1989، حيث ظهر في برامج الحزبين مطلب تعديل موسع للدستور،
و في سنة 1992 تقدمت خمسة أحزاب باسم الكتلة الديمقراطية بمذكرة مفصلة في الموضوع
للقصر، لكن عدم استجابة هذا الأخير، دفعت مكونات الكتلة باستثناء حزب التقدم و
الاشتراكية إلى دعوة المواطنين لمقاطعة الاستفتاء دون جدوى، إذ اعتمد الدستور
الجديد بعد أن أعلنت السلطة نسبة مشاركة
100 بالمائة تقريبا، و لم يأت هذا الدستور بجديد مختلف عن سابقيه، لكن دستور سنة
1996 كان متقدما مقارنة بسابقيه، حيث تضمن بعض مطالب المعارضة التي توافقت مع
الإكراهات الدولية، خاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان و الحريات العامة، إضافة
لتحديده علاقة السلطة التشريعية و التنفيذية، و إصلاح الإدارة و القضاء و ضمان
انتخابات نزيهة، هذه المرة دعت الكتلة إلى التصويت بنعم على الدستور، وتمكنت أحزاب
المعارضة من الولوج إلى بعض المناصب الحكومية، و هو ما تتوج بتشكيل حكومة التناوب
سنة 1998. استمر العمل بهذا الدستور إلى حدود سنة 2011، حين تصاعدت موجات الاحتجاج
في العالم العربي كما في المغرب، و أوكلت مهمة تعديل الدستور إلى لجنة ملكية
معينة، و ليس إلى هيأة منتخبة أو لجنة مختارة، فكانت الوثيقة الجديدة توفيقا بين
سيادة الأمة و الفصل بين السلط و حقوق الإنسان، و بين سلطات الملك كمكمن للسيادة،
كما أحدثت هيئات للنهوض بالتنمية البشرية و المستدامة و الديمقراطية التشاركية، و
أخرى للنهوض بحقوق الإنسان و الحريات العامة، و غيرها من الهيئات و المجالس العليا
المستحدثة. لكن نتائج هذه التعديلات لم تؤت أكلها، و لم تحقق ما كان مأمولا و موعودا
منها، إذ استمر التعثر الحكومي و شلل الحياة السياسية في ظل الدستور الجديد، كما
استمرت الاحتجاجات الشعبية التي لم تتجاوز دائرة المطالب الاجتماعية و الاقتصادية،
سواء في مدينة الحسيمة أو جرادة كان الواقع الاقتصادي و الاجتماعي المزري، سببا في
خروج المواطنين إلى الفضاءات العمومية، علاوة على فشل الإصلاحات القطاعية و
التنموية.
لقد كانت الإصلاحات
الدستورية في المغرب منذ بدايتها، إعلانا عن وجود الأزمة لا بد من تجاوزها، لكنها
عبرت في الوقت ذاته عن إرادة تأسيس الحياة السياسية، وفق نموذج يزاوج بين الحداثة
و القدامة، بين التقليد و الإبداع، و بين الديني اللاهوتي و العلماني الناسوتي.
لقد تمظهرت النزعة الإصلاحية للدساتير المتعاقبة بالمغرب، في مجموع المخططات
التنموية المتتالية؛ منذ المخطط الخماسي بين 1960 و 1964 الذي كان همه إعادة هيكلة
النظام الاقتصادي المغربي، من أجل تحريره من الخط الاستعماري الذي وضعته فرنسا،
لكن تم تجديد إستراتيجية المخطط و صار الاتجاه نحو مواجهة البطالة و إنعاش الشغل كأساس لأي مشروع تنموي، و
بين 1965 و 1968 ركز المخطط على الفلاحة و الصادرات و السياحة، و شجع على سياسة ليبرالية في
مجال الاقتصاد، فتوجه استثمار الدولة نحو إنشاء السدود لإنعاش تصدير المنتجات
الفلاحية، و أنشئت سلسلة فنادق لإنعاش القطاع السياحي. وعلى نفس الشاكلة جاءت
مخططات 1968-1972 و 1973-1977 ثم
1978-1980 و 1983-1987، وصولا إلى برنامج الأولويات الاجتماعية 1993 و مخطط
التنمية 2000-2004، و المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، ثم المخطط
الأخضر سنة 2008. رغم هذه المخططات و الإصلاحات ظل المغرب متأخرا في سلم مؤشرات العالمية للتنمية، حيث احتل
الرتبة 126 مع ناميبيا سنة 2015 من أصل 176 رتبة[6]،
بل جاء متأخرا عن الدول العربية التي شهدت اضطرابات سياسية، مثل مصر و العراق بل
ودول تناضل من أجل استقلالها كفلسطين، ينضاف إلى تقرير الأمم المتحدة إقرار السلطة
الحاكمة بفشل النموذج التنموي، و لعل لهذا الإقرار و تلك الرتبة دلالته المرتبطة
بصورية الإصلاحات الدستورية، و عسر تفعيل مقتضياتها على أرض الواقع، كذلك تدل
مطالب بعض الأحزاب بمقاطعة التعديلات الدستورية، و تسجيل نسب مشاركة مرتفعة، على
هذه الصورية التي أفرغت الممارسة السياسية من مضمونها الحقيقي، حتى بلغ الأمر إلى
تراجع الحس الوطني لدى الناس، و ظهر ما يمكن أن نطلق عليه مُسمى الحماية الجديدة،
التي تتجسد في تطلع شريحة عريضة من الشباب للهجرة خارج المغرب، سواء أكانوا من
الفئات البسيطة أو المتعلمة، فتمت الاستعاضة بالتأشيرة على وثيقة الحماية التي سعى
إليها بعض المغاربة إبان الاحتلال الفرنسي. تحولت الدول التي كانت إلى أمس قريب
رمزا للقهر و الاضطهاد، إلى ملاجئ للمضطهدين و المتطلعين للحرية و الديمقراطية، لكن هذه الهجرة المأمولة و
الاضطرارية تستنزف الطاقات البشرية للبلاد، و تؤدي إلى نزعة فردية ينفصل بموجبها
الشخص عن الجماعة، و لا يقرن مصيره بمصيرها، بل يسعى جاهدا لإيجاد حلول فردية،
خاصة في ظل أزمة الثقة التي تجذرت بعد إخفاق النماذج التنموية الكبرى، و تراجع
الأحزاب عن أدوارها التأطيرية و التوعوية، و فقدانها في الآن ذاته قوتها
الإقتراحية.
لم تقتصر صورية العمل
السياسي على انسحاب الأحزاب، بل يظهر كذلك في تراجع فكرة الملكية البرلمانية،
مقابل حضورها القوي في الحوار العمومي حول المراجعة الدستورية، و رغم تحول هذه
الفكرة من كونها شعارا استراتيجيا للتعبئة، إلى مطلب مرحلي مثل بؤرة الإصلاحات،
لكنها لم تكن حاضرة في نصوص الدستور الجديد، حيث يتحدد نظام الحكم بالمغرب كنظام
ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية و اجتماعية، و مقومات النظام الدستوري في فصل
السلطة،و الديمقراطية المواطنة
و التشاركية، و في مبادئ الحكامة الجيدة و ربط المسؤولية بالمحاسبة. هذه العبارات
العمومية تبقى غامضة و ملتبسة، لأن تراتبرية السلطة حافظت على نسقها التقليدي،
" فمقابل التنصيص على مطابقة الحكومة للسلطة التنفيذية في منطوق الدستور، نجد
استمرارية تحكم الملك في توجيه مسار السلطة التنفيذية..."[7].
لقد أثبتت التجربة السياسية منذ الدستور الجديد صورية السلطة التنفيذية، حيث تمظهر
في عجزها عن تدبير الملفات الكبرى، و محدودية سلطتها في مواجهة مؤسسات و جماعات
الضغط، إضافة إلى عدم قدرتها على تفعيل المبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، بوصفه
مبدأ دستوري يمكن اعتباره المحرك الحقيقي للإصلاح، بل أكثر تعبير عن هذه الصورية
هو المقاربات الأمنية للحركات الاحتجاجية الشعبية، و التي لم تختلف عن مقاربات
السنوات الماضية، إذ لم تفشل الأوراش التنموية فقط، بل أفلست الوعود الحقوقية التي
جاء بها دستور 2011.
نجد في تأسيس بعض الأحزاب
بعد إقرار الدستور الجديد، دلالة على صورية العمل السياسي في المغرب المعاصر،و التي قامت على دعوة أساسية، و هي التأكيد على
مطلب الملكية البرلمانية، مثل الحزب المعارض للنظام المغربي، الذي أطلق على نفسه حزب
الشباب الديمقراطي المغربي، شكله عدد من الشباب المغاربة اللاجئين سياسيا في
اسبانيا، يضاف إلى ذلك سؤال: أين الثروة؟ الذي يعبر عن صورية مبدأ المحاسبة، حيث
تم الكشف عن الكثير من قضايا الفساد، التي لم يكن للسلطة القضائية أي تدخل فيها، و
هذا دليل واضح على تلك الصورية، إذ لم يتم تفعيل المبادئ و القيم التي جاء بها
الدستور، وظلت الممارسة السياسية رهينة الجمود، و لم تتحقق المشروع الديمقراطي
الذي لم يفقد طبيعته الانتقالية، كما سبق الوقوف على ذلك؛ تحول هذا العمل إلى حرفة
أو وظيفة، ترتبط بمهام التسيير و الإدارة أكثر من أي شيء آخر، " يؤمن امتهان
العمل السياسي الشعور بالقوة حتى لو لم يشغل من يمتهن العمل السياسي إلا مراكز
صورية متواضعة"[8]، فحسب ماكس
فيبر لا بد أن يتصف السياسي بالصفات الثلاث التالية: الشغف و الشعور بالمسؤولية و
بعد النظر، و هي صفات مترابطة مع بعضها البعض، حيث يمكن للشغف مثلا أن يؤدي إلى
فوضى سياسية و اجتماعية، إذا لم يكن مرتبطا ببعد النظر، كما أن الشعور بالمسؤولية
لا ينفصل عن القصية التي يؤمن بها السياسي، و إلا اتصف بالانفعال السياسي العقيم. يكون
افتقار المشهد السياسي لهذه الصفات، هو السبب المباشر في تحول العمل السياسي إلى
مجرد إجراءات عقيمة و متكلسة، لا تنعكس على الحياة اليومية للبسطاء من الناس، ذلك
هو الحال في المغرب، فربما كان غياب تلك الصفات في السياسيين المغاربة، أو في جلهم
على الأقل، سببا فيما آلت إليه الحياة السياسية، إذ لا يمكننا تفسير جمودها و فشل
مشاريعها إلا بغياب الرؤية البعيدة و المتأملة، فليس أضر على السياسية من عدم تبني
رؤية واضحة عن الأهداف و الغايات، و كذا الوسائل و الإمكانيات المتوفرة للدولة.
" وفي نهاية الأمر، لا نجد في مجال السياسة إلا نوعين من الخطايا المميتة:
عدم الدفاع عن أي قضية و
انعدام المسؤولية..."[9].
فإذا كانت السلطة شرطا أساسيا في السياسة، فإن الرغبة في السلطة ليس لها نفع على المجتمع
، بل تكون في كل الأحوال مجرد سبب لصورية الممارسة السياسية.
انتهينا إلى مجتمع بلا معارضة على حد تعبير هربرت ماركوز، و صار
مجتمعنا أحادي البعد معتمدا على أشكال الرقابة، التي تولدت في أحضان المجتمعات
الغربية، فرغم أنها ميزة الحضارة الصناعية المتقدمة، فإنها تنطبق على المجتمع
المغربي الذي صارت سياسته نحو التحديث و العصرنة، و مثل المجتمعات الغربية في لحظة
تاريخية سابقة، اعتمد العمل السياسي في المغرب على نفس المبادئ التي حددها ماركوز
للرقابة، " الرفاه، الفعالية، افتقاد الحرية في إطار ديمقراطي..."[10]،
إذ لم يتوقف مجتمعنا عن محاولة التحرر من البؤس، مما أفضى إلى فقد حرية الفكر و
الاستقلال الذاتي، ليفقد معها الحق في المعارضة السياسية، فيتحول العمل السياسي
إلى مجرد ممارسات صورية، و تصبح الدولة كيانا منفصلا عن الأفراد و عن وعيهم.
" إرثنا هو إرث الدولة السلطانية... كانت السلطنة دولة القهر و السطو و
الاستغلال. لم تكن تستوجب ولاء الفرد الذي كان يتولى عوضها الأمة و العشيرة. كانت
الدولة معزولة كليا و مرفوضة ذهنيا."[11]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق