الأربعاء، 19 فبراير 2020

عوائق بناء الدولة الوطنية المغربية

عوائق بناء الدولة الوطنية المغربية
   أسلفنا ذكر الدولة المغربية التي حافظت على بنيتها، رغم تعاقب السلالات الحاكمة عليها، و رغم خصوصية هذا الكيان السياسي، الذي ظهر في هذا الجزء من العالم، فإنه لم يكن استثناء من الخضوع لنفس التحولات التي شهدتها باقي الكيانات الضعيفة، منذ بداية القرن التاسع عشر؛ فمثلما تعذر بناء دولة وطنية بمعناها الحديث، و تكوين شعب بمفهومه المكتمل، في الدول العربية الإسلامية، عرفت الدولة المغربية خلال الفترة الممتدة من أربعينيات القرن التاسع عشر، و مطالع القرن العشرين، صعوبات جمة في بناء هياكلها الوطنية و تحقيق استقلالها الفعلي، أي المخاض الذي عبر عن نفسه في المشاريع الإصلاحية التي طبعت تاريخ المغرب الحديث و المعاصر، لم ينقطع الإصلاح في هذا البلد إلى يوم الناس هذا، لكنه لم يحقق غاياته المنشودة، بل انقلب في الكثير من الأحيان إلى نقيضه، مفسحا المجال أمام الفساد بشتى أنواعه و أصنافه. يبقى السبيل لفهم حقيقة هذه الظاهرة، هو التوقف عند العلاقة بين المشروع الكولنيالي و بنية السلطة في الدولة المغربية، من جهة، و عند علاقة الديمقراطية بالوطنية، من جهة ثانية، كما ينبغي التفكير في معنى السيادة و موقع الدستور ضمن العمل السياسي، فهذه القضايا هي المدخل الذي يطلعنا على العوائق التي تمنع دولة وطنية من الاكتمال في المغرب. لقد توقفنا سابقا عند مغرب القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين، من أجل فهم كيفية تلقي الوعي المغربي للمفاهيم السياسية الحديثة، بوصفه جزء من الوعي العربي. لكن استكمال الفهم يستوجب البحث في معطيات المغرب المعاصر، خاصة بعد مرحلة الاستقلال و ما شهدته من حركية فكرية و إيديولوجية و سياسية خصبة، ساهمت بشكل أو بآخر في تكون هياكل السلطة  و أطر المجتمع المدني، لكنها الهياكل و الأطر التي صارت إما شكلية و إما صورية، نتيجة لدخول المغرب شأن باقي دول العالم الثالث، في شبكة من العلاقات الاقتصادية و السياسية و الثقافية، فرضتها العلاقات الدولية لما بعد المرحلة الكولنيالي، التي شهدت انسحاب جيوش الإمبراطوريات الاستعمارية، مع الحفاظ على مصالحها في الدول المستعمَرة، لذلك لا مناص من العودة إلى جذور هذا الاستعمار الجديد، و أثره على الدولة الوطنية في المغرب. فما هي صور امتداد النفوذ الأجنبي في المغرب المعاصر؟ و كيف يؤثر ذلك في بنية السلطة السياسية و في معنى السيادة الوطنية؟ وبأي معنى يكون العمل السياسي صوريا في المغرب؟
   المشروع الكولنيالي و هيكلة السلطة
   يعتبر التدخل الأجنبي أكبر التحديات التي عرفتها الدولة المغربية، فمنذ بداياتها الأولى وجدت نفسها في مواجهة الأطماع الخارجية؛ من البرتغال و الأسبان إلى الأتراك و الإنجليز و الفرنسيين. لكن مطلع القرن العشرين كان إعلانا عن أفول قوة هذه الدولة في مواجهة الغزو، لقد بلغ الوهن درجة أصبحت فيها الاستعانة بأعداء الأمس، الحل الوحيد لإنقاذ الدولة التي لم تزدد إلا ضعفا و اضطرابا، خلال تلك الفترة،" في الأشهر الأولى من سنة 1912 كانت محاصرة السلطان في فاس من طرف القبائل، فاستنجد بفرنسا التي كانت متموقعة سابقا في الدار البيضاء على ساحل المحيط الأطلسي"[1]، يطلعنا هذا المقطع القصير لمستكشف بريطاني في المغرب خلال بدايات القرن العشرين، على الوضعية المتأزمة التي وصلت إليها الدولة المغربية حينها، مما سهل الاحتلال الفرنسي و تحكمه في زمام السلطة، لعبت فرنسا دورا مهما في فض الاشتباك بين المخزن و القبائل، لكنها فرضت شروطها على المخزن و قوت مصالحها في البلاد. أصبح المقيم العام الفرنسي الحاكم الفعلي، وانحصر دور المخزن بسبب ثقل المديونية الخارجية، و فراغ خزينة الدولة التي استنزفتها الصراعات الداخلية، فقبل الحماية و في غمرة المفاوضات من أجل سحب القوة العسكرية و الحصول على القرض، كانت الدولة واعية بضرورة تحررها من التدخل الفرنسي، حيث حاولت استبدال الخبراء العسكريين الفرنسيين بالأتراك، رغم فشل التجربة، فإنها تدل على وعي بتلك الضرورة، أو حالة فصامية عاشتها الدولة حينها. الحالة التي يمكن أن تكون طبيعية لدولة تتناهبها الدول القوية، إذ لم تصل القضية نع فرنسا إلى حل، كانت يد الإسبان ممتدة شمال المغرب تنهب مناجم الحديد، حتى ألمانيا حصلت على تنازلات اقتصادية من المغرب، دون أن نغفل حصة الإمبراطورية البريطانية في المنطقة. بمجرد أن حصل السلطان على البيعة في فاس، طالب بعض الشيوخ بطرد الأوروبيين من فاس، و منعهم من الدول إليها و عدم استشارة السلطان لهم، و التراجع عن تطبيق ميثاق الجزيرة الخضراء، و إجراء إصلاحات شاملة وإعلان الجهاد ضد المحتل. لقد كانت الدولة ممثلة في المخزن، موزعة بين قوى خارجية و داخلية، و بين محاصرة القوى الأجنبية لسلطة المخزن، بالمعاهدات  و القروض، وحصار القبائل الثائرة على السياسة الداخلية، و المطالبة بقطع الصلة بالأجانب و محاربتهم. لم يفتح حوار داخلي بين المخزن و المعارضة، فحتى القبائل الحوز التي استنجد بها لم تستجب، بينما كان العديد من القبائل ملتفا على مطالب موحدة، في المقابل، كان الحوار مفتوح مع الفرنسيين، مما دفع المخزن إلى الاستعانة بالجيش الفرنسي، و إقرار الحماية لاحقا.
   كانت بنية السلطة في مغرب ما قبل الحماية سلطانية، تنبني على المركز و يمثله السلطان و مساعده الصدر الأعظم، و أمين الأمناء و وزير الحرب و وزير الشكايات، إضافة إلى الإدارات المحلية و على رأسها خليفة السلطان، الذي يساعده العامل و القياد و الباشا و المحتسب و الأمين, لكنها فقدت بنيتها التقليدية تحت تأثير التدخل الفرنسي في سياستها الداخلة، فبعد أن انحصرت الدولة مؤسساتيا في المخزن و الجيش و الضرائب، وبعد أن حاولت الزوايا انتزاع الشرعية بوصفها مؤسسات تنظيمية، تأثر ت الأجهزة الإدارية السلطانية بالسياسة الكولنيالية، نظرا لهشاشة تلك الأجهزة و ضعفها، لذلك تمت محاصرة وظيفة السلطان و تمزيقها، ثم تعويض الوزارات التقليدية بالحديثة انسجاما مع البنية الكولنيالية، مع ذلك لم تزل هذه الأخيرة البنية التقليدية،، بل استدمجتها دون القضاء عليها، فأصبحت السلطة الفعلية في يد المقيم العام، و فقدن الدولة استقلالها بعد أن فقدت هيبتها، أحدثت إدارات مركزية و جهوية و محلية استعمارية، من طرف الفرنسيين و الإسبان استعانت بالقياد والبشوات، تاركة للسلطان صلاحيات ضيقة تنحصر في دوره الديني و توقيعه على الظهائر، استخدم الاستعمار مؤسسة المخزن لصالحه، ظل للقياد مثلا نفس الدور و الوظيفة و أصبحت لهم طبيعة فيودالية، بفعل دعم المستعمر لهم قصد القضاء على البنيات التقليدية للقبيلة، و بينما تم احتواء الأعيان الأغنياء في المدن، كانت القبائل و الزوايا ثائرة على سلطة المخزن و الاحتلال في الآن ذاته. أما قبل ذلك فقد تحول السلطان إلى قوة جابية للضرائب، و مواجهة للقبائل الثائرة، " تتراءى لنا مجموعة من القبائل تصبو كلها إلى استقلاليتها، لا يمسك بزمام الثلث أو النصف منها إلا بالقوة داخل ما يسمى ب ( بلاد المخزن)، المكونة من المناطق التي بحكمها السلطان الذي لا وظيفة له و لا مبرر لوجوده إلا جمع الضرائب..."[2]، صارت وظيفة المخزن تحكمية حصرا، ففقد سلطته الفعلية في غمرة تحقيق ذلك، إذ لم يجد بدا من الاستعانة بالقوة الأجنبية، محافظا على استمرارية تقاليد الماضي في ممارسة السلطة رغم العوامل الخارجية، غير أن هذه الاستمرارية كرست في الوقت نفسه نفوذ بعض الطبقات الاجتماعية، التي صارت كيانا وموازيا داخل الدولة المغربية، على رأس تلك الفئات، القياد الذين اخترقوا بشكل كبير بنية السلطة، من خلال علاقاتهم القوية مع الفرنسيين، إلى جانب فئة التجار التي استفادت من التدخل الاقتصادي الأوروبي في الأسواق الوطنية، حيث اتخذ التمايز الاجتماعي صيغته الطبقية، فكانت لفئة المحميين المكونة من الشرفاء و التجار المغاربة، النصيب الأوفر في احتكار جزء مهم من الثروة و السلطة، و لعل أكبر دليل على وهن سلطة الدولة هو نظام الحماية القنصلي، الذي يعطي للممثلين الدبلوماسيين و القناصل الأجانب الحق في منح حماية دولهم لسكان البلد الذي توجد فيه تمثيليتها، حيث تكون هذه الفئة غير خاضعة لقوانين بلدها الأصلي، و لا ملزمة بأداء الضرائب أو بأية واجبات أخرى، و في ذلك هدم فعلي لسيادة الدولة، خاصة أن فئة المحميين صارت تتسع، و أصبح الحصول على الحماية من دولة أجنبية ميزة يسعى وراءها الكثير من الأفراد، مما دفع بعض رجال الدين إلى التحذير من التعامل مع الأجانب بوصفهم كفارا، " و ذكر الكفار بما فيه من تعظيم لهم شأن الموالين لهم و الذين يسافرون إلى بلادهم للتجارة معهم فإنهم لا يتحدثون كلما اجتمعوا في الغالب إلا بما فيه تعظيم لهم يمدحونهم و قوانينهم... وهذا و العياذ بالله قريب من الكفر"[3]، كانت مسألة الولاء و البراء و حكم التجنس بجنسيات الكفار، من مشاغل أرباب الزوايا و الشيوخ خوفا على ضياع الدين و فقدان الهوية، و كانت بالنسبة للسلطات الفرنسية وسيلة لخلخلة البنية السياسية، وتفكيك سيادة المغرب عبر تفكيك بنيات السلطة و الاقتصاد و المجتمع، لذلك لم تعتمد فرنسا خاصة، على قوتها العسكرية فقط، و إنما سخرت رصيدها في العلوم الإنسانية لدراسة المغرب، من أجل التحكم فيه بطريقة أفضل. بعد نمو التجارة البحرية و احتلال فرنسا للجزائر، اضمحلت المحاور التجارية التقليدية، و ازدهرت في المقابل بعض الموانئ و شهدت نموا سريعا، مما جلب أفواجا من سكان المدن الداخلية نحو السواحل، للاستفادة من حركة الاستيراد التي جلبت معها عادات استهلاكية جديدة، سهلت انتقال التحكمية من المخزن إلى الفرنسيين، خاصة و أن الإصلاحات التي قام بها المخزن لم تكن جوهرية،" فقد انحصر الإصلاح في ارتداء آلاف من المغاربة الزي التركي، و استيراد مجموعة من المدربين العسكريين الأجانب، و الإعلان عن إنشاء قوة عصرية من المشاة"[4] لتتحول في ظل ذلك فكرة الحصول على الحماية الفرنسية، أو العيش ضمن البنيات الاقتصادية والاجتماعية الفرنسية، إلى نوع من الخلاص السياسي و الاجتماعي. كرس هذا الوضع التعارض بين الحاضرة و البادية كما أسلفنا في الفصل السابق، حيث لم تستطع المدن في المغرب لعب نفس الدور الذي لعبته في أوروبا، و ظلت مجرد رمز للمركزية، حتى صارت مع الاحتلال الفرنسي منفذا لمنجزات المدينة الأوروبية، لكنها في الآن ذاته مثلت بؤرة لصراع النخب القديمة و تشكل نخب جديدة، فبينما انشغل وجهاء المخزن بصراعات من أجل المصالح، تغلغلت فرنسا في البنيات الاجتماعية و الثقافية بالبلاد، لم تكن السيطرة العسكرية كافية لترسيخ الاحتلال الفرنسي، بل امتدت لأنماط عيش المجتمع و تبادلاته و قيمه، هذا يعني أن مسألة الولاء للدولة ممثلة في المخزن، و الذي كان موضع نزاع دائم بين هذا الأخير و القبائل مرارا، و بينه و بين سكان المدن أحيانا، لم تعد واردة في سياقاتها التقليدية . سواء تعلق الأمر بمغرب الحماية أو ما بعد الاستقلال، فإن بنية السلطة ظلت متشظية لأسباب خارجية و أخرى داخلية، و تنتج أنماطا من السلوك السياسي المطبوع بالجمود، صحيح أن مرحلة المطالبة بالاستقلال و ما بعده كانت دينامية، و عرفت حركة سياسية جسدها صراع الحركة الوطنية ضد الإقطاع القائدي من جهة، و ضد الاحتلال الفرنسي من جهة أخرى،و هي المرحلة التي تميزت بتزايد المقاومة المسلحة في المدن، كما شهدت انقسام هذه الأخيرة إلى قديمة و جديدة، حيث مثلت المدينة الجديدة الحضور المعماري للمحتل، الذي ولد الأحياء الصفيحية بوصفها مدنا هامشية و طفيلية، فكانت لذلك آثاره في التشكيلات الاجتماعية  و في وعيها، مما أدى إلى تحالف بين المخزن و الحركة الوطنية، خاصة بعد محاولة فرنسا تغيير السلطان، و الإقدام على نفيه، لتستمر بنية السلطة الهشة للدولة المغربية، و تستمر معها الوصاية الفرنسية، التي لا يمكن الجزم بنهايتها مع الاستقلال، و لا يعني هذا التحول الاجتماعي و الاقتصادي الذي أحدثه تغير بنية المدينة، القضاء على البنية القبلية كبنية اجتماعية و سياسية أصلية، بل ظلت ثاوية في السلوك السياسي لمختلف مكونات الدولة، فساهم زوال الأنظمة الاستعمارية في اتساع المنافسة بين الجماعات الموجودة، و في استمرار الأنظمة القبلية التي تحولت إلى تكتلات سياسية، تحاول تعزيز السلطة المركزية. لكنها التكتلات التي لم تكون موحدة أو منسجمة، شأنها شأن باقي التنظيمات شهدت صراعات داخلية، مثل الصراع بين الأسر داخل الحركة الوطنية، " و من غير المستبعد أن تكون العداوة بين أسرة الفاسي و أسرة الوزاني من أهم العوامل التي أدت إلى انقسام الحركة الوطنية سنة 1937"[5]. لقد تكرس نفوذ الأسر (البرجوازية ) في ظل الإقطاع القائدي، و عرف عن بعض البشوات في المغرب استبدادهم و ظلمهم للمغاربة، في مقابل إخلاصهم الشديد للفرنسيين، لكن دور الأسر السياسي لم يقتصر على هذا النموذج، إذ انخرطت في الحركة الوطنية التحررية بداية، و في الأحزاب و الهيئات السياسية و الإدارات، حيث تحولت معظم الأسر (البرجوازية) إلى طبقة بيروقراطية و تقنوقراطية لاحقا. تتداخل إذن عدة مكونات في تشكيل بنية السلطة في المغرب، لذلك لا يمكن انتزاع هذا التشكل من تاريخيته، التي تجعل من التدخل الخارجي عاملا حاسما في قلب بنيات السلطة، منذ ما قبل الحماية و إلى اليوم. يمكن ملاحظة صراع داخلي آخر بين فئة التجار الفاسيين الذين راكموا رأس المال وسيطروا على الإدارة، و فئة التجار السوسيين المعتمدين على التمويل الذاتي، و رغم إن الصراع لم يكن ملموسا، فإن الفئة الأولى كانت تنظر للثانية على أنها أقل درجة، رغم دورها الحيوي في الترويج لسلع وبضائع الفاسيين، في هذه العلاقة المتوترة بين الفئتين يبرز دور القرابة و العصبية، كعامل تميز من جهة، و وحدة من جهة أخرى. إن معنى هذه المنظومات من القرابة داخل المجال السياسية، هو التأكيد على استمرارية البيات القديمة في التأثير، رغم إقامة بنيات حديثة على الطراز الأوروبي. عاد لمخزن ما بعد الاستقلال قوة أكبر، خاصة بعد تصفية النزاعات الداخلية و الإقليمية، كما عادت البنيات التقليدية إلى لعب دورها السياسي والاجتماعي، فالقبيلة التي تصارع المخزن لم تختف قبيل و بعد الاستقلال، حيث عرفت تافيلات ثورات سنة 1956 و الريف سنة 1958، و هي الثورات التي تكشف عن تجذر النسق القبلي، الذي ظل حاسما حتى في تجربة تكوين الأحزاب بصيغتها الحديثة، ظلت السياسية المغربية محصورة بين التقاليد المخزنية و الحياة القبلية، و بذلك عجز نظام الحماية عن إقرار هيكلة السلطة وفق المبادئ الرأسمالية و الليبرالية، لكنه كرس نظاما من الهيمنة و التبعية، و دعم النزعة الحربية للمخزن، ولبعض الجماعات التي فوض لها استعمال العنف، بخبراته العسكرية و التقنية.
   تندرج ضمن سياق بنية السلطة في المغرب بعد الاستقلال، مؤسسة الجيش التي لعبت عبر تاريخ المغرب، دورا حاسما في الحفاظ على الدولة، غير أن وظيفتها السياسية ظهرت بعد محاولة الاستحواذ على السلطة، بداية سبعينيات القرن العشرين، لكنها المحاولة التي تحمل دلالات كثيرة، أبرزها تحول الجيش إلى نخبة سياسية تشارك في صنع القرار، و ليست مجرد أداة للتنفيذ و وسيلة للحفاظ على السيادة، علما أن تحوله إلى هذا الدور السياسي، جاء نتيجة لاحتكاك فئة لا بأس بها من المغاربة بالقوات الفرنسية، سواء من خلال المهن العسكرية أو الإدارية، إضافة إلى التغلغل الأجنبي عامة و الفرنسي خاصة، في مكونات الجيش المغربي منذ الإصلاحات الأولى،" فالاعتماد على الأسلحة المستوردة لتحديث الجيش و تجهيزه ببنادق و مدافع على غرار الجيوش الأوروبية كانت في الواقع وضع البلاد تحت رحمة المصانع الأجنبية و إدخالها فيما يمكن أن ننعته ب ( التبعية التكنولوجية)"[6]، هذه التبعية التي مازالت سارية المفعول إلى اليوم، و التي ساهمت سابقا في تشكل الدور السياسي للجيش المغربي. لقد أصبح مؤثرا في سلطة القرار إلى درجة إقدامه على محاولة وضع اليد على الحكم، لكن الجيش انسحب من المشهد السياسي في المغرب المعاصر، مع الاحتفاظ على مكانته داخل شبكات النفوذ، التي تتكون من الأحزاب السياسية، و النقابات، و الجمعيات الطلابية، و المصالح الخاصة، و الأسر الكبرى، والقبائل، و الضباط و الفقهاء و الشرفاء، و الموظفين السامين و الوزراء، أما المعارضة فلا تحتل مكانة داخل هذه الشبكات، حيث مثلها الأثرياء و المثقفون، و ليس الثراء أو الثقافة مقياسا للانضمام إلى النخبة، رغم أن الثقافة كانت ميزة النخب المتعلمة، في مقابل الجماهير الأمية، مما جعل النخبة السياسية طبقة مغلقة و أقلية منعزلة، خاصة و أنها الطبقة التي تلقت تعليمها داخل نظام نخبوي، إذ لم يتجاوز عدد المغاربة الذين اجتازوا امتحان الباكالوريا، بين 1912 و 1954 530 تلميذا[7]، أي أننا أمام  فئة ارستقراطية تحتكر الحقيقة والسلطة و الثروة، و يحركها مبدأ التنافس كمحور للحياة السياسية، حيث تؤدي العلاقات الموجودة بين الجماعات المكونة للنخبة، إلى توازنات سكونية تلتف حول زعيم أو عقيدة، و لعلنا نجد في الحزب المثال الأوضح لهذه السكونية، إذ لم تستطع هذه المؤسسة منذ نشأتها الحفاظ على تماسكها، دون الالتفاف حول الزعيم و الشخصية الكاريزمية، عوض الالتفاف حول برنامج أو إيديولوجيا، و ربما ذلك ما يفسر عملية التكاثر التي عرفتها الأحزاب في المغرب، رغم فقدانها لقدرتها على تحريك القواعد و تأطير الجماهير، لذلك لا يتردد رجال السياسة في استعمال العادات الاجتماعية التقليدية، من أجل الحفاظ على الأتباع و توسيع دائرته،" لقد سبق و رأينا كيف استعملت الصلاة للاحتجاج على الظهير البربري، و لجأ حزب الاستقلال إلى الأسلوب نفسه عندما طالب الوطنيين منحه جلود أكباش عيد الأضحى لسد عجزه المالي"[8]، من هنا لم تكن الأحزاب سوى الامتداد التاريخي لبنية القبيلة، و للمقولات و المفاهيم اللاهوتي مثل البركة، و العار، و ما إلى ذلك، بل امتزجت الدعوة الأيديولوجية بالدينية في الممارسة الحزبية، و ذلك منذ وقت مبكر من تاريخ المغرب المعاصر، فحزب مثل الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، لم يجد حرجا خلال حملته الانتخابية، في استغلال نفوذ الشيخ مولاي العربي العلوي، الذي أدان الدستور الجديد، أي البنيات القديمة ظلت سارية في السلوك السياسي المعاصر، في المغرب لم تكن القوانين و القيم الفرنسية أو الأجنبية، من محو المرجعيات التاريخية و الثقافية في السلوك السياسي، سواء لدى النخب أو لدى الجماهير الشعبية.
   أفرز الضغط الاستعماري على المخزن بنية سياسية، لم تكن مطابقة لاستراتيجيات الدول الاستعمارية تمام المطابقة، حيث توحد المخزن و الشعب من أجل استكمال السيادة، ليتخذ المخزن لاحقا المكانة المركزية داخل البنية السياسية، من خلال لعبه لدور الحَكَم في ظل الانقسامات التي عرفتها مراحل طويلة من تاريخ المغرب، أولا، ثم قيامه بوظيفة الزعامة أثناء المطالبة بالاستقلال، ليصير في مرحلة  ما بعد الاستقلال السلطة العليا في الدولة، و رمز السيادة و الوحدة الوطنية. يؤكد مركزية مؤسسة المخزن ممثلة في السلطان، حرص الدساتير المغربية على تحديد مكانته و وظيفته؛ فمنذ مسودة دستور سنة 1908 تتحدد مركزية السلطان ضمن البنية السلطة، تقرأ في الفصل السادس من هذه الوثيقة:" يلقب السلطان بإمام المسلمين و حامي حوزة الدين"، و في الفصل الحادي عشر منه:" باسم السلطان تضرب النقود و تخطب الخطب، و له قيادة الجيش الكبرى و إشهار الحرب و عقد الصلح، و إبرام المعاهدات مع الدول، و بمصادقته و إمضائه تعتبر تقارير مجلس الوزارة و تقارير منتدى الشورى وتنفذ أحكامها، و بمصادقته و إمضائه يعين موظفو الدولة كبارا و صغارا أو يعزلون، و له المكافأة و إعطاء النياشين و المجازاة، و له العفو عن المحكوم عيهم بالموت أو تبديل الحكم و تخفيفه، وهو الذي يمثل الأمة و الدولة معا أمام الدول الأجنبية"[9]، و يقرر دستور 1962 في فصله التاسع عشر ما يلي: " الملك أمير المؤمنين، ورمز وحدة الأمة، و ضمان دوام الدولة و استمرارها، و هو حامي حمى الدين، و الساهر على احترام الدستور، و له صيانة حقوق و حريات المواطنين و الجماعات"، أما دستور 2011 فينصص في فصله الأول على أن نظام المغرب ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية اجتماعية، لكنه في الفصل السابع حين حدد دور الأحزاب، منع قيامها على الدين أو العرق أو اللغة أو الجهة، كما منع أن يكون ضمن أهدافها المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي، أو بالمبادئ الدستورية، أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة، وهي العناصر التي تعتبر من الثوابت التي لا يمكن التطاول عليها، فالملكية حسب الدستور الجديد كما الدساتير القديمة، من الثوابت التي تنبني عليها الدولة المغربية، و تحتل مكانة المركز داخل بنية السلطة، حيث تحوم حولها باقي العناصر و المكونات. فماهي أهم التحولات التي طرأت على بنية السلطة في الدولة المغربية بعد الاستقلال؟



 Walter.B.Harris, Morocco That Was, william blackwood and sons, 1921, p122.[1]
 جرمان عياش، نفس المرجع، ص 145.[2]
 جعفر بن إدريس الكتاني، الدواهي المدهية للفرق المحمية، مخطوط خزانة المذهب المالكي، بدون تاريخ، ص 6.[3]
 جون ولتربوري، أمير المؤمنين الملكية و النخب السياسية المغربية، ترجمة ع. الغني أبو العزم، ع. الأحد السبتي، ع. اللطيف الفلق،مؤسسة الغني للنشر،ط 3 ،2013،ص56.[4]
 المرجع السابق، ص 121.[5]
 ثريا برادة، الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع العشر ص 345[6]
 جون ولتربوري، نفس المرجع،ص 136.[7]
 المرجع السابق، ص 141.[8]
 جريدة لسان المغرب، العد 55، الصادر بتاريخ 25 اكتوبر 1908.[9]

هناك تعليقان (2):