الشرط السياسي المغربي بين الإمكان و
الاستحالة
يمكننا أن نطلق على مسار الممارسة السياسية
في المغرب المعاصر، مسمى الشرط المغربي الذي طبعته تحولات متباينة، و النزوع نحو
عملية دمقرطة لم تكتمل بعد، و حفاظ السلطة على بنياتها التقليدية، و غياب مفهوم
الشعب ضمن التداول السياسي، حيث ظل محصورا بين الولاء للقبيلة أو الطائفة الدينية أو
الأسرية، من هنا يرتبط الشرط بالمشاركة
التي طالما حاول المجتمع المغربي تحقيقها، و بالانتقال الديمقراطي عسير المخاض،
كتعبير عن صعوبة في تشكل فضاء عمومي حر و متسامح مع المخالف. المجتمع المغربي
مشروط ببنيات سلطوية تقليدية، و في نفس الآن ببنيات ثقافية و إيديولوجية تحديثية
تقدمية، دون وجود أي تعارض بين النمطين؛ لم يعد للسلطة الدينية دخل في السلطة
السياسية، لكنها حافظت على سلطتها تلك في المجتمع، بينما كانت في السابق متحكمة
فيهما معا، لكنها لم تنسحب رغم ذلك من
المجال السياسي، كما تحولت التمثيليات النيابية إلى شكل جديد من التعبير عن
العصبية القبلية، في أجواء فقدان الثقة في
الأحزاب السياسية و سرعة انتشار المعلومة و تزايد الوعي السياسي الشعبي. لا يمكن إنكار
ظهور الأزمة على أصعدة مختلفة، بداية من السياسي مرورا بالاقتصادي و الاجتماعي،
وصولا إلى ما هو ثقافي و فني، و هي الأزمة التي شرطت المغرب المعاصر و
مازالت مستمرة في عرقلة الانتقال إلى مرحلة التقدم؛ و أول الانتقالات التي لم يكتب
لها التحقق بعد، الانتقال الديمقراطي الذي عبرت عنه الدساتير المتتالية، بوصفها
تعديلات لبعضها البعض، وجسدته ضبابية أدوار الأحزاب و المجتمع المدني، و أكده فشل
المخططات و المشاريع التنموية التي وضعتها الحكومات المتتالية، إضافة إلى ما سلف،
يمكن الكشف عن الأزمة التي تشرط الوضع المغربي في سوء توزيع الثروة، وفي تأزم
الهوية و الأخلاق،
كذلك في تراجع أدوار القطاعات الاجتماعية الحيوية، بما يطرح من إشكاليات متصلة بالتعليم و التطبيب
و التشغيل...، بكلمة واحدة بالمصير في ظل الأوضاع المتأزمة، سواء على المستوى
الداخلي أو الخارجي؛ إذ لا يمكن إغفال العلاقة المتشنجة للمغرب بجيرانه، أثناء
الحديث عن الشرط المغربي، و هي العلاقة التي تتغذى من صراع حول السيادة، لكنها
تنعكس على السياسة الداخلية و تؤثر فيها تأثيرا كبيرا، كما لا يمكن القفز على تقهقر
الوضع الحقوقي في المغرب، و هو الأمر الذي يعيق قيام كيانات مدنية و اجتماعية،
يكون بإمكان إرادتها التأثير في قرارات سلطة الدولة.
إن النزعة الإصلاحية التكرارية لأكبر دليل
على هذا الوضع المأزوم، إذ لم تفلح كل الإصلاحات التي شملت عدد من المجالات و
القطاعات الحيوية، بل وجدت نفسها في حالة من إصلاح الإصلاح وفق عملية تسلسلية
أفرغت من غاياتها و وظائفها، لأن مكمن الداء هو صعوبة تنزيل مقتضيات الدساتير و
المواثيق على أرض الواقع، حيث يمكننا ملاحظة ذلك بيسر كبير في الانفصال بين
التصورات النظرية للمشاريع و أهدافها المسطرة، و بين الأهداف المتحققة على أرض
الواقع، سواء تعلق الأمر بتلك المختصة بالمجالات الاجتماعية الاقتصادية، أو
المرتبطة بميادين السياسة و الحقوق، أو بفضاءات الثقافة و الإبداع. و لعل تلك النزعة التكرارية هي ما
يمنع الثقافة و المثقف من النفاذ في المجتمع، خاصة و أن مفهوم النخبة في المغرب لا
يشمل المثقفين، و لا تحتل الثقافة مكانة بين الأوساط العريضة من المجتمع. ليست هذه
النزعة منفردة ما يشرط الوضع السياسي المغربي، بل ينضاف إليها الدور الذي تلعبه
النخب وطريقة تشكلها؛ إذ تتحدد النخبة كفئة حاكمة لها انتماءات عائلية وأسرية
مخصوصة، تحرص على إقامة روابط بينها حفظا لانغلاقها على ذاتها. إن هذا الانغلاق هو
السبب المباشر في عدم اكتمال مفهوم الشعب، و في عدم تأثيره على الحياة السياسية،
فرغم إرهاصات تشكله إبان الصراع ضد الاحتلال الفرنسي، انسحب من المشهد السياسي منذ
الاستقلال فاسحا المجال للروابط القبلية والعرقية و الأسرية، خاصة مع الطفرة
الديموغرافية التي يشهدها المغرب المعاصر، و مع التغير في بنية المجالين القروي و
الحضري، و تغير العلاقة بينهما؛ فمن
جهة ساهم التزايد السكاني في طغيان نزعة فردية فتتت القيم الاجتماعية التقليدية، و
من جهة أخرى تراجعت نسبة سكان البوادي مقارنة مع المدن، و تحولت أراضي فلاحية إلى
مناطق سكنية، فتحولت وسائل الإنتاج إلى أدوات استهلاكية، مع ظهور فئة اجتماعية
جديدة تحولت من نشاطات زراعية، إلى نشطات أخرى خاصة التجارية منها، إذ استبدلت هذه
الفئة الأرض باعتبارها رأسمال عيني بالنقود كرأسمال منقول، هذا الظهور الفجائي
للفئات الاجتماعية و الهيآت
السياسية و الشخصيات العمومية، ظواهر تطبع المجتمع المغربي و تشرطه في الآن ذاته،
فلم تعد النخب هي التي تُصنع في المغرب فقط، بل صارت الفئات الاجتماعية و
التشكيلات السياسية نتاجا مُصنعا ضمن منظومة محددة. من المعلوم الدور الحيوي الذي
يلعبه الإعلام بوصفه جهازا إيديولوجيا من أجهزة الدولة في هذه الصناعة للنماذج
الفردية والجماعية، و ليست خافية المضامين و التوجهات التي تحكم الإعلام في
المغرب؛ في علاقته بالسلطة السياسية و الدينية و سلطة الأعيان و الشرفاء، و في
علاقته بكل جماعات الضغط المؤثرة داخل المجتمع. لقد أصبح محددا لنمط العيش خاصة
بعد دخول الكهرباء إلى العالم القروي، مما سمح للإعلام بالنفاذ إلى كل الشرائح
الاجتماعية، و صار مقياسا للوعي و الذوق الجمعيين، بما أنه خارج رقابة المجتمع
المدني في ظل غياب هيآت و جمعيات مستقلة ذات سلطة، يمكنها التأثير في وظيفته و
غاياته بما أن الإعلام مؤسسة لتربية ليس الأحداث فقط بل البالغين من المواطنين
كذلك؛ يمكننا في قراءة المجتمع من إعلامه أن نستشف الكثير من الدلالات المرتبطة
بما هو سياسي و اجتماعي؛ أولها مسألة الهوية و ما تطرحه من إشكاليات، و ثانيها و
ليس آخرها، المزاوجة بين النزعات التقدمية الحداثية و المنابع الدينية التقليدية،
يكاد يعلن الإعلام عن أزمة قيم أو بالأحرى، عن قيم جديدة لواقع مأزوم.
ألن يكون من باب المبالغة شرط الوضع السياسي و الاجتماعي للمغرب بالواقع
المأزوم؟ أليس هذا الافتراض واقعيا رغم سوداويته و جنائزية نبرته؟ ما هي و الحالة هاته الإمكانيات للخروج من هذا
الواقع المأزوم؟ أم يحتاج الأمر إلى سلطة سياسية و ليس إلى سلطة معرفية أو
ثقافية؟. ليس الأجوبة على هذه الأسئلة بالأمر اليسير، لكن طرحها، يفتح أمامنا على
الأقل فرصة للتفكير في واقعنا الراهن، و يسمح بالكشف عن إمكانيات للتحقق و عن
المستحيلات الممتنعة. أول تلك الإمكانيات العودة التدريجية إلى الهوية الوطنية،
خاصة و أن الأجيال الصاعدة لم تتأثر بثقافة واحدة مفروضة، بل تأثرت بثقافات متعددة
بعضها قسرا و بعضها اختيارا، لكنها الأجيال التي تبحث لنفسها عن هويتها الجماعية
في ظل التعددية الثقافية، و في خضم تأثيرات الحداثة والعصرنة، كما أنها الأجيال
المُنسحبة إلى عالم افتراضي، بوصفه بديلا للفضاء العمومي المفقود في الواقع، ولأن
للعالم الافتراضي تأثير في الواقع كما أثبتت العديد من التجارب، تبقى إمكانية
تحقيق التحول السياسي والاجتماعي انطلاقا من هذا الفضاء العمومي الافتراضي؛ هنا
صارت إمكانية اقتحام الطابوهات و تحطيم الأوثان و إبداء الرأي بكل حرية، و رغم
الرقابة التي تمارسها الدولة على هذا العالم الافتراضي، فإنها لم تستطع إلى حد
الآن التحكم في نشاطات الأفراد و المجموعات، خاصة في أجواء انشغال أمنها
الإلكتروني بكشف و تتبع النشاطات الإرهابية على الشبكة. يمكن أن يتشكل الشعب
بمفهومه السياسي الحديث و المعاصر انطلاقا من نشطات العالم الافتراضي، حيث قد تؤدي
النقاشات و المناظرات و الحوارات و الأعمال الفنية المنفلتة من الأدوات الرقابية
الرسمية، إلى تشكل و ازدهار وعي سياسي يوحد المكونات الاجتماعية، فتتحول إلى قوة
مؤثرة في القرارات المصيرية؛ انكشفت مع هذا العالم الافتراضي حقائق تتعلق ببعض
المؤسسات، التي طالما أحيطت بالسرية و الغموض، لكن انشقاق بعض العناصر المنتسبين
إلى تلك المؤسسات عنها، أخرج إلى العلن عددا من الوقائع التي لم يكن يجرأ أحد
التحدث عنها، و كانت وسائل التواصل و المنصات و المواقع في العلم الافتراضي أفصل
وسيلة لتعميم الحقيقة و تعويمها؛ خرج إلى العلن عدد من الضباط و العسكريين كاشفين
عن أسرار المؤسسة العسكرية، و البعض الآخر يفضح ألاعيب المؤسسات الاستخباراتية، ليتحولوا
إلى معارضين سياسيين من الخارج، بل منهم من حاول إنشاء حزب سياسي من ديار المهجر
كما سلف الذكر. يعدنا العالم الافتراضي بالكثير من الانكشاف، كما يعدنا باتساع
دائرة الضوء حول القضايا المعتمة، لكنه قد يتحول إلى شكل من إشكال التنفيس
الجماعي، و تبقى النقاشات و الحوارات حبيسة عالمها الافتراضي دون أن تؤثر في
الواقع، و دون أن تساهم في إنشاء وعي جماعي أو ازدهاره.
قد
تكون إمكانيات أخرى في لجة هذا الشرط المغربي، لكن ملامحها لم تتضح بعد و لم تتكشف
إرهاصاتها، وهي قائمة بالقوة باعتبارها إمكانيات فقط، أما الاستحالة فتبدو موجودة
بالفعل في مظاهر متباينة، أبرزها و ليس أهمها، انتفاء إمكانية لتحديد الديني خارج
الاجتماعي أولا و السياسي ثانيا، و إذا كان حضور الديني اجتماعيا لا يعيق المسار
الديمقراطي، فإن حضوره في السياسي لا يحرر تداول السلطة من أطره التقليدية، و هو
التحرير الذي يبدو مستحيلا ضمن ذلك الشرط، حيث تتدخل الدولة في تدبير و تسيير
القطاع الديني، الذي يخضع لتراتبية سلطوية إدارية تنتهي عند أعلى سلطة دينية في
الدولة و هي إمارة المؤمنين، من ثمة لا يمكن الحديث عن الحياة السياسية بمعناها
العلماني المحض، بل تتحدد هذه الحياة كمزيج من المبادئ الدينية و القيم العلمانية،
كما أن تغلغل الديني بأشكاله المتنوعة، و
إن كانت محصورة حاليا بين شكلين إذا استثنينا الشكل الرسمي، أي التيار الصوفي
المنتشر في المجتمع، و التيار السلفي المتصاعد الاستقطاب، لا يمكن تجاوزه أو نفيه
من التفكير و السلوك السياسيين؛ فقد درجت السياسة على استخدام الدين كلما دعت
الحاجة، ليس في المغرب فقط بل في العالم كله، بما في ذلك الدول التي لا تدين بدين
لكنها تدين بقوانينها. يستحيل علينا إذن تصور المجتمع المغربي في صيغة علمانية
محضة، كما يستحيل النظر إليه كمجتمع ديني رغم تدين أفراده، لكنه يظل مع ذلك مجالا
خصبا و مؤهلا لاستثمار الخطاب الديني لأغراض سياسية و إيديولوجية،توازي هذا الوضع
الهلامي للمجتمع سديمية السلطة السياسية، فهذه الأخيرة لم تستطع التخلي عن
الاهتمام بالشأن الديني، رغم فقدان رجال الدين سلطتهم السياسية التي تمتعوا بها
خلال فترة من الزمن، لم تعد لهم القدرة على فرض بيعة مشروطة، بل تحول الفقهاء إلى
موظفين في الدولة وظيفتهم الأساسية حراسة الشريعة. لكن وضع باقي مكونات الحقل
الديني في المغرب مختلف عن هذا المكون؛ فهي تروج لخطابات دينية مختلفة عن الخطابات
الرسمية، و إن التقت في كثير من النقط المشتركة، لكنها في جوهرها خطابات مبطنة
بإيديولوجياتها الخاصة، فبينما يحاول بعض الصوفية إقرار نموذج الخلافة، تجنح
السلفية الجهادية إلى نفس النموذج،و تتوقف الدعوية منها عن خوض السياسة، في إقرار منها بمبدأ الأمير المتغلب
المعلق العمل به. إنها جميعا تتطلع لنموذج سياسي ديني، و من ثمة ضرورة ضبط المجال
الديني و إعادة هيكلته من طرف السلطة السياسية، إذ يتعلق الأمر بإدارة للصراع حول
الحقيقة، على اعتبار استحالة التخلي عن امتلاك هذه الأخيرة في ممارسة السياسة، من
هنا استحالة فصل الديني عن السياسي في الواقع المغربي المعاصر.
ليست الاستحالة مقصورة على فصل الديني عن
السياسي، بل تطال علاقات أخرى بين مكونات الحياة السياسية، مثال ذلك العلاقات بين
الأحزاب التي يطبعها التوتر و الصراع حول النفوذ السياسي، متناسية في الكثير من
الأحيان المصلحة العليا للوطن، لربما يصعد ذلك بأصله إلى غياب مفهوم الوطن و قيم
الوطنية في ممارسات الكثير من الأحزاب و التشكيلات السياسية. تطال الاستحالة أيضا
بناء الوعي الشعبي في أمد قصير، أو في غياب إرادة سياسية تنشد ثورة ثقافية تعيد
تشكيل الشعب بصفته القوة السياسية الأولى و الأخيرة الدولة، إذ لا يمكن الحديث عن
أي نوع من الإصلاح و الرقي، دون إصلاح الذهنيات و رتق الفتق الموجود بين الفرد والدولة، و دون محو البون الشاسع بين الأفراد و الممارسة السياسية، التي تخضع في
الكثير من الأحوال إلى قواعد مغايرة تماما لقيم المواطنة و الديمقراطية، حيث تتحول
هذه الأخيرة في مجموعة من الإجراءات، وتتحول إلى مجرد أداة موسمية مرتبطة بالصناديق و الأصوات.
يبقى غياب المشاركة الشعبية في الشأن العام
العائق الحقيقي للانتقال الديمقراطي، و لأي إصلاح مهما كان مجاله أو القطاع الذي
يستهدف، و هو الغياب الذي يجد مبرراته إضافة إلى ما تمت الإشارة إليه- من حفاظ
السلطة على بنياتها التقليدية و تراجع لأدوار الأحزاب، و غيرها من الأمور التي
تشرط الوضع السياسي في المغرب المعاصر- في نظرة العامة من الناس في المغرب إلى
السياسة، و اعتبارها من الطابوهات التي يُحرم الخوض فيها، بل مجرد التفكير فيها أو
تناول مسائلها علنا ممنوع و محرم، فاقترنت حرمة السياسي بقدسية الديني في مزيج
متجانس، ما زال يحكم و يوجه وعي الأفراد و الجماعات، و كأن الأمر في حاجة إلى ثورة
ثقافية تحرر الفرد المغربي من خوفه الموروث عن سنوات النار و الرصاص ، أي إخراج
الفرد من حالة القصور و الوصاية
السياسيين، إلى حالة الكفاءة العقلية و الأخلاقية بوصفه مواطنا كامل المواطنة، فهل
يغيب مفهوم المواطن لنفس الأسباب التي غَيَّبت مفهوم الشعب؟ أم أن لهذا الغياب
أسبابه التاريخية و العقدية التي تتجاوز
الإرادة، فردية كانت أو جماعية ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق