الفضاء العمومي عند التيارات الإسلامية في المغرب المعاصر
في ظل
الصورية التي يتسم بها العمل السياسي في المغرب، ظهرت ممارسات سياسية موازية خاصة
في ظل تطور وسائل التواصل وانتشارها، تمثلت في النقاشات المختلفة للشأن السياسي
على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى وسيلة لتعبئة الجماهير و تحريك الرأي
العام، ليتحول العالم الافتراضي إلى فضاء عمومي بديل، تجد فيه الحرية ملاذا أكثر
اتساعا من العالم الواقعي، حيث تُنتج الأفكار والمواقف السياسية بتعبيرات متنوعة
أدبية كانت أو فنية. من أجل إبراز الكيفية التي يتحول بها الشعب إلى كيان افتراضي،
والفرد إلى مواطن موسمي، يمكن تأمل وضع بعض التيارات الدينية في المغرب، وكيفية تعاطيها مع ما هو سياسي، خاصة
تلك التي لم تكن منخرطة فيه قبل سنة 2011، نقصد تحديدا التيار السلفي الذي كان همه
دعويا لمدة طويلة من الزمن، قبل أن يقرر بعض أتباعه الانخراط في العمل السياسي. ظلت السلطات المغربية، خلال الثمانينيات
والتسعينيات من القرن الماضي، تستخدم الورقة السلفية في مواجهة تيارات سياسية
ومذهبية أخرى؛ وخصوصًا في محاصرة انتشار جماعة الصوفية الأكثر انتشارا في المجتمع،
التي كانت تستمد توهجها من زعائمها الروحين وشيوخها، لاسيما بعد تمرد أحدهم على
الحاكم في خطبه أو رسائله، التي تتمحور حول ضرورة العمل بالشريعة الإسلامية، وإلا فإن
مصير الحاكم و البلاد سيكون الهلاك. امتد تسامح السلطات مع السلفيين سنوات كثيرة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات،
إلى أن أعلنت الولايات المتحدة الأميركية الحرب على "الإرهاب" سنة 2001،
حيث تجندت السلطات للبحث بين المنتسبين إلى الحركة عن إرهابيين يشكّلون خطرًا على الأمن
داخل البلاد وخارجها، وأظهرت الاعتقالات بُعيْد تفجيرات
الدار البيضاء سنة 2003 نوعية الطبقة الاجتماعية التي ينتسب إليها الشباب السلفي المؤمن
بفكرة الجهاد ضد "الطاغوت"، والحكم بشريعة الله؛ فأغلبهم داخل السجون
وخارجها، رغم عدم وجود إحصائيات رسمية تثبت ذلك، ينتمون إلى أسر فقيرة ومن ذوي
الدخل المحدود ويعمل معظمهم، خاصة من الأتباع وطلبة العلوم الشرعية، في مهن بسيطة
غير نظامية، لاعتقادهم بأن الاشتغال في القطاع الرسمي "مشبوه"، قد يصل إلى
"الحرام" عند بعضهم. ولأن هذه المهن تتيح لهم هامشًا من الحركة والاجتماع،
بما أنها لا تفرض نظامًا يوميًا ملزما، وتساعدهم بالتالي على توفير أوقات للأنشطة
العقدية، خاصة أن عددًا منهم ينعزل في
مجموعات تكاد تكون أشبه بالطوائف المغلقة التي يصعب اختراقها. وتنتشر طوائفهم بمختلف
حركاتهم وتياراتهم، في الأحياء الفقيرة والهامشية للمدن، وهذا لا يعني عدم وجود
أغنياء بينهم.
بل و إن كانوا قلة فإنهم يساهمون ماديا لدعم الحركة.يمكن توزيع السلفية جغرافيا في المغرب،
بالمدن التي أصبحت تُعرَف بكونها "معاقل" للوهابية المغربية؛ فمدينة
مراكش، مثلاً، اشتُهرت بكونها معقلاً رئيسيًا للوهابية التقليدية، باعتبارها مقر
أحد زعمائهم الكبار المعروف بأنشطته في دُور القرآن، بينما تُعرف مدينة طنجة،
مثلاً، أو تطوان أو سلا، بكونها مدنًا تكثر فيها الطائفة ذات التوجه التكفيري.
بعد المحاكمات والاعتقالات التي حدثت في صفوف المنتسبين، بدأت في أوساط التوجه التكفيري بعض "المراجعات" الفكرية التي باشرها
عدد من مشايخهم ورموزهم، خاصة بعد الجلسات والحوارات بين الدولة وبين سلفي السجون.
وقد تم تقسيم المعتقلين إلى أصناف ثلاثة: الأول: بريء من تهمة العنف والإرهاب، وعلى
رأسهم مشايخ الوهابية التكفيرية، والثاني: نهل بالفعل من الأفكار المتشددة، فوجبت
مقارعته بمقاربة فكرية وإيديولوجية؛ فيما تورط أعضاء القسم الثالث في الدماء،
فلزمت محاكمتهم.وفي 2011،أتيحت للتيار الوهابي الذي تخلى عن العنف، فرصة دعمت مركزه، بعد إقرار دستور
جديد وفوز حزب من مرجعية إسلامية بالأغلبية، وقيادته لأول
حكومة شملت ائتلافا مع أحزاب يسارية ويمينية.ثم مطالبة الشارع عبر حركة 20 فبراير
بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين و الإسلاميين ،فتقوت حجة السلفيين داخل السجون؛ لتوافق
السلطات المختصة على إطلاق سراح عدد منهم رغم عدم إتمام مدد العقوبة، حينها استفاد
عدد من مشايخهم كذلك. وفي المقابل حرص التيار السلفي "التقليدي"،على عدم الخوض في المعارك السياسة
قدر الإمكان، باستثناء المشاركة لأول مرة في عملية التصويت على الدستور بالإيجاب لأن
من الوجوب طاعة ولي الأمر. أما الطائفة المفرج عنها فامتدحت الثورات العربية، بما
فيها الحراك الاجتماعي بالمغرب، كونها كانت سببًا حاسمًا في إطلاق سراحهم من
السجون والمعتقلات، ولأنها ثورات رفعت الإسلاميين إلى قمة السلطة بعد أن كانوا
مضطهدين في بلدانهم، كما في تونس ومصر. ولم يترك التيار الجهادي، خاصة رموزه ومشايخه
الذين جرّبوا السجون، هذه الفرصة تمر دون الإشادة بالثورات العربية التي أزاحت،
حسب رأيهم، "ظلمًا وجورًا كبيرين كانا جاثميْن على صدر الشعوب الإسلامية
والعربية"، ثم ردوا جميل هذه الثورات بمحاولة حضور الندوات والمؤتمرات التي تقام
في تلك البلدان من طرف جهات إسلامية، سلفية أو غيرها، فزاروا تونس ومصر من أجل
تبادل الآراء ووجهات النظر مع النشطاء الإسلاميين،ولا يُخفي بعض أبرز وجوه السلفية بالمغرب، تأييدهم للثورات العربية،
ومباركتهم للأنظمة التي جاءت بها رياح الربيع العربي، كما أشادوا بالتصويت على مرشح
بمرجعية دينية رئيسًا لمصر باعتباره "أول رئيس أنتجته الثورات العربية بإرادة
شعبية". في المقابل، لم يُصرح التيار السلفي التقليدي بمواقف علنية من
الثورات العربية، لكنه أصبح بعد الربيع العربي أكثر احتكاكا مع القضايا السياسية
المحلية والدولية الكبرى، وذلك على غير عادته؛ فشارك في التصويت على الدستور سنة
2011[1]،
كما ترك الهامش واسعًا أمام أتباعه للتصويت في الانتخابات التشريعية في السنة
ذاتها لفائدة مرشحي حزب المرجعية الدينية.
بعد مرحلة الاعتقال، ومع بداية الثورات العربية ، تغيرت مواقف التيار الوهابي التكفيري بشكل كبير إزاء
التيارات والمكونات الإسلامية الأخرى بالمغرب، من جماعات وحركات إسلامية، جماعات صوفية
أو حركات إصلاحية أو أحزاب تنهل من الدين في العمل السياسي؛ فصار أكثر نزوعًا نحو
التوافق عوض الصراع، وبرزت لديه فكرة
الحوار مع التيارات الإسلامية الأخرى بدلاً من السجال والجدال. ومن كان منهم قبل
سنوات قليلة سوطًا مسلطًا على الآخر، يتهمه بالموالاة للتيار الوهابي بالسعودية
وتلقي الأموال، ويلمزه في سمعته، أصبح متغير الحال وانقلبت مواقفه بشكل كبير ليتحدث باحترام عن عدو الأمس ورموزه. ظهرت أرضية مشتركة تحث
على المضي في طريق الإصلاح، وتطلب من جماعة صوفية نشطة الجلوس للحوار لمصلحة
البلاد.فحصل
تقارب بين التيارات ذات المرجعية الدينية ،وأصبحت مطالب مشتركة بين التيارات التي
كانت متصارعة، بغض النظر عن الخلافات الفكرية والعقدية، لقد أدت هذه المتغيرات في
مواقف التيارين السلفيين في علاقتهما ببعضهما،
ومع التيارات الإسلامية الأخرى، إلى توجيه وهابيات المغرب نحو التخلي عن التكفير،
والنظر إيجابيًا إلى العمل السياسي ورفض العنف. لم يعد أي من التيارين الجهادي
والتقليدي يرفض بالمطلق العمل السياسي، وإن كان الأول يسعى نحو المشاركة السياسية
والجماعية، حيث انتظم بعض رموزه في جمعيات، وانضم إلى أحزاب سياسية، فيما ظل بعضهم
يتحدث عن تأسيس جمعية دعوية بنَفَس سياسي لتتحول بعد ذلك إلى جمعية سياسية بنَفَس
دعوي. أما البعض الآخر فلا يزال على موقفه الذي لا يرى جدوى من الانخراط في
الجمعيات والأحزاب. في المقابل، ركز التيار التقليدي على تحصيل العلم الشرعي.
يلتقي هذا التحول مع تقليد طبع تعامل السلطة المغربية مع التيار
الإسلامي عمومًا والوهابي على وجه الخصوص، يتمثل في تغليب سياسية الاحتواء
والإدماج على سياسة المواجهة والصدام. وتعزز هذا الاتجاه مع اختيار النظام المغربي
نهج الإصلاح بعد احتجاجات حركة 20 فبراير، التي طالبت في سياق الثورات العربية
بالديمقراطية والقضاء على الفساد، لذلك فإن الاتجاه الغالب الذي
سيطبع مستقبل السلفيين في المغرب هو الاندماج بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات على
خطابهم وهياكلهم حيث سيميلون إلى تغليب الطابع الوطني على حساب البعد الأممي. رغم ذلك تظل الرؤية التبديعية عائقا أمام قبول الاختلاف الفكري ،التي تستند
إلى مجموع من التأويلات للنص الديني. فهل من حديث في ظل هذه النزعة الإقصائية لهذه
الحركة عن مفهوم الفضاء العمومي؟
إذا كان الفضاء العمومي مجالا للفعل والتعبير
والحرية ، ومعاني الكونية والشمولية ، فإنه يتخذ في الفكر الإسلامي عامة، والسلفي
خاصة دلالات مغايرة، بل ومناقضة للتحديدات السابقة؛ فكما تبين سالفا يمثل الفضاء
العمومي مجالا لممارسة الحرية بالفعل، بل تفقد الحرية كل المعاني حين تبتعد عن
الجماعة في تفاعلها مع واقعها سياسيا أو اقتصاديا، إنه المجال الذي تحول إلى فضاء
اجتماعي تلتقي فيه الحريات وفق قواعد تجعل من القول والفعل ممكنين، باعتباره مجالا
للتداول وللتصرف للجميع وليس لفئة أو نخبة محددة، بل يصبح هذا الفضاء كونيا في بعض
تصورات الفكر الغربي. ومهما تكن الاختلافات التصورية للفضاء العمومي في هذا الفكر،
فإنها تُجمع على مقولات متشابهة، مدارها الحرية والديمقراطية والتداول والتواصل
والحوار، وما إلى ذلك من المفاهيم المؤطرة
لهذا الفضاء؛ وبالتالي يتحقق نوع من الاعتراف المتبادل بين الفاعلين، لتتحقق إمكانية
التأثير في العالم وفي الحياة، فعوض الصراع والإقصاء والنبذ، يسود التواصل
والاختلاف. رغم وجود أصوات فكرية متشبثة بالخلاف عوض الاختلاف، كما هو الحال عند
فرانسوا ليوطار، فإن الواقع الغربي أكثر ميلا إلى الاختلاف والحوار، وتحقيق المتوافقات
والتوازنات. من هنا يصدر سؤال جوهري لابد من طرحه: كيف تتمثل التيارات السلفية في
المغرب هذه المفاهيم المؤسسة للفضاء العمومي؟ هل الحرية التي تتحدث عنها التيارات الأخرى، هي نفس الحرية التي يطالب بها نشطاء هذا التيار؟ وهل يمكن لهذا الأخير أن يدبر مسألة
الاختلاف، خاصة بعد تقريب المسافة بينه وبين باقي التيارات الإسلامية ضمن المشهد
السياسي المغربي؟ لكن سرعان ما يظهر الإحراج حين يتعلق الأمر بالمكونات التي لا
تنهل من المرجعيات الدينية، بل تلك التي تصل إلى حدود معاداة كل أشكال تديين السياسة، فكيف ينظر التيار السلفي
بقسميه إلى الأحزاب الليبرالية والاشتراكية...وإلى الجمعيات الحقوقية المتشبعة
بالقيم الحداثية؟ وهل تتلاءم هذه القيم مع مقومات المجتمع المغربي؟
لابد من معرفة طبيعة الخطاب والفعل الذي يتبناه هذا التيار،
إذ بمقاربة هذه الإشكالات يمكن تحديد تصوره للفضاء العمومي المغربي. إذا كان هذا الأخير
في الفلسفات الغربية ميدانا واقعيا أو افتراضيا تحدث فيه مجموعة من التفاعلات بين الذوات، غايته
بناء المشترك الإنساني حيث يمكن للجميع التعبير والتصرف ضمن أخلاقيات محددة وأعراف
مضبوطة، فهل يتم فعلا الالتزام بهذه الأخلاقيات في الحوارات والنقاشات بين الأفراد
والجماعات داخل المجتمع المغربي؟ وكيف يتم توزيع السلطة داخل فضائنا العمومي في علاقة السياسي بالديني؟
إن المشترك في تصور المجال العمومي عند
الحركات الإسلامية بالمغرب غير وارد، بل يستحيل الإجماع حول تحديد الفضاء العمومي،
لذلك يمكن تصنيف هذه الحركات إلى ثلاث أساسية: أولها الطائفة التي ترفض جملة
وتفصيلا كل عمل سياسي وهي بذلك جماعة منفعلة لا معنى لها في تحديد الفضاء العمومي،
الطائفة الثانية تؤمن بالخيار المسلح وبالعنف كوسيلة لإقامة دولة الخلافة، أما
الطائفة الأخيرة فتصالحت مع الممارسة السياسية بعد مراجعات فكرية، والواقع أن هذه
الطائفة الأخيرة هي فئة كانت تنتمي إلى الطائفة الثانية، لكنها تراجعت عن مجموعة
من الأفكار، خاصة تلك المتعلقة باستخدام العنف. أما الحركات الإسلامية الأخرى
فموزعة بين مشارك في السياسة فعليا وتحصل على نصيبه في السلطة، بعد قبوله بالقواعد السياسية على النمط الحداثي، وبين طامح إلى شغل مكانة داخل الحقل السياسي، وبين
معارض محتج على السياسة في البلاد تمثله بعض التنظيمات المحظورة، التي تتخذ من
الفضاء العمومي أرضية للاستقطاب، شأنها في ذلك شأن باقي التيارات الدينية، بما
فيها التيار المنفعل الذي يعتزل السياسة، ويحرم على أتباعه التظاهر والاحتجاج في
الشوارع والساحات العمومية، لأن ذلك عندهم دعوة صريحة للفتنة والخروج على ولاة
الأمور، وسبب لبداية الفوضى وإراقة الدماء ونهب الممتلكات والاعتداء على
الحرمات...في مقابل هذا الانسحاب من الفضاء العمومي في شقه السياسي، وتلك
الانفعالية السياسية السلبية، يفعل هذا التيار في الحياة العامة عبر التربية، والتنشئة الاجتماعية، والأنشطة الفكرية، حيث تنشر تعاليمها وترسخ منطلقاتها لدى
شريحة اجتماعية عريضة، تنتمي في الغالب إلى فئات عمرية بين الطفولة والشباب، يمثل
المجال العمومي عند هذا التيار إذن، مجال الدعوة إلى مجموع المبادئ التي تفسر كل الظواهر
تفسيرات مطلقة، وتدعي امتلاك الحقيقة النهائية واليقين الأقصى، ولهذا الادعاء
انعكاسات سلبية على الفضاء العمومي بوصفه عائقا أمام تحقيق التوافق؛ لأنه لا يمكن
إقناع من يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا يمكنه التراجع عن أفكاره إلا نادرا. تلتقي السلفية
العلمية أو الدعوية مع شقيقتها التكفيرية في استخدام الفضاء العمومي كمجال للدعوة.
ما هي إذن الدعوة ؟ وكيف تفعل فعلها في الفضاء العمومي المغربي؟
الدعوة رسالة عند تيارات السلفية يلزم
تبليغها والمحافظة عليها، وهي جملة من المبادئ والمرتكزات التي ينبغي الخضوع إليها
بشكل فردي و جماعي، وأهم المبادئ الدعوية التي تنطلق منها مبدأ: الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، لأنه مبدأ يفرض الاحتكاك بالواقع والتأثير فيه، كما يحمل
تصورا للفضاء العمومي كمكان مَوْبُوء ينبغي تطهيره من المنكر والفساد. في تطبيق
هذا المبدأ اختلفوا؛ بعضهم يرى أن تطبيقه واجب بالنصيحة والموعظة وبالجدال الحسن،
بينما يرى البعض الآخر أن تطبيقه رهين باستخدام العنف والتخويف حتى يسير الناس على
الطريق القويم . هناك والحالة هاته إمكانية للحوار والنقاش يتيحها أصحاب الموعظة
والجدال الحسن مع المختلفين، لكن بنفس استعلائي لمن يمتلك الحقيقة ويسير على خطى
الحق. الفضاء العمومي إذن مجال للدعوة وهو بذلك مجال للعبادة، فيه تسود وحدة
تطابقية مغرقة في التمسك بالظاهرية، التي تفرز تدينا نمطيا تفترض أنه الشكل الصحيح
، الذي يجب أن يسود وينتشر عبر التلقين الإيديولوجي والتصلب المذهبي، المؤمن بأن الإسلام فاقد لنقائه
و صفائه في الواقع، هذا ما يحول الفضاء العمومي إلى مجال لإعادة سيطرة الدين على
كل مناحي الحياة، فيصبح مجالا لتحقق نزعة دينية استعراضية تتشبث بالممارسة
العيانية للعقيدة، وتؤكد على الاستقامة الفردية قبل الفعل الاجتماعي، إنه مجال
لتطبيق الشريعة سواء بالتدرج أو بغتة ، وبما أنه كذلك فلابد أن يكون أرضية
للاستقطاب ولتشكل الطوائف الجزئية التي تغذي الطائفة الأم، وبالتالي فهو الفضاء
الذي يجب أن يتحقق فيه التماهي والتشابه عوض الاختلاف والتنوع؛ يبرز هذا التماهي
أولا في وحدة المظهر وتميزه عن السائد؛ هناك سَمْت خاص بالرجال وآخر بالنساء
يتشابه فيه الكل. ثانيا في وحدة الخطاب وتشابه الأسلوب القولي والمعجم التداولي
الذي ينحل في كل تفاصيله من الفكر الديني. ثالثا وأخيرا، تظهر هذه الوحدة في الأسماء
المميزة لأعضاء الطائفة عن غيرهم؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم خاصة ويطلقون على الغير مسمى:
العامة أو العوام. إذا كان الاسم عند اليونان عنوانا لخصوصية الفرد واستقلاله،
فإنه عند السلفية خصوصية جماعية إن لم نقل طائفية. أما علاقة المرأة بالفضاء
العمومي عند هذه الطائفة فواضح لا لبس فيه، إنها علاقة غياب وانسحاب تام من الفعل
السياسي، لأن المكان الملائم للمرأة هو الفضاء الخاص الذي لا يجوز لها مغادرته،
و إمكانية تحركاها محدودة ومشروطة بشروط عدة، والحضور الخارجي الخافت لا يكون إلا
لأغراض حياتية أو دعوية، حيث لا يوجد من ينشر الدعوة بين النساء سوى النساء. إن
الامتثالية المفروضة على النساء وإن كانت أكثر حدة، فإنها لا تختلف في ماهيتها عن
تلك المفروضة على الرجال، الذين تظل مشاركتهم السياسية خافتة بتصورهم العقدي
للفضاء العمومي، وهذا الأخير لا يعدو كونه إمكانية واقعية لتحقيق الأفضل والأمثل،
عبر العودة إلى الحل الوحيد و الأوحد المتمثل في العودة إلى فكر ديني مخصوص، بوصفه
المعيار الحاسم الذي لا يحدد تصور الفضاء
العمومي فقط، بل حتى الفضاء الخصوصي يتحدد من خلاله.
لعل العودة إلى هذه الطائفة في تحديدها
للفضاء العمومي، طريق إلى فهم كيفية اشتغال البنية الدينية في الحقل السياسي، ولمجموع
التحالفات الممكنة بين المكونات الاجتماعية، سواء بين الجماعات ذات المنزع الديني ، أو بينها وبين الجماعات ذات المنزع الحداثي[2].
ولعل من أسباب التفكير في هذه الطائفة عودة الديني في العالم المعاصر بقوة أكثر،
إذ أصبحت الجماعات الدينية أكثر قدرة على الانتشار من ذي قبل، نتيجة للتطور التقني
في مجال الإعلام والتواصل، قد يكون هذا الانتشار مبررا بأسباب سياسية، يمكن استجلاؤها
في فشل السياسات القائمة على تحقيق تطلعات الناس، والوفاء بالوعود، و كانت سببا في
حصد الأصوات، مما ولد حالة من انعدام الثقة بين الناس ومن يمثل سياستهم، أو بأسباب
اقتصادية تجعل من الفقر المفتاح الذي يفسر عودة وانتشار الفكر الديني. ومهما يكن،
تبقى هذه الطائفة مكونا أساسيا من مكونات المجتمع لابد من اعتباره في تحليلنا
للبنى السياسية في مجتمعنا المغربي؛ إنها قوى النفي المعاكسة التي تلعب دورا حيويا
في حركية التاريخ والمجتمع. كما أنها مثال حي لتحقق موسمية فعل المواطنة، الذي
يمكن تأطيره بأي إيديولوجية كانت، دون ضرورة كونها متشبعة بقيم المواطنة، فالولاءات داخل
المجتمع لا تمر عبر التنظيمات السياسية، لذلك تصير الممارسة السياسية صورية منفصلة
عن الواقع، و تصبح للشعب صفة افتراضية علاقتها بالواقع ملتبسة.
[1] عبد الحكيم أبو اللوز، الحركات السلفية في
المغرب بحث انثروبولوجي سوسيولوجي، مركز دراسات الوحدة بيروت، الطبعة الثانية 2013
، ص 400 .
[2]
رشيد مقتدر، الإسلاميون دراسات في السياسة والفكر، المركز الثقافي العربي، الطبعة
الأولى 2013 ، ص 196 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق